د.مسعود ناجي إدريس ||
• سؤال: ما هي خصائص الحياة الطيبة التي ينعم بها الإنسان ؟
• جواب: نظرا لأهمية سؤالك والحاجة إلى توضيح بعض الموضوعات المهمة ذات الصلة قبل إجابتك سنقوم بتقديم بعض المقالات كتحضير ومقدمة للموضوع المذكور في السؤال.
أ) ماهية الحياة الطيبة:
الأسرار القرآنية والحقائق العرفانية الخاصة "بالحياة الطيبة" لأولياء الله مذكورة بوضوح في آية واحدة فقط في القرآن ولكن تم التطرق إليها في عدة مواضيع في القرآن الكريم . إن الحياة الطيبة التي أنعم بها الله على اولياءه خالية من كل فساد وشر وظلم وقبح فلا مكان لهذه الأمور في حضور هذه النعمة وفي موضع القرب من الله تعالى. "الحياة الطيبة" مذكورة في الآية 97 من سورة النحل؛ «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مَن ذَکَر أَوْ أُنثَی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیینَّهُ حَیاةً طَیبَةً وَلَنَجْزِینَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا کَانُواْ یعْمَلُونَ »
هذه المكافأة جاءت نتيجة الاعمال التي قام بها الرجل والمرأة والتي تسمى العمل الصالح والمشروط بالإيمان مما ينتج عنه "الحياة الطيبة". حياة خالية من الخسران والأحزان التي تجعلها مليئة بالتعاسة الخوف. الحياة الطيبة لها معاني واسعة. حياة بعيدة عن أي قلق ومرارة ، حياة مليئة بالرضاء وخالية من المحرمات ، حياة فيها الروحانية والإيمان والإحسان للخلق ، حياة بعيدًا عن الغفلة والمعصية والنسيان. يجب أن تكون هذه السعادة مبنية على الوحي الإلهي واجتناب فتن الشيطان لأن إبليس لا تأثير له على المؤمنين.
.ب) المعاني المختلفة للحياة الطيبة:
عبّر المفسرون عن آراء مختلفة حول "حياة طيبة". وقد ذكر المرحوم الطبرسي في التفسير الكبير لمجمع البيان بعضًا منها على النحو التالي: من معاني الحياة الطيبة هي الرزق الحلال؛ الحياة الكريمة المطمئنة والرضا. جنة في قمة الجمال وحياة سعيدة في الدنيا والآخرة؛ إضافة إلى كل ما ذكر هي جنة الإنسان في البرزخ. (تفسیر مجمع البیان، ج ٧، ص ٧٣٤٧٣٥)؛
يعتبر البعض الآخر أن الحياة الطيبة هي: إضافة "العبادة مع الرزق الحلال" و "التوفيق في طاعة أمر الله وما شابه ذلك"... (تفسیر نمونه، ناصر مکارم الشیرازي، ج ١١، ص ٣٩٤). ومرة أخرى نقرأ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام:«و سئل عن قوله تعالی فلنحیینه حیاه طیبه» فقال هی القناعة» (نهج البلاغه، الکلمات القصار ٢٢٩).
هنا لا بد أن نوضح نقطة مهمة جدا وهي تعبير أمير المؤمنين عن الحياة الطيبة لا يقتصر على القناعة، بل هو مثال واضح على ذلك، لأنك إذا أعطيت الدنيا وما فيها لشخص ما، وسلبت منه روح القناعة، سيظل يعاني من القلق وعدم الراحة دائمًا. وعلى العكس من ذلك، إذا كان لدى الشخص روح راضية وتجنب الجشع والطمع، فسيكون دائمًا مرتاح وسعيد (تفسير نمونة، المجلد 11، الآية 97 من سورة النحل). على أي حال، فإن الحياة الطيبة لها معاني واسعة لدرجة أنها تشمل جميع المعاني المذكورة أعلاه.
للمرحوم العلامة الطباطبائي تفسير عميق وممتاز عن "الحياة الطيبة" يقول في شرحه للآية 97 من سورة النحل المباركة: " إحياء " تعني إعطاء الحياة، وهذه الآية المشرفة تدل على أن الله -سبحانه وتعالى- يكافأ الشخص المؤمن الذي يقوم بالأعمال الصالحة ويكرمه بحياة جديدة تختلف عن الحياة المعتادة للناس ويعطيه البصيرة والمعرفة والقوة، لترافق وتتزامن مع هذه الحياة الجديدة. هذا الفهم والقوة الجديدان يجعلان مثل هذا المؤمن يرى الأشياء كما هي؛ أي أنه يمكنه التفريق بين الشؤون والأشياء والتفريق بين الحق والباطل. ثم يبتعد بقلبه وروحه عن الأشياء الباطلة المعرضة للهلاك والفساد، وهي حياة الدنيا، ويدير ظهره لها، ولا يعلق قلبه على الزينة والمظاهر الخادعة، ولأنه تمكن من فك قيده بهذه العلاقات الدنيوية والمظاهر الخادعة فقد أخرج البغض والغفلة من قلبه ولن يستطيع الشيطان أن يذلّه ويربطه في سلسلته.
من ناحية أخرى قلبه وروحه مرتبطان بالله دائما، ولا يطلب شيء سوى جوهره النقي وقربه، ولا يخاف شيئًا إلا من غضبه وبُعده عنه، وعلى هذا الأساس لديه حياة نقية لنفسه ويوقن بأن مدير هذه الحياة وسيد شؤونها هو ربه الرحمن والرحيم، وخلال هذه الحياة الروحية والنقية لا يرى سوى الجمال. ويرى القبح فقط في الأشياء التي اعتبرها الله قبيحة ومثل هذا الشخص يجد مثل هذا النور والكمال والقوة والكرامة والسرور والسعادة في حياته ويلاحظ أنه لا نهاية لها. (تفسیر المیزان، علامة طباطبایی، ج ١٢، ذیل الآیة ٩٧ النحل).
ج) أسس وطرق تحقيق الحياة الطيبة:
للحیاة الطیبة اساسين راسخين: «الایمان» و «العمل الصالح»؛ «من عَمِلَ صالحا مِنْ ذکرٍ أو أُثنی و هو مؤمن فَلنُحیینَّهُ حیاةً طیّبةً» (النحل/ ٩٧).
«و الّذین إذا أنفقوا لَم یُسِرفوا و لم یقتُرُوا وَ کانَ بَینَ ذلک قواما » (الفرقان/ ٦٧)؛ هذا الاعتدال والاقتصاد يعني التخطيط للحياة في الإنفاق الذي يعتبر في كل من المجتمع والأسرة ؛ سواء من قبل الفرد أو من قبل الحكومة الأساس لتحقيق حياة كريمة وعند تحقيقها يجلب سلام عقلي وروحي أبدي للانسان.
في نفس الآية بالإضافة إلى الأعمال الصالحة تتطلب الحياة الطيبة الإيمان أيضا. بالطبع، الإيمان الحقيقي يؤدي إلى الأعمال الصالحة، والعمل الصالح أيضًا يزيد الإيمان. فكل خطوة يخطوها المؤمن في سبيل القيام بالأعمال الصالحة تضيف إلى إيمانه، وتتبع الزيادة في الإيمان النمو الروحي والتطور في القيام بالأعمال الصالحة. معيار الحياة الطيبة هو الإيمان والتسامح والجهاد ضد الأهواء النفسانية.
إضافة إلى ذلك من الأسس الراسخة للحياة الطيبة هي الصبر والاستقامة في طريق الله «مَا عِنْدَکُمْ یَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِینَّ الَّذِینَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا کانُواْ یعْمَلُونَ» (النحل/ ٩٦)؛ لأن الصبر والتسامح أساس العزم القوي والفعال في محاربة النفس.
د) الحیاة الطیبة، مقابل الحیاة المادية في الدنیا:
تتناقض حياة طيبة مع الحياة المادية للدنيا وبالأخص إذا كانت تحت سيطرة الشيطان. الحياة الدنيوية بسبب هيمنة الرغبات والشهوانية، تحبس الإنسانية في خيوط العنكبوت.
في هذه الآية القرآنية قدم الله تعالى ثواب وأجر الحياة الطيبة في تقوى الله:«وَ لاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِاللّهِ ثَمَناً قَلِیلا إِنَّمَا عِندَاللّهِ هُوَ خَیرٌ لَکُمْ إِن کُنتُمْ تَعْلَمُونَ »(النحل: ٩٥). في هذه الآية الكريمة موضوعان ضد بعضهما البعض: واحد «ثمن قلیل» و الثاني «ما عنداللّه». «ثمن قلیل» وصف الدنيا بعنوان متاع و بتأکید اكبر عبر عنه في الآیه بعبارة «متاع قلیل»: «قُل مَتَاعُ الدُنْیا قَلیلٌ »(النساء/ ٧٧) وأحيانًا يقارنها بطول مدة الآخرة والخلود فيقول:«فَمَا مَتَاعُ الْحَیاةِ الدُنْیا فی الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِیلٌ » (التوبة/٣٨) ويحذر من أن إيذاء النفس ، نتيجة للعب لن ينتفع فيه الانسان حيث يقدم القرآن الحياة الدنيوية التي تعارض الحياة الطيبة (كلعبة): «وَ مَا هَذِهِ الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ» (العنکبوت/ ٦٤).
و) بعض ملامح الحياة الطيبة عند الله:
١. حياة حقيقية: من دخل عالم "عندالله" ذاق طعم الحياة الحقيقية في حضرته:«بَلْ أَحْیاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ یرْزَقُونَ »(آل عمران/١٦٩).
٢. الخير الشامل لكل شيء في الدنيا والآخرة: حياة لا "نهاية" للخير فيه وهذا الخير لا يقتصر على حياة الدنيا ولا يقتصر على حياة الآخرة ؛ بل يرزقه الله خير الدنيا والآخرة :«فَعِندَ اللّهِ ثَوابِ الدُنیا وَ الاخرَةِ »(النساء/١٣٤).
٣. الخلود: ثمر الحياة الطيبة خالدة ودائمة ، ولا يوجد فيها هلاك وبلاء. قال الله تعالى في قرانه الكريم:«وَ ما عِندَاللَّهِ خَیرٌ وَ أَبْقَی » (الشوری/ ٣٦).
٤. اللامحدودية: المصدر اللانهائي لكل شيء هو عند الله «وَ إِن مِن شَیء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ » (الحجر/٢١). لهذا السبب ، كل من دخل ذلك العالم واراد شيء فهو متاح له ولا حدود لعطاء الله سبحانه وتعالى ؛ «لَهُم مَا یشاءونَ عِندَ رَبِّهِم »(الزمر/ ٣٤) وفي اية اخرى قال: «لَهُم مَا یشاؤُون َفیهَا وَ لَدَینَا مَزِیدٌ » (ق/٣٥).
٥. المعيار والقياس: بما أن الحياة الطيبة تعتبر المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى الكمال الإلهي الأقصى، فإن امتلاكها في هذا العالم هو المعيار والقياس للكمال؛ « ذَلِکُمْ أَقْسَطُ عِندَاللّهِ » (البقرة/ ٢٨٢) أو «هُوَ أَقْسَطُ عِندَاللَّهِ » (الأحزاب/ ٥).
٦. مظهر الآيات الإلهية: عالمك هو المظهر الواضح للآيات الإلهية. كما قال تعالى؛ (إِنَّمَا الآیاتُ عِندَاللّهِ ) (الأنعام: ١٠٩/ العنکبوت: ٥٠)؛
٧. العلم: "العلم" في أدب القرآن هو معرفة الله وآياته وحكمته: «إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَاللَّهِ ».
٨. النور: النور الذي به يجدون طريقهم إلى عالم عند الله والحياة الطيبة، ويصل إليها من هم طهروا قلوبهم وأرواحهم، وتحرروا من كل تعلق وسواد، وصاروا مثل الماء الزلال؛ «وَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُوْلَئِکَ هُمُ الصِّدِّیقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ» (الحدید/ ١٩). « أَ وَ مَن کانَ مَیتاً فَأَحْیینَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً یمْشِی بِهِ فِی النَّاسِ کَمَن مَثَلُهُ فِی الظُّلُمَاتِ لَیسَ بِخَارِج مِنْهَا» (الانعام/ ١٢٢).
٩. الموقف الصحيح: الموقف الصحيح والثابت لأهل الحياة الطيبة: «فی مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَلِیک مُقْتَدِر» (القمر/ ٥٥). هم الذين وجدوا الطريق الصحيح، ووصلوا إلى المكانة الصحيحة، وعاشوا مع الحق.
١٠. الطاعة: أولئك الذين يجدون طريقهم إلى عالم "عند الله" يعتبرون وجودهم كله ملكًا لله ، ويخرجون الاستقلالية والتكبر من تفكيرهم وسلوكهم ؛«وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ یسْتَکْبِروُنَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ یسْتَحْسِروُنَ »(الانبیاء/ ١٩).
١١. الكرامة: أهل الحياة الطيبة ، لأنهم دخلوا عالم "عند الله" ، فإنهم يتمتعون بمصادر دعم لا نهاية لها للوصول إلى القدرة والأصول الإلهية. لذلك ، تحدث لهم أحداث غير عادية تسمى "الكرامة" وبما أنها لا ترتبط بادعاء النبوة ، فلا يمكن تسميتها "معجزة" ؛ لأن المعجزات للأنبياء.
١٢. النصر: أصعب وأخطر المعارك التي يواجهها الإنسان هي حيث يتكاتف الشيطان والأهواء الجسدية ويسحب القلب إلى الغفلة عن الله والتعلق بالدنيا. في هذا الوقت وحده الله سيكون الناصر والداعم للإنسان: «وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِاللّهِ »(آل عمران/١٢٦).
١٣. رحمة خاصة: إن لله تعالى رحمة عامة وشاملة ينعم بها جميع المؤمنين وغير المؤمنين على السواء. لكن رحمته الخاصة مرتبطة بعالم "عند الله". لهذا السبب ، لا يستفيد منه إلا أهل الحياة الطيبة. قال عن خضر (ع):«آتَیناهُ رَحمَةً مِنْ عِنْدَنا »(الکهف/٦٥). أو عن لسان نوح عليه السلام: «وَ آتَانِی رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ» (هود/ ٢٨).
١٤. اللقاء مع الله: أفضل ثمر للحياة الطيبة التي يتمتع بها اولياء الله في عالم "عند الله" هو اللقاء مع رب العالمين:«فَمَن کَانَ یرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْیعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلَا یشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً »(الکهف/ ١١٠).
١٥. السعادة والسلام الداخليان: أثر آخر للحياة الطيبة هو السعادة الداخلية والسلام الذي قال عنه الله تعالى في القرآن في وصف أولياء الله وأهل الحياة الطيبة:«اَلا اِنَّ أَوْلِیاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَیهِمْ وَ لاَ هُمْ یحْزَنُونَ الَّذینَ آمَنُوا وَ کَانُوا یتَّقُونَ »(یونس: ٦٢ـ٦٣). وفي آية أخرى يقول:«مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْیوْمِ الآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَیهِمْ وَ لاَ هُمْ یحْزَنُونَ »(المائدة: ٦٩).
١٦. ذكاء وبصيرة: من بين الأعمال الأخرى للحياة الطيبة ، الذكاء والرؤية الفائقان اللذان جعلا باطن الكون وملكوت الأرض والسماء واضحة ومرئية لكبار المؤمنين. هذه القوة البديهية والبصيرة مستمدة من نور الله الذي أشرق على قلوبهم وجعلها عميقة وواسعة ، ونتيجة لذلك ، وصلوا إلى النور الداخلي وابتعدوا عن الظلمة الخارجية ووجدوا حياة أخرى:«یا أَیهَا الَّذینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ یؤْتِکُمْ کِفْلَینِ مِن رَحْمَتِهِ وَ یجْعَل لَکُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ »(الحدید/ ٢٨).
١٧. السلام: "السلام" يعني صحة ليس فيها نقص أو مرض. أهل الحياة الطيبة ومن دخلوا إلى عالم "عند الله" جسدوا اسم الله "السلام" وهم طاهرون ومفطومون من النواقص والأمراض:«لَهُمْ دارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ »(الانعام/ ١٢٧). «یوْمَ لاَ ینْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إلاَّ مَنْ أَتَی اللَّهَ بِقَلْب سَلیم » (الشعراء/٨٨ـ٨٩). من ناحية أخرى ، أولئك الذين حرموا من الحياة الطيبة والحضور في عالم عند الله قال عنهم :«فی قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهَ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلیمٌ » (البقرة/ ١٠)...
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha