د.علي المؤمن ||
في العراق، وتحديداً في الكوفة وبغداد والنجف؛ نشأ النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، وكانت البداية من الكوفة في فترة خلافة الإمام علي، ثم جاءت الانعطافة الكبيرة في بغداد، حين تحولت الظواهر الاجتماعية الدينية والمعرفية والثقافية والسياسية الشيعية الى نظام ذي هيكلية اجتماعية دينية سياسية، ومؤسسات وأنساق وأعراف، وذلك خلال القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية، ابتداءً على يد السفير الأول الشيخ عثمان العمري، الذي انتقل من سامراء بعد وفاة الإمام الحسن العسكري، واستقر في بغداد، وتحديداً في الكرخ، حيث الكثافة المجتمعية الشيعية، ثم على يد السفراء الثلاثة، الذين قادوا النظام الاجتماعي الشيعي الديني العالمي، انطلاقاً من بغداد أيضاً، بالرغم من وجود فقهاء ومحدثين شيعة كبار في تلك المرحلة، وخاصة في قم والري والكوفة، أهمهم المرجعين الكبيرين الشيخ الكليني والشيخ ابن بابويه القمي. وبعد وفاة السفير الرابع، تواصل عمل المركز القيادي الشيعي العالمي في بغداد في عصور الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشريف المرتضى والشيخ الطوسي.
وحتى حين انتقل المركز القيادي الشيعي من بغداد في عهد شيخ الطائفة الطوسي؛ فإنه لم يغادر العراق، بل استقر في حاضرة فرات أوسطية شيعية خالصة، هي النجف الأشرف. وبمرور السنين؛ بدا وكأن هذا النظام العالمي مطبوع بطابع مجتمعي عراقي، بالنظر الى الكثافة الشيعية المجتمعية المتفردة في العراق، والى كونه تأسس في الكوفة وبغداد والنجف، وأن مؤسسيه في عصر الغيبة هم عراقيون بغداديون بالأصالة أو السكن، وأن الشيعة غير العراقيين، كالفرس والآذريين والهنود والترك والمغول والكرد وغيرهم، أخذوا اجتماعهم الديني من شيعة العراق، وظلت بوصلتهم الاجتماعية الدينية ــ غالباً ـــ تتجه نحو الكوفة وبغداد والنجف وكربلاء والحلة. وقد فصّلت هذا الموضوع في كتاب "الاجتماع الديني الشيعي".
وأوضح هنا نقطتين أساسيتين تتعلقان بدلالات مفهوم الاجتماع الديني الشيعي ومفهوم الاجتماع العراقي، وهما المفهومان اللذان يقوم عليهما البحث:
الأولى: تتعلق بمفهوم الاجتماع الديني الشيعي، والذي يختص بالجانب الاجتماعي الديني، ونظامه وعقله ومنهجه المحرك، وسياقاته وسلوكه العام وعاداته وتقاليده، أي الظواهر الاجتماعية الدينية التي يستوعبها النظام الاجتماعي الديني الشيعي. صحيح أن البيئة الاجتماعية تؤثر في قبليات عالم الكلام والفقيه ومنهجهما في التفكير والاستنباط واتخاذ القرار، إلّا أن هذا الجانب المتعلق بالعقيدة والفقه لايدخل في موضوع بحثنا.
الثانية: حول ما أقصده بالاجتماع العراقي، وهي ظواهر البيئة الاجتماعية العراقية وسلوكياتها الأصلية المتكونة تاريخياً، وليس الاجتماع العراقي العربي الملحق، والممتزج بالاجتماع العراقي الأصلي؛ فسكان العراق الأصليون المؤسسون، هم: السومريون (سكان جنوب العراق) والبابليون (سكان الفرات الأوسط) والفيليون (اللر العيلاميون في جنوب شرق العراق) والفرس (في شرق العراق) والكلدان (في الفرات الأوسط) وعرب المناذرة (الحيرة) وعرب التغالبة (الموصل) والآشوريون (شمال العراق)؛ فهذه القوميات كانت تشكل سكان العراق الأصلي، بخارطته الحالية، قبل الفتح الإسلامي للعراق، ثم استعرب أو استكرد أغلب سكان العراق الأصليين بمرور الزمن.
وبالتالي؛ فإن الاجتماع العراقي ليس عربياً بالأصل، ولم يتكون نتيجة هجرة العرب واستيطانهم فيه، بل هو اجتماع بين النهريني، سومري بابلي بالخصوص، وهو سابق على هجرة العرب الى العراق، بل أن العرب الذين استوطنوا العراق تطبّعوا بطباع أهله الأصليين، واستعرقوا، أي صاروا يفكرون كما يفكر العراقيون، ويسلكون سلوكهم، وبكلمة أخرى؛ أصبحوا جزءاً من عقله الجمعي، بينما تطبّع العرب الذين استوطنوا بلاد الشام ومصر وشمال افريقيا وايران؛ بطباع أهلها أيضاً، وهي طباع مختلفة عن طباع العرب المستعرقين، أي عرب العراق.
(للموضوع تتمة)
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha