طالب رحمة الساعدي ||
الخطوة التاسعة : الرؤية الكونية والايديولوجية في الحضارتين
مقدّمةٌ .
شاع مصطلح (الرؤية الكونيّة) - أو ما يرادفه - في العقود الأخيرة في كلّ الكتابات الّتي تتعلّق بالأسئلة الكبرى في الدين والفلسفة والعلوم، حتّى أصبح مفهومًا مفتاحيًّا في إدراك حقيقة الوجود الإنسانيّ، بل أضحى يحتلّ - في نظر الكثيرين - مكانةً عميقةً في فهم جوهر النشاط العلميّ؛ إذ يقوم هٰذا المفهوم بدورٍ حاسمٍ في الممارسة العلميّة.
وبالرغم من أنّ مفهوم الرؤية الكونيّة يتخلّل مختلف حقول وأنساق المعرفة الإنسانيّة؛ من فلسفةٍ وعلومٍ اجتماعيّةٍ وطبيعيّةٍ، وفنونٍ وجماليّاتٍ، وعلوم تطبيقيّةٍ وغيرها. بيد أنّ الدارس يلحظ المكانة المركزيّة الّتي يحتلّها الدين في بلورة وبناء الرؤى الكونيّة.
من هنا نسعى ضمن هٰذا الباب، إلى تقديم رؤيةٍ إجماليّةٍ حول مصطلح (الرؤيّة الكونيّة) في إطار توظيفه الفلسفيّ والعقديّ والدينيّ.
تعريف الرؤية الكونيّة:
"الرؤية الكونيّة" هو الترجمة العربيّة لاصطلاحٍ ألمانيٍّ هو (Weltanschauung)، ومعناه في لغته الأصلية هو المنظور أو النظر إلى العالم. المفهوم ذاته مستخدمٌ في لغاتٍ أخرى بتعبيراتٍ متعدّدةٍ، من قبيل: صورة العالم، والنظرة إلى العالم، وفرضيّات العالم، والنظرة الخارجيّة إلى العالم، والتخطيط التصوّريّ، والنظرة الكلّيّة، وغيرها.
ظهر هٰذا المصطلح لأوّل مرّةٍ في كتاب كانط (1724-1804م) (نقد ملكة الحكم)، باسم بديهيّات العالم (World Intuition) بمعنى تأمّل العالم الراجع إلى الإحساسات. لٰكنّ هٰذا الاستعمال سرعان ما انتهى تحت نفوذ معنًى جديدٍ أعطي لتعبير (Weltanschauung) بواسطة الرومانسيّين، وتحديدًا بواسطة شيلنغ الّذي ذهب إلى أن هٰذا الاصطلاح لا يرجع مباشرةً إلى الملاحظة الحسّيّة، بل إلى الوعي والمعرفة غير الحسّيّة . فأصبحت الكلمة تقترب من المعنى الّذي تعوّدنا عليه اليوم كما سيأتي. لٰكنّ استخدامه على نطاقٍ واسعٍ وبصورةٍ تشير إلى الدلالات المعاصرة ينسب إلى الألماني وليلهام دلثاي (1833 – 1911).
وفي العالمين العربيّ والإسلاميّ، استخدمت العديد من الاصطلاحات الّتي تعادل المصطلح الألمانيّ: (Weltanschauung) نظير (الرؤية الكونيّة)، أو (النظرة إلى العالم)، أو (رؤية العالم) أو (التصوّر الكلّيّ للعالم) وغيرها.
دلالة المصطلح
مع أنّ هٰذا المصطلح حديثٌ نسبيًّا، بيد أنّ دلالته ومفهومه قديمان، ومتجذّرٌ في الفكر الإسلاميّ والفكر الإنسانيّ بشكلٍ عامٍّ.
إنّ أسئلةً من قبيل: من أنا؟ ومن أين جئت؟ وماذا أفعل في هٰذا العالم؟ وإلى أين سأنتهي؟ تسمى بالأسئلة الكلّيّة أو الأسئلة الغائية أو الأسئلة الكبرى والمصيريّة، وهي أسئلةٌ شغلت الفكر الإنسانيّ طول التاريخ، والسبب في ذٰلك أنّ هٰذه الهواجس ترتبط بالرغبة العميقة وبالحاجة الأصيلة من فطرة الإنسان في البحث عن إجاباتٍ لتلك الأسئلة، لٰكنّ أمر هذه الأسئلة لا يبقى مجرّد إحساسٍ فطريّ، بل يتحوّل إلى جهودٍ عقلانيّةٍ منظّمةٍ تبنى عليها نظريّاتٌ، ويُلتزم وفقها بإيديولوجيات. فالإجابة عن تلك الأسئلة هي (الرؤية الكونيّة). وهٰذه هي الدلالة.......
قبل الشروع في تعريف هٰذا الاصطلاح يجدر بنا الإشارة إلى أنّ المراد من (الرؤية) في هٰذا الاصطلاح ليس (الإحساس) بالكون أو العالم، بل المراد من (الرؤية) هنا هو (المعرفة). فالرؤية الكونيّة هي رؤيةٌ ولٰكنّها ليست رؤية بصرٍ، بل هي إدراكٌ عقليٌّ عميقٌ متجذّرٌ. في ضوء هٰذا المعنى ستكون (الرؤية الكونيّة) مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بمشكلة (المعرفة).
وهٰكذا أيضًا بالنسبة إلى مفردة (الكونيّة)، حيث ينبغي عدم الخلط بينها وبين (الكونيّ)، وإن اشتركا في النسبة إلى الكون. فـ (الكونيّ) يتهم بالبحث عن القوانين العامّة للظواهر الكونيّة على صعيد النشأة، وطبيعة العلاقة بينها، وهو ما يعرف بـ (علم الكون)، بينما ترمز مفردة (الكونيّة) إلى تساؤل الإنسان حول مبدإ وجود العالم ..
تعريف بعض العلماء للرؤية الكونيّة
بناءً على ذٰلك، قدّمت للرؤية الكونيّة عدّة تعريفاتٍ نذكر منها: ما جاء في المعجم الفلسفيّ لمراد وهبة، بأنّها: «تصوّرٌ عامٌّ عن العالم وعن مكانة الإنسان في هٰذا العالم وتفسير الكون والحياة. والرؤية الكونيّة تفترض نسقًا من القيم» . وقد عرّفها الشيخ مصباح يزدي في كتابه دروسٌ في العقيدة الإسلاميّة بأنّها: «مجموعةٌ من المعتقدات والنظرات الكونيّة المتناسقة حول الكون والإنسان، بل وحول الوجود بصورةٍ عامّةٍ» . أمّا الأستاذ مرتضى مطهري فيذهب إلى أنّ الرؤية الكونيّة هي «الأساس والخلفيّة الفكريّة الّتي يستند إليها اعتقادٌ معيّنٌ ليصيغ بها نظرته إلى الكون والوجود، ويقوم بتفسيره وتحليله» .
أنواع الرؤى الكونيّة:
تنتشر بين الناس الكثير من أنواع الرؤى الكونيّة، ولٰكن يمكن تقسيمها جميعًا على أساس الإيمان بالغيب وإنكاره إلى قسمين جامعين: الرؤية الكونيّة الإلٰهيّة، والرؤية الكونيّة المادّيّة.
وقد أطلق على مَن يتبنّى الرؤية الكونيّة المادّيّة في العصور السابقة اسم (الطبيعيّ) و(الدهريّ)، وأحيانًا (الزنديق) و(الملحد)، وأمّا في عصرنا فيطلق عليه (المادّيّ).
أ- الرؤية الكونيّة المادّيّة: يعتقد بعض الأفراد أنّ الوجود يساوي المادّة، وأنّه لا وجود لشيءٍ آخر وراء المادّة والمادّيّات. في تصور هٰؤلاء لا يوجد هناك هدفٌ من خلق العالم ووجوده، بل لا حاجة – في نظرهم – إلى القول بوجود خالقٍ للعالم. تسمّى هٰذه النظرة والرؤية الّتي يتبنّاها هٰؤلاء الأفراد بـ (الرؤية الكونيّة المادّيّة).
ب- الرؤية الكونيّة الإلٰهيّة: يرى بعضٌ آخر أنّ العالم تركيبٌ من المادّة وغير المادّة، وأنّ له هدفًا ونظمًا، وأنّ مختلف ظواهره لا تستغني عن وجود الخالق المبرّإ من المادّة والمادّيّات. وهٰذه النظرة تسمّى (الرؤية الكونيّة الإلٰهيّة).
وعلى أساس ذٰلك نقول: إنّ مجال الرؤية الكونيّة لا يتحدّد بحدود المعتقدات الدينيّة؛ لأنّ كلمة (الرؤية الكونيّة) شاملةٌ للمعتقدات الإلحاديّة والمادّيّة، والإلٰهيّة.
معيار قبول الرؤية الكونيّة:
وحيث إنّ هناك رؤًى كونيّةً متعدّدةً في معرفة الوجود، فمن اللازم أن يكون بين أيدينا معيارٌ يمكننا من خلاله قبول رؤيةٍ معيّنةٍ وترجيحها على غيرها. والشروط التالية معيارٌ لانتخاب الرؤية الكونيّة المناسبة:
1- أن تكون قادرةً على الإجابة عن الأسئلة الكبرى الّتي تواجه الإنسان مثلما ذكرنا.
2- تمتلك قيمةً علميّةً وواقعيّةً.
3- ثابتةٌ، بحيث يمكن الاعتماد عليها دائمًا.
هٰذه الشروط الثلاثة في غاية الحسّاسيّة والأهمّيّة، خاصّةً إذا تعلّق الأمر بالترجيح بين مختلف الرؤى الكونيّة الموجودة، فالبعض مثلًا يولي العلم التجريبيّ مكانةً عاليةً؛ ولذٰلك يظنّ بأنّ الرؤية الكونيّة العلميّة الّتي تشبه كثيرًا (الرؤية الحسّيّة) هي المفيدة والأفضل. والأمر ليس كذٰلك.
4- لا بدّ أن تكون الرؤية الكونيّة مستندةً إلى العقل: بمعنى أنّها تقبل الإثبات والاستدلال.
5-تضفي على حياة الإنسان والعالم معنًى.
6- تبعث على النشاط والحيويّة.
7-يتوجّب أن يكون لها القدرة على خلع الأهداف الإنسانيّة والاجتماعيّة بغطاء القدسيّة.
8- أن تبعث على الانضباط والالتزام وتحمّل المسؤوليّة.
الرؤية الكونيّة والإيديولوجيا:
يجدر بنا قبل الشروع في تحديد نوعيّة العلاقة القائمة بين الرؤية الكونيّة والإيديولوجيا، أن نبيّن المراد من مفردة (الإيديولوجيا)؛ لأنّ فهم العلاقة بين الطرفين لا يتأتّى إلّا بعد فهم كلّ واحدٍ من الطرفين.
(الإيديولوجيا) مصطلحٌ دخيلٌ على اللغة العربيّة، وقد استعمل في عدّة معانٍ مختلفةٍ؛ وذٰلك نتيجة لاختلاف المجالات والوظائف السياسيّة والاجتماعيّة والقيميّة وغيرها .
لٰكن يمكن القول إنّ للإيديولوجيا معنيين اصطلاحيّين، أحدهما أعمّ من الآخر:
أوّلهما: مطلق النظام الفكريّ والعقديّ، والمقصود بذٰلك أنّها تشتمل على الأفكار النظرية الّتي تبيّن الواقعيّات الخارجيّة الّتي ليس لها ارتباطٌ مباشرٌ مع سلوك الإنسان، والأفكار العمليّة المتعلّقة بسلوك الإنسان.
ثانيهما: النظام الفكريّ المحدّد لنمط سلوك الإنسان. والمقصود بذٰلك مجموعةٌ من الآراء الكلّيّة المتناسقة حول سلوك الإنسان وأفعاله.
وعندما تستخدم الإيديولوجيا في قبال الرؤية الكونيّة، فالمقصود منها هو المعنى الخاصّ الّذي يعني مجموعة الأفكار العمليّة الّتي تحدّد الشكل العامّ لسلوك الإنسان.
بعد تعرّفنا على المراد من معنى الإيديولوجيا، والمعنى المراد من الرؤية الكونيّة، نقول:
إنّه من دون الإجابة عن تلك الأسئلة الكبرى المتقدّمة، لا يبقى لدينا أيّ أساسٍ لتكوّن الرؤية الكونيّة، ومع انتفاء الرؤى الكونيّة العامّة لا يصل المجال كذٰلك إلى الإيديولوجيا؛ لأنّ الإيديولوجيا هي القضايا المتضمّنة لعبارة: (ينبغي أن تفعل كذا) و(ينبغي أن لا تفعل كذا). فعلى سبيل المثال نرى أنّ الحكم الإيديولوجيّ العمليّ الّذي يقول: (يجب أو ينبغي عبادة الله تعالى) منبثقٌ عن رؤيةٍ كونيّةٍ مستندةٍ إلى الحكم العقليّ النظريّ القائل: (إنّ الله خالق كلّ شيءٍ).
ولذٰلك فإنّ الظفر بإيديولوجيا صحيحةٍ يتوقّف على التمتّع برؤيةٍ كونيّةٍ صحيحةٍ، وما لم تتحدّد الرؤية الكونيّة بصورةٍ واضحةٍ وبعيدةٍ عن الشبهات فلا أمل في الحصول على الإيديولوجيا المطلوبة الّتي تعبّد الطريق وتنشّط العمل، فما دمنا لا نعرف (ما هو الموجود) فإنّنا لا نستطيع أن نعرف (ما ينبغي أن يوجد).
ممّا ذكرناه تتّضح العلاقة الوطيدة الّتي تربط الإيديولوجيا بالرؤية الكونيّة، فإذا كانت الأخيرة قائمةً على أساس الرؤية التوحيديّة والإيمان بالله - تعالى - والمعاد والنبوّة والوحي، فإنّ السلوك العمليّ الّذي تتطلّبه مثل هٰذه الرؤية يختلف تمامًا عن السلوك العمليّ الّذي تتطلّبه الرؤية الكونيّة المادّيّة الّتي تتبنّى إنكار تلك المحاور الثلاثة.
يقول العلاّمة مطهّري: «لماذا نرى هٰذا الفرد يدافع عن هٰذه الإيديولوجيا، بينما يدافع الآخر عن إيديولوجيا أخرى، ولو سألنا هٰذا الفرد أو ذاك عن السبب الّذي أدّى به إلى الاعتقاد بهٰذه الإيديولوجيا دون تلك لوجدنا أنّ الجواب يأتي من خلال الرؤية الكونيّة الّتي يحملها الفرد عن الإنسان والعالم والتاريخ والوجود. وعليه فالإيديولوجيات هي وليدة الرؤى الكونيّة، فإذا اختلفت هٰذه الرؤى بعضها عن بعض فإنّها ستؤدّي إلى تفاوت واختلاف الإيديولوجيات فيما بينها؛ لأنّ الأساس الفكريّ الّذي تنطلق منه الإيديولوجيا هو التفسير الّذي يملكه الإنسان عن العالم والإنسان والوجود» .
فما لم يؤسّس الإنسان رؤيته الكونيّة يقع في تخبّطٍ وتناقضٍ وانحرافٍ من الناحية العمليّة والسلوكيّة .
إنّ حياة الإنسان لا يمكن أن تتّسم بالطابع الإنسانيّ ما لم تكن مستندةً على رؤيةٍ كونيّةٍ واقعية وإيديولوجيا سليمةٍ. وعلى ضوء هٰذين المعنيين يمكن أن يعدّ النظام العقديّ والأصوليّ لكلّ دينٍ رؤيته الشاملة، ونظام أحكامه العمليّة الكلّيّة إيديولوجيا، ويتمثّلان في أصول الدين وفروعه.
وكلّما اشتدّ اعتقاد الإنسان ورؤيته الكونيّة انعكس ذٰلك على مستوى سلوكه وعمله، فمثلًا جاء في قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ* فَذٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ (الماعون: 1 و2) ، والتكذيب بالدين يمثل جانب اعتقاديًّا ورؤيةً كونيّةً خاصّةً تولّد عنها فعلٌ وسلوكٌ وهو أكل مال اليتيم.
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha