هادي بدر الكعبي ||
1- اصدرت إدارة الرئيس الامريكي جون بايدن يوم (12 تشرين الاول 2022) وثيقة استراتيجية ((الأمن القومي للولايات المتحدة))، والتي تأتي بعد خمس سنوات من آخر اصدار للاستراتيجية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، كان قد تم تأجيل الإعلان عنها في الشتاء الماضي، بعد ان أصبح من الواضح أن الغزو الروسي لاوكرانيا على الأبواب،وحتى يتسنى لإدارة بايدن مراجعة اولوياتها في ضوء تطورات الحرب الروسية الأوكرانية.
2- اتسمت استراتيجيات الأمن القومي التي اطلقتها الإدارات الأمريكية المختلفة خلال العقود الماضية بأنها تحمل توجهات وإشارات لنوايا الإدارات المتعاقبة تجاه كل من حلفاء وأعداء الولايات المتحدة خلال فترات زمنية محددة، مع توفر نافذة يمكن النظر من خلالها على التحديات التي تواجه البيت الابيض داخليا وخارجيا، وتحدد الأولويات القصوى بشأن قضايا الأمن القومي، كما تعطي أيضا نظرة أوسع حول الكيفية التي تعتزم بها واشنطن تعزيز مصالحها الحيوية.
3- تؤكد استراتيجية إدارة بايدن للأمن القومي الامريكي على أن جوهر الصراع القادم سيكون بين ما وصفته بالديمقراطيات مقابل الأنظمة الاستبدادية، الأمر الذي سينعكس بشكل مباشر على صميم مصالح وأهداف الأمن القومي للولايات المتحدة في المنظور القريب، وفي هذا الاطار؛ تستهدف الاستراتيجية تعزيز نظام دولي يفضل الديمقراطية من خلال حشد الديمقراطيات ذات التفكير المماثل للعمل والتعاون بطريقة مشتركة،مع التركيز على استعادة القيم الديمقراطية في الداخل الامريكي والتي تضررت بشدة في السنوات القليلة الماضية.
4- تعتمد استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي على الردع المتكامل، وهو مزيج سلس من القدرات لإقناع الخصوم المحتملين بأن تكاليف أنشطتهم العدائية تفوق فوائدها، وأن الضغط من أجل تحقيق ميزة في مجال واحد ستواجهه الولايات المتحدة بالاستجابة في العديد من المجالات الأخرى.
5- الردع المتكامل يستلزم مجموعة من الخطوات وكما يلي:
•التكامل عبر المجالات -أي-العمل عبر المجالات العسكرية(البرية، والجوية، والبحرية،والإلكترونية،والفضائية)، وغير العسكرية(الاقتصادية، والتكنولوجية،والمعلوماتية).
•التكامل عبر المناطق من خلال مواجهه طموحات المنافسين التوسعية وقدراتهم المتزايدة التي تهدد المصالح الأمريكية في داخل الولايات المتحدة وفي المناطق الرئيسية حول العالم.
•التكامل عبر مستويات الصراع من خلال منع المنافسين من تغيير الوضع الراهن بطرق تضر بمصالح الولايات المتحدة الحيوية بينما لا يزال الصراع تحت عتبه الصدام المسلح.
• التكامل عبر فروع الحكومة الأمريكية-أي- الاستفادة من كافة المزايا الأمريكية، بدءا من الدبلوماسية والاستخبارات والأدوات الاقتصادية، وحتى المساعدة الأمنية وقرارات تمركز القوة.
• التكامل مع الحلفاء والشركاء -أي- من خلال الاستثمار في إمكانيات التشغيل البيني، وتطوير القدرات المشتركة، والتخطيط التعاوني، والمقاربات الدبلوماسية والاقتصادية المنسقة.
6- تبرز استراتيجية الأمن القومي تحديين استراتيجيين يتعين على واشنطن مواجهتهما،هما:
•التنافس بين القوى العظمى لتشكيل مستقبل النظام الدولي.
•التعامل مع التحديات العابرة للحدود الوطنية،والتي تشمل قضايا في مقدمتها تغيير المناخ وتحول الطاقة والتضخم والإرهاب وانعدام الأمن الغذائي والامراض المعدية.
7- ترى الاستراتيجية أن اصطفاف الصين وروسيا مع بعضهما البعض آخذ في التزايد، ومع ذلك تؤكد أن التحديات التي يفرضها كل منهما مختلفة بصورة مهمة.
8- تركز استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بشكل مستمر على الصين التي تصفها بالمنافس الوحيد الذي لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وفي نفس الوقت وبخلاف -روسيا- لديه الموارد الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف،إذ تستثمر الصين في تحديث جيشها بشكل متسارع بحيث نمت قدراته ليس فقط في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولكن بات بإمكانه التمدد أبعد من ذلك، كما تستخدم مواردها الاقتصادية والتكنولوجية لإكراه الدول الأضعف،ومحاولة التأثير على المنظمات الدولية،لذلك تؤكد الاستراتيجية على أن السنوات العشر القادمة ستكون هي العقد الحاسم في المواجهة مع الصين والتي ستحدد موقع الولايات المتحدة التنافسي لفترة طويلة في المستقبل.
9- تحدد الاستراتيجية الأمريكية الأبعاد الثلاثية لمواجهة الصين خلال هذا العقد الحاسم،كما يلي:
•الاستثمار في أسس القوة الأمريكية في الوطن(التنافسية،والابتكار، والمرونة،والديمقراطية).
•مواءمة الجهود الأمريكية مع شبكة الحلفاء والشركاء،والعمل معهم على أهداف ومصالح مشتركة.
• التنافس بمسؤولية مع الصين للدفاع عن المصالح الأمريكية ولبناء رؤية أمريكية للمستقبل.
10- تعطي الاستراتيجية اهمية كبرى للتحديث العسكري لمواجهة التهديدات الصينية في الفضاء والبحر والفضاء الإلكتروني وكلها ساحات تحتاج إلى أسلحة وبرامج واستراتيجيات غير تقليدية،وبينما يقع التفوق التكنولوجي في قلب المنافسة الجيوسياسية طويلة الأجل بين الجانبين، تؤكد الاستراتيجية على تجنب الاعتماد على التكنولوجيا الصينية في المجالات التي تثير مخاطر الأمن القومي، وفرض قيود على نقل التقنيات الحيوية خاصة أشباه الموصلات(semiconductors)
من أمريكا وحلفائها الى الصين، من أجل ضمان سيطرة واشنطن على سلاسل التوريد التكنولوجية باعتبارها أحد المصادر الرئيسية للنفوذ الجيوسياسي في المستقبل القريب، بالإضافة للاستثمارات طويلة المدى في الداخل الأمريكي لزيادة القدرة على إنتاج أشباه الموصلات الأكثر تقدما.
11- تركز الإستراتيجية على ردع بكين عن أي هجوم عسكري على جزيره تايوان في المدى القريب، حيث تؤكد على أن الولايات المتحدة تعارض أي تغييرات أحادية الجانب للوضع الراهن من أي من الجانبين، وفي الوقت نفسه تستخدم الاستراتيجية لغة لا تستعدي بكين حيث تؤكد واشنطن انها لا تدعم استقلال تايوان.
12- فيما يتعلق بروسيا جاءت الاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي صريحة بأن واشنطن ستعمل مع الشركاء لضمان تعرض روسيا لفشل استراتيجي في أوكرانيا، وقد اختلفت هذه الاستراتيجية الجديدة عن الإستراتيجيات السابقة خلال العقدين الماضيين، حيث أشارت إلى أهمية العمل على دمج روسيا مع الغرب، وعلى العكس من ذلك؛ سلطت الاستراتيجية الضوء على الخطر الحاد الذي تشكله روسيا على النظام الدولي عبر مساعيها لرسم حدود وطنية جديدة، ووصفت سياسة روسيا خلال العقد الماضي بأنها إمبريالية،وأن الرئيس بوتين بعد جهود التعاون معه من قبل الغرب أثبت بأنه لن يتغير.
13- تحدد الاستراتيجية الأمريكية نهج مواجهة روسيا والذي بات يعتمد على مسار الحرب في أوكرانيا،كما يلي:
•دعم أوكرانيا ومساعدتها على التعافي اقتصاديا،وتشجيع اندماجها الإقليمي مع الاتحاد الأوروبي.
•التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن كل شبر من أراضي الناتو ومنع روسيا من الإضرار بالأمن والديمقراطية والمؤسسات الأوروبية.
•التزام الولايات المتحدة بالردع،وعند الضروره بالرد، على الإجراءات الروسية التي تهدد المصالح الأمريكية،بما في ذلك الهجمات الروسية على البنية التحتية والديمقراطية الأمريكية.
•عدم السماح لروسيا أو لأي قوة أخرى،بتحقيق أهدافها من خلال استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها، حيث سيضعف الجيش الروسي التقليدي نتيجة الحرب، مما سيزيد على الأرجح اعتماد موسكو على الأسلحة النووية في تخطيطها العسكري.
• ستدعم الولايات المتحدة وتطور أنماطا براغماتية للتفاعل مع القضايا التي يمكن ان يكون التعامل مع روسيا بشأنها مفيدا للطرفين.
14- تعترف الاستراتيجية الأمريكية بعدم واقعية الاعتماد الأمريكي السابق تجاه منطقة الشرق الأوسط على السياسات المتمحورة حول القوة العسكرية وتغيير الأنظمة بالقوة، وفي المقابل تتبنى مقاربة تستند إلى الدبلوماسية وبناء الشراكات والتحالفات ودعم جهود أنظمة المنطقة لتحقيق الاستقرار، أي تقر الاستراتيجية صراحة الانتقال من الخطط الكبيرة الى خطوات عملية براغماتية.
15- تظهر الاستراتيجية مواصلة واشنطن لدورها الأمني في منطقة الشرق الأوسط، بما يشمل تعزيز التكامل الإقليمي وضمان أمن شركائها من التهديدات الإقليمية والخارجية، بالإضافة إلى التأكيد على منع ايران من تطوير أسلحة نووية وذلك عبر المسار الدبلوماسي أو استخدام وسائل أخرى-لم تحددها- حال فشل الدبلوماسية، بينما لم تقدم استراتيجية تجاه الأزمة السورية، واكتفت فقط بالتركيز على جهود واشنطن لمنع عودة ظهور تنظيم الدولة، والحفاظ على خفض التصعيد، واستمرار العمل مع حلفاء واشنطن المحليين - قوات سوريا الديمقراطية- في مناطق الشمال الشرقي لدسوريا.
16- كان من اللافت أن المنطقة لم تظهر ضمن مساحات تحالف الولايات المتحدة محل ألاولوية، وحينما أشارت إلى التحالفات التي ستعمل على تعميق التعاون معها، حددت مجموعه الاندو- باسيفيك كواد (أستراليا، الهند، اليابان، الولايات المتحدة)، مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ تحالف اوكوس (أستراليا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة)؛ واخيرا مجموعة l2-U2 (الهند،إسرائيل،الامارات العربية المتحدة،الولايات المتحدة) وهي المناسبة الوحيدة التي ذكرت فيها دولا من الشرق الأوسط ضمن تحالفات واشنطن محل الاهتمام.
17- تحدد الاستراتيجية مبادئ الامن القومي الأمريكي تجاه الشرق الاوسط؛ كما يلي:
• دعم وتعزيز الشراكات مع الدول التي تشترك في النظام الدولي القائم على القواعد،والتأكيد من أن تلك الدول يمكنها الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية.
•عدم السماح للقوى الأجنبية أو الإقليمية ان تهدد حرية الملاحة عبر ممرات المنطقة المائية، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب، وعدم التسامح مع جهود أي دولة للسيطرة على دولة أخرى أو على المنطقة من خلال القوات العسكرية.
• العمل على تقليل التوترات وخفض التصعيد في الإقليم، وإنهاء النزاعات حيثما أمكن ذلك من خلال الدبلوماسية.
•تعزيز التكامل الإقليمي من خلال بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية مع شركاء الولايات المتحدة، وفيما بينهم، بما في ذلك هياكل دفاع جوي وبحري متكاملة، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة. • • ستعمل الولايات المتحدة دائما على تعزيز حقوق الانسان والقيم المنصوص عليها في ميثاق الامم المتحدة.
18- تشير الاستراتيجية إلى إن التهديد الإرهابي اليوم هو أكثر تنوعًا أيديولوجيًا وانتشارًا جغرافيًا منذ عقود. إذ توسع تنظيم القاعدة وداعش والقوات المرتبطة بهما من أفغانستان والشرق الأوسط إلى أفريقيا وجنوب شرق آسيا، ولا تزال سوريا واليمن والصومال ملاذاً للإرهاب.وايضا لا يزال العديد من هذه المجموعات يعتزم القيام أو إلهام الآخرين بمهاجمة الولايات المتحدة ومصالحها في الخارج، حتى مع استمرار مكافحة الإرهاب لسنوات. ولفتت الاستراتيجية إلى ان الإدارة تواجه زيادة حادة في تهديدات من مجموعة من المتطرفين العنيفين المحليين في الولايات المتحدة. ومع تطور التهديد، يجب أن يكون النهج مكافحة الإرهاب.
وقد ضعت الاستراتيجية عدة مسارات لمكافحة الإرهاب، وكان من اللافت إيلاء الأهمية الأكبر للإنترنت والعالم الافتراضي في الحصول على المعلومات ومكافحة التجنيد. وكما يلي:
• زيادة التعاون والدعم للشركاء الموثوق بهم، والتحوّل من إستراتيجية بقيادة الولايات المتحدة، ومُمكّنة من قبل الشركاء، إلى استراتيجية يقودها الشريك وتمكّنها الولايات المتحدة.
• بناء أو توسيع أنظمة لمنع واكتشاف والاستجابة للتهديدات
• تعزيز الشركاء في إنفاذ القانون والأنظمة القضائية.
• تحسين وتبادل معلومات التهديد.
• تعزيز أمن الحدود.
• مكافحة تمويل الإرهاب.
• برامج منع الإرهاب وفض الاشتباك المتطرف.
• الوقاية عبر الإنترنت وتجنيد الإرهابيين وتعبئتهم للعنف.
• معالجة أسباب التطرف من خلال الاستفادة من جهود الولايات المتحدة والشركاء لدعم الحوكمة الفعالة.
• تعزيز الاستقرار والتنمية الاقتصادية، وحل النزاعات المستمرة.
• عند الضرورة، يتم استخدام القوة لتعطيل وتقويض الجماعات الإرهابية التي تتآمر ضد الولايات المتحدة أو المنشآت الدبلوماسية والعسكرية في الخارج.
• مواصلة العمل مع الكونغرس لاستبدال التراخيص القديمة للاستخدام العسكري.
• تطبيق استراتيجية مكافحة الإرهاب المحلي التي تمكن واشنطن من فهم ومشاركة بشكل أفضل من خلال المعلومات المتعلقة بالتهديد الإرهابي المحلي، ومنع التجنيد والتعبئة العنف، وتعطيل وردع النشاط الإرهابي المحلي.
• استخدام آليات جديدة، مثل التطبيقات القائمة على الهواتف الذكية، و للقيام بذلك يتم ستثمر ملايين الدولارات في جهود منع العنف القائمة على البيانات، من خلال برامج المنح المتاحة للشركاء الفيدراليين والولائيين والإقليميين والقبليين وغير الربحيين، وكذلك دور العبادة لأنها تواجه تهديدات متزايدة.
• العمل مع الحكومات والمجتمع المدني وقطاع التكنولوجيا للتصدي للإرهاب والتطرف العنيف والمحتوى عبر الإنترنت، بما في ذلك من خلال التعاون البحثي المبتكر.
• تعزيز قوانين وسياسات السلاح المنطقي، ومعالجة أزمة المعلومات المضللة التي يتم توجيهها غالبًا عبر منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الآخر، والتي يمكن أن تغذي التطرف والاستقطاب ويؤدي ببعض الأفراد إلى العنف.
19- تظهر الاستراتيجية بصورة واضحة أن الولايات المتحدة ليس لديها شك في قدرة الصين على تهديد زعامتها الدولية، وأنه بدون إجراءات أمريكية منسقة دوليا عبر شبكة تحالفاتها وشركائها فإن الصين سيمكنها إعادة تشكيل النظام الدولي استنادا إلى مواردها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية المتنامية، في المقابل لا تمثل روسيا من وجهة النظر الأمريكية تهديدا قطبيا بعد أن كشفت حرب أوكرانيا عن حدود قوة موسكو، والتي لم تعد تمثل إلا تهديدا أمنيا لأوروبا أكثر من كونها منافسا دوليا، تمتلك روسيا، مثل الصين، نوايا جادة في إعادة هيكلة النظام الدولي، لكنها بخلاف الصين لا تمتلك الموارد الكافية للقيام بذلك، كما أنها ستكون أضعف بعد حرب أوكرانيا.
20- بالرغم من أن الاستراتيجية الأمن القومي تؤكد على أن واشنطن تسعى للمنافسة والتعايش السلمي وليس إلى المواجهة والحرب الباردة مع الصين، ومع ذلك؛ثم تحديات كبرى ستواجه واشنطن لتنفيذ وعود التعاون والمنافسة بنجاح، لا سيما مع ربط الصين لتعاونها في قضايا حيوية مثل التغيير المناخي برفع العقوبات أو تقديم تنازلات أخرى،كما أن مساعي واشنطن لتعزيز قيم الديمقراطية دوليا-والتي تراها في قلب الصراع مع الصين وروسيا- هي الأخرى ستواجه بتحديات في ظل مواصلة واشنطن دعم حلفاء وشركاء مستبدين، والتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعايير الديمقراطية، خاصة في الشرق الأوسط من أجل الاعتبارات الجيوسياسية الأكثر أولوية.
ـــــــــــــ
https://telegram.me/buratha