د.علي المؤمن ||
هناك خطأ تاريخي شائع بشأن معنى مصطلحي الشيعة والسنّة، وهذا الخطأ هو من مخترعات بلاط معاوية بن أبي سفيان، ويتلخص في أن الشيعة هم شيعة الإمام علي، وأن السنّة هم من اتبع سنّة النبي، أي أن مفردة (الشيعة) هنا تعود على الإمام علي، فيما تعود مفردة (السنّة) على النبي؛ ما يعني أن شيعة علي ليسوا من سنّة محمد. وبذلك أرادت سلطة بني أمية أن تقول بأن معسكر الإمام علي هو معسكر شيعته، أما معسكر معاوية؛ فهو معسكر أهل السنة النبوية؛ ما يعني أن الشيعة هم أتباع علي، وأهل السنّة النبوية هم أتباع معاوية. وهذه الدعاية كانت سلاحاً سياسياً طائفياً ذكياً جداً، انطلى على جمهرة كبيرة من المسلمين. ورغم أن هذا المعنى بدأ مجرد سلاح سياسي إعلامي في معركة آل أمية مع الإمامين الخليفتين علي والحسن، إلّا أنه تغلغل في مفاصل تفكير المسلمين، بفرض السلطة والمصالح؛ حتى تحوّل الى أحد ثوابت عقيدة أهل السنّة، ولايزال.
ثم أضاف الشيخ أحمد بن تيمية على عبارة (أهل السنّة) مفردة ثالثة وهي (الجماعة)؛ ليكون الناتج: (أهل السنة والجماعة)، وهو بذلك كرّس التفسير الأموي السياسي الدعائي المزيف؛ إذ لم يرفع ابن تيمية غطاء سنة محمد عن الشيعة، بل أخرجهم من جماعة المسلمين، حين حصر الجماعة الإسلامية بالطائفة السنّية دون غيرها.
في حين أن المعنى الثابت الصحيح، المتطابق مع حقائق تاريخ المسلمين ومسارات الإنشقاق الأول في يوم السقيفة، وتداعياته خلال عصر الخلفاء الخمسة ( أبو بكر، عمر، عثمان، علي والحسن)، ثم خلفاء بني أمية وبني العباس؛ فهو أن السنّة تعني سنّة الخلفاء، أي أن السنّة هنا منسوبة الى سنّة الخلفاء وليس الى سنّة النبي، لأن الإنشقاق في السقيفة لم يكن - في ظاهره - حول سنّة النبي، ولم يكن لسنّة النبي مدخلية في الخلاف، بل كان الخلاف على من هو الأحق بخلافة النبي؛ إذ قال قسم من المسلمين أن علياً هو أحق بالخلافة، بناء على وصية رسول الله وتوكيداته في عشرات المناسبات، وهؤلاء عرفوا ب "شيعة علي"، بينما رأى آخرون من المسلمين أن أبا بكر هو أجدر بالخلافة، بناء على اقتراح عمر بن الخطاب، وعرفوا فيما بعد بشيعة أبي بكر أو شيعة الخلفاء أو السائرين على سيرة الخلفاء وسنّتهم، أي أنهم "سنة الخلفاء" مقابل "شيعة علي". وبالتالي؛ لايوجد رابط لسنّة النبي بموضوع الخلاف والانقسام، حتى يكون من اختار أبي بكر على سنة الرسول، أي سنيّاً، ومن رفضه ليس على سنّة الرسول.
وهناك دليل آخر، ويتمثل في وصية الخليفة الأول أبي بكر بأن يكون عمر خليفة المسلمين من بعده، وهي الطريقة التي تحوّلت فيما بعد الى سنّة من سنن الوصول الى الخلافة، والتي استثمرها الأمويون والعباسيون وغيرهم، فبات الخليفة يوصي لمن بعده؛ لكي لايقال أن الخلافة باتت سلطة ملكية وراثية، بل هي وصية من الخليفة الراحل لمن يلي الأمور بعده، وذلك اتباعاً لسنّة الخليفة الأول أبي بكر. وهذا يثبت بما لاشك فيه إن السنّة هنا هي سنّة الخلفاء وليست سنّة النبي.
أما الدليل الثالث؛ فقد كان المتداول خلال حوارات شورى الستة بعد وفاة الخليفة الثاني، ثم بعد وفاة الخليفة الثالث، هو أن تكون بيعة الخليفة الجديد مشروطة بتمسكة بسنّة الشيخين، أي سنّة أبي بكر وعمر، وكان قبول عثمان بن عفان لهذا الشرط ورفض علي بن ابي طالب له، يعني بوضوح أن موضوع الخلاف هو سنّة الخلفاء وليس سنّة النبي.
والدليل الرابع، هو أن عداء آل آمية وآل العباس لأئمة آل البيت لم يكن موضوعه سنّة النبي، بل لأن الأمويين والعباسيين كانوا يحتجون بسنّة الخلفاء في مواجهة آل البيت وشيعتهم، في حين كان أئمة آل البيت يدعون الى عدم إشراك أية سنّة بشرية أخرى مع سنّة رسول الله، في الاحتكام بقضايا الخلاف العقدي والسياسي بين المسلمين، أي أن بني أمية وبني العباس وعلماء المذاهب الإسلامية الأخرى كانوا يحتجون بسنة الخلفاء والصحابة وسيرتهم، بينما يحتج أئمة آل البيت بسنة النبي.
ثم ظل سؤال أغلب الصراعات المذهبية والطائفية، حتى اليوم؛ هو: من الأحق بخلافة الرسول؟ هل هو علي وأبناؤه؟ أم أبو بكر وعمر وعثمان وسلاطين آل أمية وآل العباس من بعدهم؟ ما يعني أن الصراع هو بين أتباع الأئمة من جهة وأتباع الخلفاء من جهة أخرى. وهو دليل خامس على أن المقصود بمصطلح (أهل السنّة) هي سنة الخلفاء والصحابة وليس سنّة النبي.
وإذا أردنا أن نتعمق أكثر في الحقيقة التاريخية؛ فسنجد أن سنّة رسول الله كانت - في الحقيقة - هي موضوع الخلاف في يوم السقيفة، وليس مجرد الخلاف على من سيخلف النبي في قيادة المسلمين، رغم أن ظاهر الانقسام كان حول موضوع الخلافة، وذلك لأن شيعة علي احتجّوا بسنّة رسول الله في أحقية الإمام علي بالخلافة، بينما رأي أنصار أبي بكر أن وصية النبي لاتدل على ذلك، وأن الأمر متروك لخيارات المسلمين.
وهنا؛ كان الجدال بين من يتمسك بسنة رسول الله، وهم شيعة علي، وبين من يتمسك بخيارات المسلمين، وهم أنصار أبي بكر؛ ما يعني بوضوح أن "شيعة علي" كانوا دعاة التمسك بالسنة، بينما كان أنصار أبو بكر وعمر دعاة التمسك بخيارات المسلمين، والتي تحولت فيما بعد الى خيارات سنة الخلفاء.
وقد استمر الخلاف بين الطائفتين - فيما بعد - على موضوع التمسك بسنة رسول الله؛ فبقي المسلمون الشيعة مصرين على سنة النبي المتجسدة في وصيته لعلي وأبنائه الأئمة، وبقي القسم الآخر من المسلمين مصراً على صحة خيارات الخلفاء، وهم أهل سنة الخلفاء؛ ما يدل - مرة أخرى - على أن الشيعة هم أهل سنة الرسول أو أهل السنة بالمعنى الواقعي، لأنهم تمسكوا بسنة الرسول حين وقع الخلاف، وأن أهل السنة والجماعة - بالمعنى الاصطلاحي السائد - هم سنة الخلفاء وجماعة الصحابة.
وهنا نكرر القول؛ بأن رفض الشيعة لسنة الخلفاء وتمسكهم بسنة الرسول، لايعني أن أهل سنة الخلفاء أو أهل السنة (بالمعنى المصطلح) لا يتمسكون بسنة الرسول، لكن الفرق يتلخص في أن الشيعة يتوصلون الى سنة الرسول عبر أئمة آل البيت حصراً، وهم العترة التي أوصى الرسول أن تؤخذ السنة الصحيحة منها. أما أهل السنة؛ فيتوصلون الى سنة رسول الله عبر صحابته، ومن بينهم الخلفاء.
الخلاصة؛ ينبغي على الأكاديميين المتخصصين والباحثين التاريخيين وعلماء الكلام ودعاة التقريب بين المذاهب، بل عموم المسلمين؛ التنبه الى هذه الحقيقة في حواراتهم وأبحاثهم وكتاباتهم، وأن يسموا الأشياء بمسمياتها الحقيقية والواقعية، وأن يقرنوا كلمة السنة بكلمة الخلفاء، ليكون المصطلح الصحيح "سنة الخلفاء"، وهو ليس طعناً إطلاقاً بعقيدة أهلنا السنة أو انتقاصاً من انتمائهم للإسلام وجماعة المسلمين، بل لتصحيح مفهوم أو مصطلح خاطئ سائد، وهو عمل علمي لاعلاقة له بأي منحى طائفي؛ فشيعة علي وسنة الخلفاء، وجهان لعملة الإسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha