دراسة مشتركة بقلم: العلامة الشيخ محمد علي التسخيري وعلي المؤمن ||
لأجل ضمان حياة إسلامية تطبعها الأصالة وسمات الهوية الدينية العصرية؛ لا بدّ من مراجعة أنماط تعاملنا مع التراث ورؤيتنا له؛ لتوفير الحالة المعتدلة من التواصل. وهنا ستمثل أمام الباحث إشكاليات عدة: تحديد بنية التراث، طبيعة الحركة داخل التراث، النظم المعرفية التي تكونه، سلطة العقل والنقل، جدلية المعرفي والسياسي وموقعها من التراث، صلة التراث بجذور إلهية وإنسانية وطبيعة علاقته مع مناهج العلم المعاصر، وغير ذلك.
فكيف يمكن التعامل مع هذه الإشكاليات بالصورة التي يمكن أن تكون مدخلاً لتشكيل علاقة مستقبلية مع تراثنا؛ سعياً إلى بناء أرضية تؤهل لتنمية شاملة تكون بمستوى تحدّيات المستقبل؟
تراث الأُمّة هو مصدر إلهامها، والمحرك الذي يدفعها باتجاه بناء حاضرها وضمان مستقبلها، والتراث هو الأساس الذي تشيّد عليه الأُمّة صرح حضارتها. وهو خزينها الدائم والمضمون، والأُمّة التي تقطع علاقتها بتراثها فإنّها تريد هدم الأساس الذي تقف عليه وتجتث جذورها بنفسها وتفصل نفسها عن ماضيها. هذا في الجانب المشترك مع كل الأُمم التي تحترم نفسها وتنزع نحو البقاء والاستمرار. فكيف بهذا التراث إذا كان يتمتع بأبعاد مقدّسة إلهية ودينية، كما هو الحال مع التراث الإسلامي! ولكي نحصر مفهومنا للتراث، فإنّ الذي أفهمه من السؤال هو التراث الإسلامي العلمي الديني، وليس مطلق التراث، إذ إنّ للمسلمين تراثاً يشتمل على مجالات متعددة وهو عماد حضارتهم ومدنيتهم. ومن هنا فسأحصر الحديث هنا عن التراث العلمي الديني.
هناك مدخل لا بدّ من بيانه ابتداءً، ويتمثل بقضية الفصل بين التراث الديني الإسلامي والثوابت الإسلامية المقدّسة، أي النصوص الدينية المتمثلة بالقرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة، هذه الثوابت إذا اعتبرناها جزءاً من التراث. فسيكون في التراث جانب إلهي مقدّس لا يمكن تجاوزه والوقوف أمامه والاجتهاد في مقابله، وفي الحقيقة فإنّ هذه الثوابت هي إرث المسلمين وزادهم الذي لا ينفد في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
أمّا الجانب الآخر، فهو الذي له بعد إنساني، أي النتاج الإسلامي للمسلمين، والذي يعبّر عن تفسيرهم وشروحاتهم للثوابت الإسلامية، والتفصيلات التي يستنبطونها من النصوص، واجتهاداتهم التي يدفعون بها الحياة لتستظل بأحكام الشريعة. فهذا النوع من التراث نشاهده في: علوم القرآن، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه، وعلم الكلام، وغيرها. وهي متغيرات بنسب معينة، أي إنّها ليست كالثوابت في موقعها، بل هي مساحات يمكن التحرك فيها بحرية، من ناحية الأخذ بها أو تطويرها أو تجاوز جزء منها وفقاً لما تفرضه متطلبات العصر وضغوط الزمان والمكان. وأؤكد على أنّ هذه العملية، أي التطوير والتجديد والتنقية في مجالات التراث، هي عملية متخصصة، فكما أنّ تراث المسلمين الذي نقبله ونعتدّ به هو الذي تركه لنا المتخصصون وليس عامة المسلمين أو غير المتخصصين، فإنّ الاجتهاد في مقابل هذا النوع من التراث أو الانتقاء منه هو عملية تخصصية أيضاً، ولا يمكن أن يقوم بها إلّا الذين يمتلكون آليات الاجتهاد بكاملها.
وهناك لون من التراث تعبِّر عنه ثقافة الأُمّة واتجاهاتها الملتزمة بالشريعة، وهو ما يطلق عليه بـ«سيرة المتشرعة» وغيرها من التسميات. وهذا الجانب من التراث يخضع لحقائق اللون الذي سبقه، أي أنّه من المتغيرات أيضاً. ولا يمكن أن نعبِّر عن هذه المتغيرات بأنّها سلطة نهائية ضاغطة، بل إنّ السلطة النهائية هي سلطة الثوابت المقدّسة، أي سلطة النص الإلهي المقدّس وامتداده في السنة الشريفة.
وعلى العموم فإنّ تعاملنا مع تراثنا لا بدّ أن يكون تعاملاً علمياً، أي يخضع للضوابط العلمية التي نستنبطها من الثوابت نفسها ومن العقل السليم، وبالصورة التي نحقق من خلالها مراد الشارع وتمكين الشريعة من بناء حاضر المسلمين ومستقبلهم، وليس تعاملاً عشوائياً وعفوياً ومزاجياً ومن خلال مناهج مستوردة أو هجينة، والإنسان المسلم الذي هو محور التنمية الإسلامية الشاملة التي تبني الحاضر والمستقبل، عليه أن ينطلق محصّناً بالشريعة السمحاء وبالاجتهاد وبوعيه لمراد الشارع في تعامله مع قضايا المستقبل.
وهنا نؤكّد على نقطة مهمة وهي أنّ الجانب المتغير في التراث يجب أن لا يكون عائقاً أمام هذه الانطلاقة، فلا بدّ من التحرر من ضغوطه؛ لأنّه ــ بالأساس ــ متغير وليس سلطة نهائية، فإنّ بقاءه عائقاً أمام النمو والتطور والانطلاق نحو ضمان المستقبل يتناقض مع روح الشريعة ومرادها. وبالتالي فإنّ كشف مراد الشارع من خلال التعامل مع النص والتراث هو الغاية التي ينشدها الفرد المتدين والمجتمع المتدين؛ بهدف تحقيق مقتضى التدين.
وفي ضوء تعدد أنواع التراث ومراتبه، ووجود جانب متغيّر وإنساني كبير فيه، فضلاً عن تحوّل هذا الجانب إلى سلطة أيضاً أو كوابح أمام ما نهدف إليه من تعامل مستقبلي مع التراث؛ عبر تحول الجانب المتغير إلى كوابح؛ يمكن كشف مراد الشارع في تعاملنا المستقبلي مع التراث، من منطلق ضرورات الاحتياط في قضايا الشريعة، والكوابح لا تعرقل المسير أبداً ولا تعيق عجلة التطور، بل إنّ حسن استخدامها سيجعلنا نقف في الأماكن التي لا بدّ أن نتوقف عندها؛ لخطورة الاستمرار في السير. ولكننا في النتيجة سنستأنف السير.
أمّا بشأن تعداد مراتب التراث، فالصحيح هو أن نعطي كل نوع أو مجال حقّه على أساس درجة وضوحه في كشف مراد الشارع. فقد يكون الكشف من خلال نصّ قطعي، وهنا لا مجال للاجتهاد، وهنا تكمن السلطة المعرفية التي من شأنها حماية الدين من التحريف أو محاولات العبور على بعض ثوابته، بحجة تنقية التراث، ورفع العقبات أمام التطور، وإلّا سوف يأتي اليوم الذي لن يبقى في الدين حكم ثابت. أمّا إذا كان الكشف ناقصاً، أي في حالة عدم وجود نصّ قطعي أو اعتقاد المتخصص بعدم قطعية النص، فنحتاج هنا إلى ما يدعم أو يتمم هذا الكشف بشكل قطعي للوصول إلى الحقيقة القاطعة، وليتم لنا عنصرا «التنجيز» و«التعذير».
وبكلمة واحدة، فإنّنا نرى أنّ تعاملنا مع التراث في جانب المتغيرات يجب أن لا يكون انفعالياً، ونتجنب فيه الإفراط والتفريط، ونتعامل معه تعاملاً علمياً موضوعياً، فلا نجمد عليه ونتكلس ونتعصب له، ولا نفرّط فيه ونسخر منه ونرفضه بالمطلق، أيّاً كانت الحجج. والحقيقة أنّ هذا التعامل الانفعالي بكلا وجهيه سيؤدي إلى فقداننا لطاقة تحركنا المطلوب والمناسب باتجاه المستقبل.
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha