طالب رحمة الساعدي ||
الخطوة الحادية عشر : بيان علاقة الاسلام بالعلم .
إنَّ ادعاءَ التعارضِ بينَ الدينِ والعلمِ يعتبرُ القاعدةَ الصُّلْبَةَ التي ينطلقُ منها ناقدِي الأديانِ في عصرنَا، فكلمَا تحدثُوا عن مواقفِهِمُ المعاديةِ للدينِ استدلُّوا بأنَّ العلمَ التجريبيَّ أثبتَ خطأَ الدينِ، ويستندونَ في تأييدِ موقفِهِمْ إلى الصراعِ الذي نشأَ في الغربِ بين العلماءِ التجريبيينَ ورجالِ الكنيسةِ في القرنِ السابعِ عشرَ، حيثُ ظهرتِ العديدُ منَ النظرياتِ العلميةِ التي خطَّأتْ تصوراتِ الكنيسةِ عنِ الكونِ والحياةِ، خاصةً نظرياتِ جالِيلْيُو وكِبْلَر في علمِ الفلكِ، وتطوَّرَ الأمرُ إلى أنْ أصبحَ العلمُ الماديُّ في القرنِ التاسعِ عشرَ هوَ الإلهُ الجديدُ، ولُقِّبَ هذا القرنُ بعصرِ عبادةِ العلمِ، وأصبحَ رجالُ العلمِ التجريبيِّ أنبياءَ العقولِ ومنقذِي البشريَّةِ، واعتقدوا أنَّ الأديانَ مجردُ خرافاتٍ وضعهَا بشرٌ ولا علاقةَ لها بخالقِ الكونِ.
ويَتَّضِحُ منْ هذهِ المقدمةِ أنَّ دعوى التعارضِ بينَ العلمِ والدينِ الإسلاميِّ هيَ دعوى دَخِيلَةٌ على المسلمينَ، حيثُ تلقفَهَا العلمَانِيُّون والملاحدةُ العربُ مُدَّعِينَ أنَّ الإسلامَ لا يختلفُ عنِ المسيحيةِ -التي تعتقدُهَا الكنيسةُ- وغيرِهَا من العقائدِ الوثنيةِ في مناقضةِ العلمِ، ولكنَّ تعميمَ هذا الاعتراضِ على كلِّ الأديانِ والخلطَ بينَ النماذجِ المختلفةِ؛ فكرةٌ باطلةٌ،
كما أنهم لمْ يتمكنُوا من إثباتِ ادعائِهِم بمناقضةِ الدينِ الإسلاميِّ للعلمِ التجريبيِّ،
علاوةً على شدَّةِ اهتمامِ الدينِ الإسلاميِّ بالعلمِ، كما في قولهِ تعالى في سورةِ العلقِ "قْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " ، ورفْعِهُ لمكانةِ العلماءِ، كما في قولِهِ تعالى " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ " ، وقوله عزَّ وجلَّ " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " ، وقوله سبحانه " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ " .
ففي الآياتِ إشارةٌ واضحةٌ بأنَّ الذين يشهدونَ بالوحدانيةِ المطلقةِ هم اللهُ عزَّ وجلَّ وملائكتُهُ وأولو العلمِ، وفيها دلالةٌ بأنَّ العلماءَ يتميَّزُونَ بعلومهمْ ومعارفهمْ عن الذينَ لا يعلمونَ.
وعلينا ألاّ نتخوّف من التعارضات الظاهرية التي تبدو للوهلة الأولى، بل بالعكس ينبغي أن نرحّب بها ونشجّع عليها باعتبار أنّ الاهتمام بها يعيننا على بلورة رؤية دينية صائبة وفهم علمي صحيح؛ إذ أنّ هذه التعارضات الظاهرية هي التي تفيدنا في التوصّل إلى فهم دقيق لنظرية من النظريات
ثم أنّ المسالك الغربية في معالجتها لإشكالية التعارض بين العلم والدين يمكن تقسيمها إلى أربعة اتجاهات أساسية:
الاتجاه الأوّل: يسعى إلى معالجة موارد التعارض من خلال منح الدين سلطة مطلقة على العلم.
هذا الإتجاه تبنّاه جماعة من المسيحيين الأصوليين، إلى جانب العديد من البروتستانت المحافظين.
الاتجاه الثاني: يعود مآلاً إلى الاتجاه الأوَّل فهو الاتجاه الذي اعتمده أمثال "ديهيم"، حيث قدّم نظرية أكّد فيها أنّ العلم ليس له إلاّ أن يكون أداة وآلة لتفسير الظواهر الموجودة في العالم. أمّا الدين فهو الذي يكشف عن حالة الواقع.
وبذلك يكون قد اصطف إلى جانب الدين دفاعاً عنه.
الاتجاه الثالث: ويتمثّل في مجموعة من الكتّاب المسيحيين الأصوليين، إلى جانب عدد من البروتستانت المحافظين و"لوتر" وأعضاء الكنيسة الانجليزية. يذهب هذا الاتجاه إلى أنّ حدّ التعارض إنّما يمكن إذا ما جُعِلَ الدين تبعاً للعلم.
الاتجاه الرابع: يتمثَّل في عدّة نظريات تشترك في أنّ رفع المعارضة بين العلم والدين يكمن في التفكيك بين مجالي الدين والعلم. ويتبنى هذا الاتجاه كلّ من اللاهوت الليبرالي (الكلام الليبرالي)، والأرثوذوكسية الجديدة، والوجودية، ومدرسة التحليل اللغوي.
وعليه، إنّ ثمة مقارنة بين الإسلام والأديان الأخرى تؤكّد لنا نقطة مهمة، وهي أنّ الدين الإسلامي يتمتّع بقدرات أكبر لإنتاج رؤى مهمّة وذات جدارة عالية في مجال العلوم الإنسانية قياساً بالأديان والمذاهب الأخرى، بالرغم من أنّه قد تبدو هناك بعض التعارضات بين معطيات العلوم الإنسانية، وبين التعاليم الإسلامية.
لكنّا نؤكّد هنا مرة أخرى أنّه في خصوص العلوم الإنسانية لا يوجد هناك تعارض بين الإسلام والمعطيات التجريبية. فمثلاً عندما يكتشف علماء النفس من خلال المشاهدة والتجربة وجود مقاطع زمنية خاصّة في عمر الطفل ينمو فيها نمواً حسّياً وحركياً، فإنّ الإسلام لا يعارض مثل هذه الاكتشافات والدراسات.
وإذا كانت هناك موارد تعارض فهي تختصّ بالنظريات التي تستند إلى استنتاجات عقلية وأسس فلسفية أكثر من استنادها إلى المشاهدة والتجربة.
ملخص القول: إنّ ما يطرحه المتكلّمون الغربيون من تعارض بين العلم والدين يرتبط بالعلوم الإنسانية ويختصّ بالنظريات التي تبتني على أسس نظرية وفلسفية مادية وإلحادية، بعيداً عن المنطق التجريبي الذي يعتمد آليات التجربة والمشاهدة.
-وبهذا يتبين - إنّ الأفكار والرؤى التي تؤكّد على التعارض بين العلم والدين، والتي حفل بها الغرب على مرّ تاريخه، انتقلت إلى المجتمعات الإسلامية بحيث وجد هناك من يعتقد بأنّ الإسلام كالمسيحية، هو الآخر يعاني من تعارض جاد بينه وبين العلم، في حين أنّ التعارض الموجود بين تعاليم العهدين من جهة، وبين معطيات العلوم التجريبية من جهة أخرى ـ والذي قد يصل إلى درجة التكاذب والتنافي ـ لا نجد له أثراً في الإسلام.
وإذا كنّا نتحدّث عن الأساليب الممكنة لرفع التعارض بين العلم والإسلام فهذا لا يعني أنّ هناك موارد تعارض وتصادم بين الطرفين يسلَّم بها، ونحن نريد أن نجرّب حظَّنا في معالجة هذه الموارد.
والمقصود هو الإجابة عن هذا السؤال المقدّر: إذا واجهتنا بعض الموارد التي قد توهم بوجود ثمّة تعارض بين تعاليم الإسلام وبين معطيات العلوم التجريية، ماذا نعمل حينئذٍ؟ وكيف علينا أن نتعامل مع هذه المشكلة؟
إذاً الحديث عن التعارض بين العلم والدين بالنسبة إلى المسيحية هو في الواقع حديث عن تعارض موجود ومستقر وقائم بالفعل.
أمّا عندما نتطرق إلى هذا البحث في خصوص الإسلام، فإنّنا نتحدّث عن تعارض محتمل وظاهر وغير مستقر قد يبدو للوهلة الأولى .
الاجابة :
يمكن حصر موارد التعارض الظاهري بين العلم والدين في الموارد الآتية:
أ ـ تعارض الأصل العلمي الثابت مع النظرة الدينية القطعيَّة.
ب ـ تعارض النظرية العلمية الظنيّة مع النظرية الدينية الظنيّة.
ج ـ تعارض النظرية العلمية القطعيَّة مع النظرية الدينية الظنية.
ج ـ تعارض النظرية العلمية الظنيّة مع النظرية الدينية القطعية.
يتبين من خلال الموارد التي استقرأناها أنّ التعارض الأكيد والحقيقي بين العلم والدين هو التعارض من النوع الأول. وأمّا الموارد الأخرى فإنّ التعارض لا يعدو أن يكون محتملاً ومشكوكاً فيه.
وبديهي أنّ التعارض المحتمل لا يسمى تعارضاً إلاّ مسامحة وتنـزّلاً. وفي مثل هذه الموارد قد لا يكون تعارضاً موجوداً حقيقةً.
كلّ ما هنالك أنّنا لقلّة باعنا العلمي وعدم إحاطتنا بالحكم الواقعي الديني والعلمي يخيل إلينا أنّ هناك تعارضاً بين العلم والدين .
اي إنّه متى بدا لنا ثمّة تعارض بين الدليلين الديني والعلمي القطعيين فإنّ هذا التعارض بدويّ وسيرتفع موضوع التعارض بالدرس والتأمّل. ولربما يكون التعارض قد نشأ من خلال افتراض أحد طرفي التعارض أمراً قطعياً ويقينياً على نحو الخطأ والاشتباه
اما في خصوص التعارض الثالث والرابع ،فأنّنا أولاً نأخذ بنظر الاعتبار هذه النقطة، وهي أنّ كلاً من الدين والعلم يعملان على تقريب الواقع للأفهام.
وعليه إذا بدا هناك شيئ من التعارض بينهما فبالإمكان أن نعالج الموقف كما لو كان هناك نظريتان علميتان متعارضتان، أو مفهومان دينيان متعارضان.
ففي مقام تحليل النظريات العلمية، إذا تعارضت نظريتان، وكانت إحدى النظريتين قطعية أو قريبة من القطع وتلقى قبولاً لدى المجامع العلمية، هنا نأخذ بهذه النظرية ونحاول أن نعيد النظر في خصوص النظرية الأخرى المشكوك بها. ويعدّ هذا اللون من التعامل تعاملاً عقلانياً يبتني على أساس عقلاني مؤدّاه تقدّم القطع على الظن. فالدليل القطعي يوجد درجة أكبر من الوثاقة والاعتماد عليه ـ لدى العقلاء ـ من الدليل الظني.
تجدر الاشارة هنا إلى أنّ هذا الأسلوب نفسه يجري في بحث التعارض بين الأدلّة الشرعية أيضاً، فلو تعارض حديثان أحدهما ظني الدلالة والآخر قطعي الدلالة، قدّم الدليل القطعي.
تأسيساً على ذلك، يمكننا تعميم أسلوب معالجة التعارض ليشمل الفرض التالي، وهو: إذا تعارضت نظرية علمية قطعية مع نظرية دينية ظنّية أو بالعكس: نظرية دينية قطعية مع نظرية علمية ظنيّة، هنا بالنسبة إلى الشق الأوّل من الفرض نقدّم العلم، وأمّا النظرية الدينية فنخضعها للدرس والتقويم من جديد ونعيد النظر في تفسيرها، ولربما احتاج الأمر إلى أن نتأوّلها. وأمّا في خصوص الشق الثاني من الفرض فنأخذ بالنظرية الدينية ونعيد النظر في النظرية العلمية.
اما في حالة إنّ التعارض جادّ وحقيقي بين الدين والعلم،اي ان الواقع تعارض بين نظرية علمية ثبتت صحّتها ونظرية أو أصل ديني ثابت قطعاً –اي انه من النوع الاول - فالحقيقة أن تعارضاً من هذا القبيل غير وارد بالمرة في الإسلام.
وعليه يكون الكلام واضح جدا في النوع الثاني من انواع التعارض المذكورة .
ــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha