د.علي المؤمن ||
وجود المذاهب والفرق والطوائف في الأديان والعقائد أمر بديهي ومتجذر في الواقع الإنساني، ولايمكن تجاوزه وتجنبه وتجاهله؛ بل لاينفع أي جهد لمحاربته ومقاومته إطلاقاً؛ إذ تبدأ المذاهب والفرق بالظهور تدريجياً كلما ابتعد أتباع الدين عن زمن التأسيس والتشريع والنبوة، وهي تمثل - عادة - قراءات واجتهادات في ثوابت الدين وأصوله؛ فيما لو كانت أهداف الفقهاء والمتكلمين المؤسسين دينية وأدواتهم علمية، وفي النتيجة؛ يرى كل صاحب مذهب انه على الحق. وهذه سنة الله والتاريخ في الخلق.
ويُستثني من قاعدة الاجتهاد والقراءة العلمية الدينية؛ أصحاب الأهداف الدنيوية السلطوية، الذين عملوا على تأسيس منظومات عقدية مبتدعة في الدين، تتعارض مع الدين نفسه؛ خدمة لأهدافهم السلطوية، ونماذجهم: السامري في اليهودية، وقسطنطين الأول في المسيحية، ومعاوية وآل أمية في الإسلام.
ولايختص ظهور المذاهب والفرق بالإسلام والديانات السماوية؛ بل يشمل الفكر البشري الأرضي أيضاً، فكل مذهب فكري وضعي هو عرضة ليتحول تدريجياً الى مذاهب وطرائق، كلما ابتعد أتباعه عن زمن المؤسس والتأسيس. وربما تكون العقيدة الشيوعية ومذاهبها التي تمثل قراءات واجتهادات في فكر ماركس؛ دليل واضح على هذه الحقيقة.
وبالتالي؛ فإن الحديث عن إلغاء المذاهب والطوائف أو توحيدها أو الرجوع الى أصول الإسلام دون مذاهب؛ إنما هو حديث خيالي وطوباوي. وحتى من يريد، بحسن نية، العودة الى الأصول مباشرة، دون المرور بالمذاهب؛ فستكون له، إلزاماً، قراءته الخاصة واجتهاده المستقل، وسيتحول بمرور الزمن الى مذهب جديد، ثم الى طائفة جديدة.
ومن البديهي أيضاً أن المذاهب الكلامية والفقهية؛ تفرز بمرور الزمان مجتمعات إنسانية خاصة بكل مذهب، وهذه المجتمعات تسمى الطوائف الدينية، وهي تمثل هويات اجتماعية دينية ضاغطة ومائزة، وهو أهم الظواهر التي يدرسها علم الاجتماع الديني. ولا يشترط في الانتماء لهذه المجتمعات أو الطوائف أن يكون الفرد فيها متديناً أو ملتزماً بالفرائض والطقوس، لكنه ينتمي انتماءً اجتماعيا للمذهب وليس انتماءً فرائضياً؛ بل وحتى ليس عقدياً أحياناً. وهذا هو المانع الكبير الآخر أمام إلغاء المذاهب وتوحيدها وتجاوز حقيقتها.
ولكن؛ يمكن التقريب بين أتباع المذاهب وتوحيد توجهاتهم، في إطار اشتراك المصالح الدينية العليا، أو التعايش الوطني والإقليمي، أو أية مصالح مشتركة أخرى، وهي مهمة لا تقتصر على النخبة الفقهية والعلمية والفكرية وحسب، كما يعتقد بعض أصحاب فكرة التقريب بين المذاهب، وهي الفكرة التي أثبتت ضعف فاعليتها على طول التاريخ؛ بسبب اعتمادها حقيقة المذاهب، ممثلة بعلمائها، وإلغائها أهمية مجتمعات المذاهب، ممثلة بالمحاور الفاعلة الأُخر فيها؛ ظناً من أصحاب فكرة التقريب أن مجتمعات المذاهب تنقاد بأكملها الى علماء الدين وحسب، وان علماء الدين السنة والشيعة إذا اتفقوا على شيء؛ فإن الأمة ستنقاد إلى توجيهاتهم تلقائيا.
والحال أن هناك محاور فاعلة ومؤثرة في مجتمعات المذاهب، غير الفقهاء وعلماء الدين، كالمفكرين والمثقفين والكتّاب والإعلاميين والأكاديميين والأدباء والشعراء والخطباء والفنانين وشيوخ العشائر والوجهاء الاجتماعيين والطلبة والشباب والنساء، فضلاً عن المؤسسات التي تضم هؤلاء، وبينها منظمات المجتمع المدني، وكذلك الحكام والسياسيين والقيادات الحزبية والتنظيمية. هؤلاء كلهم فاعلون أساسيون في عملية التقريب بين المذاهب وأتباعها. ولاشك أن إغفال دورهم المصيري هو السبب في عدم فاعلية فكرة التقريب بين المذاهب، والإبقاء عليها في حدود المقولات النظرية والجهود العلمية، وعدم تحولها الى واقع ميداني قائم على أرض مجتمعات المذاهب ( الطوائف).
ألواح طينية ، الجهود العلمية، علي المؤمن
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha