طالب رحمة الساعدي ||
خطوات شبابية تجاه الحضارة الإسلامية ح13 ج3
الخطوة الثالثة عشر
قد تضمنت الروايات بعض الإشارات إلى الخطوط العامة لذلك المجتمع، وأنّها حقًّا لعبارات حية ورائعة على الرغم من كونها وردت قبل ثلاثة عشر قرنًا.
ونشير هنا إلى بعض:
التقدم القضائي:
إنّ الوقوف بوجه الظلم والفساد يتطلب من جانب ترسيخ دعائم الإيمان والأخ ق، ومن جانب آخر، وجود نظام قضائي ا مقتدر يتحلى باليقظة التامة والإحاطة الشاملة.
قطعًا يزود التطور الصناعي الإنسان بوسائل وأجهزة يمكن بواسطتها - عند الضرورة - السيطرة على كافّة الأفراد ورصد المشبوهين فهم الذين تُشمُّ منهم رائحة الفساد والانحراف، والتقاط الصور لما يخلّفه المجرمون من آثار في مواقع ارتكاب الجريمة، وتسجيل أصواتهم والتعرف عليهم من خلالها. حقًّا إنّ تمتع الحكومة الصالحة بهذه الإمكانات يمنحها الحصانة ضد الفساد والظلم وإحقاق الحقوق وإيصالها إلى أصحابها.
لا شك في أنّ البرامج الأخلاقية إلى جانب الوسائل الغاية في التطور ستأخذ مجراها في عصر ذلك المصلح العظيم بحيث تسير أغلبية المجتمع بالاتجاه الإنساني الصحيح المفعم بالعدل والسلام.
ولكن طالما خلق الإنسان حرًا، وليس هنالك ما يجبره على أفعاله فسوف يكون هنالك، شئنا أم أبينا، بعض الأفراد – وإن كانوا أقلية - وسط ذلك المجتمع الصالح الذين يسيئون الحرية ويستغلونها بغية تحقيق أطماعهم وأهدافهم وعليه، فلا بدّ من وجود جهاز قضائي فعال ومقتدر ينتصف للمظلوم من الظالم.
ويتضح من خلال تأمل الجرائم والجنايات والمفاسد الاجتماعية وطرق معالجتها، أنّه:
أوّلاً : إنّ بسط العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات سيستأصل جذور أغلب المفاسد الاجتماعية التي تنبثق من التنازع على الأموال والثروات واستغ ل الطبقات الضعيفة والتزييف والخداع وأنواع الغش والكذب والخيانة وارتكاب الجريمة من أجل الحصول على الدخل الأ كثر؛ ولعلّ تنامي حدة الفساد والظلم في كلّ مجتمع إنما تتوقف على تلك الأمور ومدى انتشارها.
ثانيًا: للتعليم والتربية الصحيحة عظيم الأثر في مكافحة الفساد والانحراف الاجتماعي والأخلاقي؛ وأحد علل اتساع رقعة الفساد في المجتمعات المعاصرة إنّما يتمثل في عدم الاستفادة الصحيحة من التعليم؛ بل عادة ما يوظف في خدمة المشاريع الاستعمارية الفاسدة، والانهماك ليل نهار في عرض الأفلام المبتذلة والقصص المضلة وإشاعة الأخبار الكاذبة التي تضمن مصالح الاستعمار العالمي.
طبعًا لبعض هذه الأمور جذور اقتصادية كما تهدف إلى تخدير العقول واستنزاف القوى الفاعلة والواعية في كلّ مجتمع لضمان مصالح الاستعمار الاقتصادي.
وبالطبع إن تغيّرت هذه الأوضاع فإنّ جانبًا كبيرًا من الفساد الاجتماعي سيزول خلال مدة قصيرة، ولا يتمّ ذلك إلاّ من قبل حكومة عالمية صالحة تنشد تحقيق مصالح البشرية جمعاء -لا مصالح المستغلين - وبناء عالم معمور وحر مملوء بالعدل والسلام.
ثالثًا: إنّ وجود جهاز قضائي يقظ وفاعل ووسائل مراقبة دقيقة بحيث لا يفلت مجرم من سيطرته ولا يستطيع انتهاك عدالته، هو العنصر الآخر الذي يحدّ من انتشار الفساد وانتهاك حرمة القانون. فلو اتصلت هذه الأبعاد الثلاثة مع بعضها، لكانت أبعادها التأثيرية كثيرة للغاية.
يستفاد من الأحاديث المرتبطة بعصر حكومة المهدي | أنّه يستعين بهذه العناصر الوقائية الثلاثة في نهضته، حتّى وردت بشأن دولته تلك العبارة والتي أصبحت مث يضربه الناس، في أنّ عصره سيشهد عيش الذئب إلى جانب الشاة.
قطعًا ليس هنالك من تغيير في ماهية الذئاب ولا داعٍ أصلا لذلك، كما لا تفارق الشاة حالتها الطبيعية؛ وهذه إشارة إلى بسط العدل في العالم وتغيير أُسلوب الأفراد الذئاب في صفاتهم والذين يتواطأون مع الحكومات الجبارة في امتصاص دماء الطبقات الضعيفة في المجتمع البشري.
فإمّا أن تتغير روحيات هؤلاء بصورة تامة في ظلّ النظام الجديد، ذلك لأنّ الذئبية ليست من طبيعة الإنسان، ومن الصفات العرضية التي يمكن تغييرها، أو على الأقل كبح جماحها، والانتفاع بنعم الله بصورة عادلة بد من هضم منافع الآخرين. ومن الأمور الجديرة بالتأمل في هذا المجال ما ورد في حديث
النبي الأ كرم صلى الله عليه واله بشأن التوزيع الصحيح ل موال؛ حيث يعيش الناس حالة من الغنى الروحي والمادي حتّى تبقى الأموال دون من يطلبها، أي أنّهم يبلغون مرحلة تربوية تجعلهم يرون المال الزائد على حاجتهم وبا عليهم.
ليس هنالك ما يقلقهم بشأن ضمان معيشتهم لحاضرهم ومستقبلهم بحيث يقارفون الخطيئة بغية الحصول عليها.
كما ورد في حديث آخر أنّ المستوى الفكري للناس في عصره يبلغ مرحلة يصعب مقارنتها بالعصر الراهن، وبالطبع سوف تغيب كافّة النزاعات والخلافات التي يفرزها قصر النظر وضيق الأُفق وضحالة المستوى الفكري واستغراق الجهود في الأموال والثروات.
وعلى ضوء ما أوردناه سابقًا بشأن المراقبة الدقيقة في حكومته حسبما ورد في الروايات، فإنّ المجرمين لا يشعرون بالأمن حتّى في بيوتهم، ربّما لوجود بعض الأجهزة المتطورة التي تحصي حتّى أمواجهم الصوتية، وهذا بحدّ ذاته إشارة إلى سعة إبعاد التصدي للفساد في عصر الإمام.
وعبارة «حكمه كحكم داود عليه السلام ومحمّدصلى الله عليه واله " كأنّها تشير إلى نقطة لطيفة في أنّه يستعين بالضوابط القضائية الظاهرية من قبيل الإقرار والشهادة وما شابه ذلك إلى جانب الطرق النفسية والعلمية في التعرف على المجرمين، على ضوء بعض النماذج في عصر داود عليه السلام .
بالإضافة إلى أنّ وسائل كشف الجرم تحرز تطورًا باهرًا على غرار تطور العلوم والتقنيات بحيث يصعب على المجرم أن يفلت من العدالة.
قرأت في بعض الصحف بشأن عجائب دماغ الإنسان، أنّ هذا الدماغ يبعث بأمواج تتناسب مع مكنوناته الباطنية؛ بحيث يمكن تمييز صدقه من كذبه على ضوء تصريحاته. قطعًا إنّ هذه الوسائل تتكامل وستخترع وسائل متطورة أخرى، وبالاستعانة بالأساليب النفسية المتطورة يمكن السيطرة على المجرمين، وإن قلّ المجرمين في مثل هذا المجتمع )مع ذلك فالقضية تبدو مهمة(.
وأكرر مرارًا: من الخطأ الاعتقاد بأنّ كلّ هذه الأمور تعالج في عصره من خ ل المعجزة؛ ذلك لأنّ المعجزة استثناء وحين الضرورة سيّما في إثبات حقانية دعوى النبي صلى الله عليه واله أو الإمام عليه السلام .
ولا ترد لتنظيم شؤون الحياة اليومية والطبيعية، والدليل على ذلك لم يعتمدها أي نبي لهذه الأغراض.
وعليه، فإنّ مسيرة حكومته العالمية من ذلك النموذج الذي أشرنا إليه، لا نموذج الإعجاز.
على كلّ حال، فإنّ الأمن في ظلّ حكومته العالمية على درجة من السعة والشمولية بحيث تستطيع المرأة - كما ورد في الرواية - أن تسير لوحدها من شرق العالم إلى غربه دون أن يتعرض لها أحد.
وأخيرًا، إن أضفنا مسألة تواضع عيشة المهدي | - كما جاء في بعض الروايات - تتضح الأمور السابقة بج ء، فسيرته قدوة وأسوة لأتباعه فض عن عامة الناس، وبالاستناد إلى هذا الموضوع في أنّ القسم الأعظم من الجرائم والجنايات والمفاسد الاجتماعية التي تفرزها الحياة الموغلة في الرفاه والمصارف العبثية الطائشة، فإنّه يتضح الدليل الآخر على إزالة المفاسد في ظلّ حكومته العالمية.
فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: «وما لباس القائم عليه السلام إلاّ الغليظ وما طعامه إلاّ الجشب . كما ورد هذا المضمون نفسه عن الإمام الصادق عليه السلام
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha