طالب رحمة الساعدي ||
(محمد شرف الدين)
توجد نظريات كثيرة اهتمت بدراسة عوامل قيام الحضارات وانهيارها منها
ثالثا: نظرية التحدى والاستجابة
لماذا تصل بعض المجتمعات إلى مستوى الحضارة، وتخفق مجتمعات أخرى عن بلوغ الحضارة؟
تعد نظرية " التحدى والاستجابة " عند توينبى من أهم النظريات التى قدمت إجابة عن هذا السؤال فى ضوء دراستها لعوامل نشوء الحضارة . فلقد ناقش توينبى معظم النظريات التى حاولت تفسير عوامل بناء الحضارة، وقدم لها العديد من الانتقادات، كما هو الحال بالنسبة لنظرية البيئة ونظرية الجنس كما أوضحنا من قبل .
فقد أنكر توينبي وجود حضارة واحدة قديمة -، مثلا القول ان مصر هي اصل جميع الحضارات، فعند توينبي خمس عشرة حضارة تصل بصلة البنوة بحضارات سابقة، وستة مجتمعات فقط قد انبعثت من الحياة البدائية مباشرة . تلك هي: {المصرية – السومرية – الصينية – المايانية – الانديانية} والاخيرتان نشأتا بأمريكا الجنوبية . - وقال: " أنه لا يمكن ان يُعزى قيام الحضارات الى صفات معينة في جنس من الاجناس، إذ لا يمكن ان يرتبط التفوق الروحي والذهني بلون البشرة فالواقع ان جميع الأجناس قد ساهمت في انبعاث الحضارة ".
كما رأى توينبي أن الصراع والصدام بين الحضارات ناتج من مخيلة الانسان على مدى تطوره الاجتماعي والحضاري، فهناك اللقاء المتناقض بين الخير المطلق وهو الله وبين الشر المطلق وهو الشيطان، هذا اللقاء التراجيدي الرهيب الذي توارثته مخيلة الانسان على مدى التاريخ نجده يتكرر في معظم الحضارات الغربية والشرقية، ونجدها في مصر وبلاد ما بين النهرين، والهند، والاغريق ... فالألم والعذاب وصور النضال ضد الطبيعة والكون هي قصة ماساة الانسان، كما انها هي نفسها قصة الانسان وقصة فدائه، وما لقاء آدم وحواء الا صورة من صور الابداع الاجتماعي الذي انتهى بمولد حضارتين متباينتين، حضارة الخصب عن طريق رعي الغنم التي يمثلها هابيل وحضارة الارض التي يمثلها قابيل . هكذا باختصار بدات الاسطورة المعبرة عن اعمق حقائق صراع الانسان مع الطبيعة والكون من اجل ايجاد مجتمعه وحضارته .
ورأى توينبى أن العامل الإيجابى فى نشوء الحضارة ليس مفردا ولكنه متعدد، وهو علامة مشتركة تكون عند تعرض الإنسان للتحدى وقيامه بالاستجابة لهذا التحدى . فعامل التحدى والاستجابة عنده هو العامل الهام الفعال الأقرب إلى ظهور الحضارة وإلى تقليل عطاء الإنسان فى حالة والعقم فى حالة أخرى، إذ قد توجد البيئة وتنشأ حضارة، وتوجد بيئة مماثلة ولا تنشأ حضارة وسبب ذلك وجود التحدى والاستجابة فى الحالة الأولى، وعدم وجودها فى الحالة الثانية .
وقد يكون التحدى ماديا أو فكريا، والناس ليسوا سواء فى مواجهة التحدى حتى ولو كان هذا التحدى واحدا ، ذلك أن رد فعل الناس يتصل فى بعضه بالقوى السيكولوجية الدفاعة التى يستحيل وزنها وقياسها أو بالأجدى تقديرها مقدما . فالإنسان هو الذى يلعب الدور الأساسى فى التغيير وليست طبيعة التحدى نفسها الإنسان هو الذى يعين مسار الانتقال والتغيير حسب الحال الذى يكون عليها وهى حالة لا يصنعها التحدى ولكنه قد يستثيرها . غير أن الاستثارة وحدها ليست كافية لعملية التغيير، فالتحدى وحده غير جدير بتمكين الإنسان من الانتقال من مرحلة حضارية إلى مرحلة حضارية أخرى، إذ لابد للإنسان حتى يحقق إنجازا ما أن يحوز الكفاية اللازمة للقيام بذلك وإلا ظل حبيس الوهم والتخيل .
إن مبدأ التحدى واستجابة هو المبدأ الأساسى لخلق الحضارة عند توينبى، فنمو الحضارة لا يرجع إلى التوسع الجغرافى للمجتمع، فهذا التوسع يصحبه تخلف وتفكك بدلا من التقدم والنهوض . ولا يرجع نمو الحضارة أيضا إلى التقدم التكنولوجى أو زيادة سيطرة المجتمع على البيئة الطبيعية فلا وجود لأى ارتباط بين التقدم فى التقنية والتقدم فى الحضارة التى تنجح فى الإفصاح عن ذاتها وإرادتها عندما تتخلل قيمتها فى نفوس أبنائها وتبسط معداتها وتقنيتها .
وكل حضارة لها صفة غالبة تختلف باختلاف الحضارة، فقد كانت الصفة الاستاطيقية أو الجمالية أو الفنية هى الغالبة على الحضارة الهيلينية . والدين هو الغالب على الحضارة الهندية والحضارة الأندية " كانت توجد بالقرب من جواتيمالا بأمريكا الجنوبية " والحضارة الغربية خاضعة للآلات والمعدات العلمية وهكذا .
وللحضارة وحدة على رأسها أقلية ذات روح خلاقة، تقلدها الأغلبية وتتبعها بحرية كاملة . فلا وجود فى المجتمع المتحضر لأى صراع دموى، فهو جسم متسق ومتوافق . ومن أهم المشكلات التى تواجه الحضارة أسباب تصدعها وهذه ظاهرة ملحوظة فلم يبقى من الحضارات الكثيرة أكثر من أربع حضارات والأخرى ماتت واقتربت من الاحتضار . والاختلاف بين نهوض الحضارة وتحللها أنه فى حالة النهوض تنجح الحضارة، أو بمعنى أصح تنجح أقليتها الخلاقة فى الاستجابة إلى التحديات المتتالية والمتنوعة التى تواجهها، ولكنها عندما تتدهور تفشل فى مواجهة التحديات .
ولقد لاحظ توينبى فى دراسته للحضارة البشرية أن هناك بعض المجتمعات لم تستطيع الصعود أمام التحديات الطبيعية والبشرية وذلك لشدة هذه التحديات ويسمى توينبى هذه الحضارات باسم " الحضارات المتعطلة " أى التى أخفقت فى استمرارها، ومن أمثلة هذه الحضارات، حضارة الإسكيمو، ومن أمثلة المجتمعات التى استجابت للتحديات " الأسبرطيون" فلقد واجه الاسبرطيون دواعى التحدى الطبيعى والبشرى .
وعامة ترتكز نظرية توينبى فى انهيار الحضارات أصلا على نظريته فى التحدى والاستجابة، فاستمرار التحدى وتكراره فى حضارة من الحضارات إما أن ينتهى باستجابة على التحدى وتصعد الحضارة فى طريق التقدم، وإما أن تخفق هذه الحضارة فى الرد على ذلك التحدى وفى خلق استجابة إزاء تلك التحديات، وهذه السلسة المتكررة من الاستجابة المخففة إزاء هذه التحديات هى فى الحقيقة المصدر الأساسى لتدهور الحضارات .
ولذلك يقول توينبى عن نظريته في التحدي والاستجابة:" اعتقد انه في كل لحظة من حياة كل فرد فينا، وفي كل لحظة من حياة مدنية من المدنيات، يتحدانا على الدوام موقف جديد، موقف علينا ان نواجهه، فاما نجحنا او فشلنا . وقد نفشل في أي لحظة ونبدأ في الانحدار، وقد ننجح ونستمر في العيش ".
ويعني التحدي وجود ظروف صعبة تواجه الإنسان في بناء حضارته وتكون استجابته إما ناجحة إذا تغلب الإنسان على هذه المصاعب، أو استجابة فاشلة إذا عجز الإنسان على مواجهة هذه المصاعب، فالتغلب على هذه المصاعب هو واقعة نمو حضاري، والرضوخ تحت وطأتها عند الانطلاق علامة على الانحلال والسقوط، والتحدي إما يكون ناتجا عن الظروف الطبيعية الصعبة والقاسية أو يكون تحديا بشريا في شكل عدوان خارجي من طرف دولة أو جماعة بشرية أخري معادية.
إن الحضارة في رأي توينبي تواجه أنماطاً مختلفة من التحديات، فاذا ما استطاعت ان تجيب على هذا التحدي، استطاعت ان تعيش وتنمو وتزدهر وإلا فإن مآلها الى الزوال والاندثار فالحضارة تقوم مدفوعة بقانون {التحدي والاستجابة} القائل ان الظروف الصعبة هي التي تستثير الامم على اقامة الحضارات . في سياق توافقي مادي – معنوي ".
وبالرغم من ضرورة تعرض الحضارات للتحديات كشرط أساسى للارتقاء إلا أن هذه التحديات لابد أن تكون متوسطة العنف كى تكون حافزا على مضيها فى الطريق الصاعد . هذا التحدى الوسط بين طرفين: طرف الإفراط وطرف التفريط يطلق عليه توينبى اسم " الوسط الذهبى " الذى يضمن تقدم الحضارات فى طريق الارتقاء لأنه إذا كان التحدى عنيفا فعندئذ سوف تخفق الحضارة فى تحقيق استجابة ملائمة له، وإذا كان ضعيفا سوف تخفق أيضا لأنه حينذاك لن يشكل هذا التحدى دافعا بأى صورة للحضارة وارتقائها.
ومن هنا نلاحظ أن الأحوال الصعبة هى فقط التى تهيئ للبيئات الطبيعة والبشرية فرصة قيام الحضارات . ولذلك يرى توينبى أن هناك خمس دوافع رئيسية تتصل بطبيعة البيئة وهى فى الحقيقة مبدعة الحضارات:-
أولا: دافع الأرض الصعبة:
الدوافع الصعبة التى تواجه الإنسان هى التى تولد لديه قدرة التحدى التى تساهم فى بناء الحضارة فالنهر الأصفر فى الصين – على سبيل المثال – طرح تحديات هائلة للإنسان، فهو لم يكن صالحا فى أى موسم بالإضافة إلى تجمده فى الشتاء، ومع ذلك فقد واجه الإنسان تحديات هذا النهر وحاول أن يغير اتجاهه طوال أربعة آلاف عام إلى أن تمكن من ذلك بالفعل .
ثانيا: دافع الأرض الجديدة:
يرى توينبى أن تاريخ معظم الحضارات يبين أن ذروة ازدهارها كان فى تلك المناطق الجديدة، التى لم تكن من قبل موطنا للأسلاف . فهناك العديد من الهجرات التى حدثت فى التاريخ مثل هجرة التيوكويين والأيوبيين والفلسطينيين والإنجليز ... الخ . وكلها تؤكد حقيقة واحدة وهى انتقال الأنظمة الاجتماعية لهؤلاء المهاجرين إبان حدوث الهجرات، وهكذا تأخذ هذه الهجرات عند توينبى شكل الحافز الحضارى .
ثالثا: دافع النكبات والضربات:
يترتب دائما على دافع النكبات ردود أفعال عديدة تلاحظ بصفة خاصة فى تلك التى تنجم عن الكوارث الحربية وهناك ردود أفعال أخرى يتمثل أهمها فى الردود الدينية من خلال أعمال الرسل.
رابعا: دافع الضغوط:
والمقصود بالضغوط هنا الضغوط الخارجية، أو تلك التحديات الخارجية التى تأتى من الخارج . وتتجلى هذه الظاهرة بوضوح فى تاريخ الحضارة المصرية حيث كان الجزء الجنوبى معرض دائما لضغط قبائل النوبة واعتدائها، ولأن هذا الجزء هو الأكثر تعرضا للتهديد فقد تميز منذ ذلك الحين بنفوذ قوى واستطاع من خلاله مجابهة التحدى الخارجى .
خامسا: دافع العقوبات:
ويرتبط بالتحديات الداخلية التى تصيب جزءا فقط من الكيان الاجتماعى بفقدان القدرة على مواجهة ذلك التحدى .
وإذا كانت هذه الدوافع تساهم فى بناء الحضارات، فإن التحديات لابد أن تكون متوسطة العنف . ومن ثم كان تأكيد توينبى على قانون الوسط الذهبى بدلا من القانون القائل: " كلما زاد التحدى زاد الدافع " .
https://telegram.me/buratha