د.أمل الأسدي ||
توطئة تأريخية:
اشتعلت نيران الرفض والتمرد ضد الأمويين وبلا هوادة بعد قيام الإمام الحسين(ع)، فقد أسس الإمام وعيا دائم الحياة للمسلمين وللإنسانية، أسس خطا رافضا للظلم بكل أشكاله، والغريب في هذا الخط أنه بقي حيا مقاوما علی الرغم مما بذلته السياسة الأموية وماكنتها الإعلامية الجاهلية المحرضة، فالضخ المالي وشراء الذمم لم يستطع أن يمحو المد الحسيني أو يخمد جذوته، وكلما ظن الأمويون أنهم قطعوا شريان المقاومة واستتب الأمر لهم، يُصدمون بركنٍ مقاوم آخر، وذراع ثائر قادم!! ولاسيما في ظل وجود البيت الهاشمي الذي يقوده الإمام السجاد(ع) والذي اتبع سياسيةً أربكت الأمويين وحيرتهم، فهو من جهة زاهد عابد، ومن جهة متواصل مع شيعته ورعيته، وحتی حجه يكون مشيا علی الأقدام، فيطعم جائعهم، ويؤمن خائفهم، ويقضي حوائجهم!! ومن جهة ثالثة، كان الإمام السجاد يحارب الأمويين ويقف ضد سلوكهم العنصري ضد الإنسانية، إذ انتهجوا سياسيةً وضيعة حولت مدينة رسول الله( صلی الله عليه وآله) من مركز الإسلام وقيام دولته الی مدينة تغص بالعبيد والإماء والجواري والقيان ودور الغناء؛ لذا حارب الإمام هذه السياسية بظاهرة عتق الرقاب، فأضحی منزله مدرسة أو معهدا، يبقی به العبيد والإماء عاما كاملا، يعيشون فيه عيشا كريما مع التغذية الإسلامية الفكرية والروحية، ثم يعتقهم الإمام لوجه الله تعالی(١)،ومع هذا النشاط وهذا التحرك السلمي المتفرد ،والتواصل الدائم مع الناس كافة، بقي الأمويون يشعرون أن هذا البيت الهاشمي هو مصدر النيران الواعية التي تهدد بيوتهم الواهنة!! وبقيت سياستهم عاجزة عن لجم تأثير البيت الهاشمي وعزله عن أذرعه القوية، فهم يرون أن العقول تدبر في المدينة، والأيادي تعمل في العراق، ففي نظرهم العراق ضيعة هاشمية لايمكن فصلها عنهم؛ لذا أرسوا قاعدةً للتعامل مع أهل العراق ألا وهي تسليط أشد الناس ظلما عليهم، وأكثر الناس خروجا عن الدين الإسلامي، وعن المنظومة الإنسانية والأخلاقية،ومن هولاء" الحجاج الثقفي" ذلك السفاح السفاك الذي لم يرتو من دمــــاء العراقيين، إذ قتل مئة وعشرين ألف رجل منهم، وكان يحبس النساء والرجال في سجن واحد، بلاسقف يقيهم الحر أو البرد(٢) ورغم كل هذا الظلم والفتك لم يستتب الأمر للحجاج، وبقيت حركات التمرد تلاحقه، وبقيت الثورات تلاحقه، ومن أهم تلك الثورات، ثورة ابن الأشعث عام (٨١هـ) وتنبع أهميتها وقوتها من اشتراك معظم أهل العراق فيها، من البصرة والكوفة، فقد ثارت القبائل بأشرافها وشعرائها وقادتها،واشترك في الثورة طبقة القراء في الكوفة، واشترك فيها الكثير من التابعين والفقهاء والعلماء، ومن ذلك سعيد بن جبير وكميل بن زياد وغيرهم ، ومن الشعراء أعشی همدان وأبو جلدة اليشكري الذي ارتجز قائلا:
نحن جلبنا الخيـل من زرنجـا
مـالكَ ياحجـاج منّـا منجـا
لتبعجــنّ بالسيـوف بعجــا
او لتفــرّن فـذاك احجـى(٣)
واستمرت الثورة في زحفها وتحقيق أهدافها ضد النظام الأموي حتی أرعب زحفها السلطة فأرسل عبد الملك بن مروان ابنه عبدالله وأخاه محمد بن مروان يحملان عروضاً لإيقاف القتال وهي: ( نزع الحجاج عن العراق وتولي محمد بن مروان أمر العراق وأن تجري عليهم اعطياتهم كما تجري على اهل الشام وأن ينزل ابن الاشعث أي بلد يريد ويكون أميراً عليها ) (٤) ولم يرض العراقيون بعرض الأمويين ، وقد خاف الحجاج كثيرا من قبولهم بهذا العرض، ولكنهم رفضوا ومضوا يحاربون جيش الشام، ووحققوا انتصارات متلاحقة في الدجيل وتستر ، وانسحب جيش الحجاج الی البصرة، وهكذا بقي العراقيون تارة ينتصرون وتارة يتراجعون، واستمر الأمر حتی عام (٨٥هـ) وعلی الرغم من غلبة جيش الحجاج؛لكنها كانت نهايته. فقد أقبل علی قطع رأس التابعي(سعيد بن جبير الأسدي)، ذلك الرجل العابد الثائر الذي خطب في الناس محفزا لهم للثورة ضد الأمويين: (قاتلوهم على جورهم في الحكم وخروجهم عن الدين وتجبرهم على عباد الله وإماتتهم الصلاة واستذلالهم المسلمين)(٥) وقد كان استشهاده إيذانا بهلاك الحجاج،إذ دعا عليه ابن جبير قائلا :(اللَّهمَّ لا تُسلِّطه على أحد يقتله بعدي)(٦)فلم يبق الحجاج من بعده غير أربعين يوما، بقي يردد خلالها: مالي ولسعيد بن جبير؟!
⭕️ مناقشة آراء د. نوري حمودي القيسي(٧):
اخترت أن أحيط المتلقي بتوطئة موجزة عن حركة الرفض والتمرد ضد السلطة الأموية واستمراراها وتمركزها في العراق، ثم سأضع بين يدي القارئ آراء د. القيسي في معرض حديثه عن ثورة ابن الأشعث والشعراء الذين اشتركوا فيها وذلك في أثناء ترجمته للشاعر أبي جلدة اليشكري، إذ وجدناه ينتقد الثورة ويعرّض بسائر الثورات التي قامت ضد الأمويين بما في ذلك قيام الإمام الحسين (ع)، ومن هذه الآراء: [إن سبب هذه الثورة دوافع شخصية وهي كراهية الحجاج وهذا جانب شخصي](٨)
وكذلك قوله:[ أنهم تحولوا من قتال المشركين الى قتال المسلمين من أجل تمزيق وحدة الامة واستحلال سفك الدماء وتجاوز المحرمات](٩) ثم يصرح بوجهة نظره بإزاء كل الثورات المناهضة للحكم الأموي:[ومن الطبيعي أن تكون نهايته هي النهاية المعروفة التي انتهى اليها كل الذين حشروا في الزاوية المعتمة في التاريخ وأرادوا أن يمزقوا وحدة الأمة , وتظل اصداء تراجعهم وحميتهم ماثلة أمامهم )(١٠)
من هذه المقولات نهبط بالزمن إلی حيث الإعلام الأموي والقراءة السلطوية التي أشاعوها حول نهضة الإمام الحسين وأهل بيته ضد الأمويين الذين اختطفوا دين الإسلام، وأسسوا لمملكة حكم ظالم، فقد قالها الإمام الحسين كلمةً مدوية:(وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله،أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي)(١١) ولك أن تتخيل أيها القارئ الكريم،أنه وبعد كل أعمال معاوية وسياسته الشياطنية تجاه الإسلام، والمسلمين ممن يعارض سلطته ويرفض طغيانه، وبعد نقضه عهد الإمام الحسن(ع) وقتله وتولية ابنه الفاسق المتهتك، وعلی الرغم من مواجهة الإمام الحسين لهم بنهضته الخالدة التي فضحت الأمويين، وبينت مدی إجرامهم!! علی الرغم من ذلك كله نجد من يتبع مقولات الإعلام الأموي ويجافي العقل والمنطق والحق، بل ويتحدی الله سبحانه وتعالی ورسالته السماوية!!
والآن لنوجه الخطاب للقيسي ونسأله: كيف استنتج أن ثورة ابن الاشعث كانت لدوافع شخصية؟
كيف توصل الی هذا الرأي الغريب والمصادر التي نقلت أخبار الثورة ذكرت مشاركة اهل البصرة واهل الكوفة واهل المسالح واهل الثغور وطبقة القراء والفقهاء،من أمثال سعيد بن جبير, وكميل بن زياد, وعامر الشعبي, وجبلة بن زحر, ومن غير المعقول أن يجمع هولاء كلهم كره الحجاج فقط لاغير!
ولو افترضنا ذلك جدلاً وقبلنا رأيه لوجدنا تساؤلا يطرح نفسه بقوة وهو : لماذا لم يقبل أهل العراق عرض عبد الملك بن مروان فيعزل الحجاج وتحقن الدماء , إذا كان الباعث الرئيس هو كره الحجاج فقط ؟ وهذا يعني أن المسألة أكبر وأشمل من ذلك بكثير!!
ـ ثم نسأله كيف برر لنفسه تبني طروحات الإعلام السلطوي الأموي القديمة، المفضوحة؟؟
وكيف توصل الی رأي: أنهم تحولوا من قتال المشركين الى قتال المسلمين من أجل تمزيق وحدة الامة واستحلال سفك الدماء وتجاوز المحرمات؟!
وهذا مما أشاعه الأمويون ضد العراقيين، وهم بذلك وهو منهم، يخالفون حتی قول الخليفة الثاني حين وصف أهل العراق بـ(رمح الله, وكنز الإيمان, وجمجمة العرب, يجزون ثغورهم ويمدون الأمصار )(١٢)
ثم اَن الكوفة ومنذ نزول الإمام علي (ع) صارت محطا للتشيع واتباع أهل البيت،فقد نزع الإمام عن أهل العراق التهميش والإقصاء عن المشاركة في الحكم والأُعطيات، فاستمع لكبيرهم وأنصفه، وعطف علی صغيرهم واحترمه، وأشبع جائعهم، وأعاد للإسلام روحه المُحبَّة للإنسان والحياة، ومنذ ذلك الوقت أصبح العراق بلد الأئمة والأولياء والصالحين والتابعين والقراء والعلماء، ولا أدري كيف استطاع القيسي أن يطعن فيهم بكل سهولة ومن غير أدلةٍ منطقية؟
وحسبنا ردا عليه، ما ذكره التابعي(سعيد بن جبير) أثناء دعوته للثورة ضد الأمويين والمشاركة في ثورة ابن الاشعث:(قاتلوهم على جورهم في الحكم وخروجهم عن الدين وتجبرهم على عباد الله وإماتتهم الصلاة واستذلالهم المسلمين) إذن لخص ابن جبير النقاط التي تدعو للثورة ضد الأمويين:
١ـ الجور في الحكم ٢- الخروج عن الدين ٣- التجبر علی عباد الله ٤- إماتتهم الصلاة ٥- استذلالهم المسلمين
فهل يصبح ابن جبير بعد ذلك، هو ومن معه من الثوار ،من الذين تحولوا من محاربة المشركين إلی محاربة المسلمين؟!! هذا وقد ثبّت التأريخ هلاك الحجاج الظالم بعد دعاء ابن جبير عليه ومع ذلك ظل الإعلام الأموي يشتري الألسن والأقلام حتی بعد مضي قرون عديدة!!
فالمصاديق الأموية موجودة وحاضرة، وفي مقابل ذلك مصاديق الخط الحسيني أيضا موجودة، والمواجهة بينهما موجودة، والبقاء دوما للخط الحسيني ومصاديقه.
ـ ثم ننتقل إلی رأي آخر للقيسي وفيه إعمام واضح علی جميع الثورات وحركات الرفض ضد الأمويين، وفي رأيه هذا تجنٍ واضح وإساءة بينة للشاعر (أبي جلدة اليشكري) ولكل من ثار ضد الحكم الأموي بقوله:(من الطبيعي أن تكون نهايته هي النهاية المعروفة التي انتهى اليها كل الذين حشروا في الزاوية المعتمة في التاريخ وأرادوا أن يمزقوا وحدة الأمة , وتظل اصداء تراجعهم وحميتهم ماثلة أمامهم) هكذا يسمح القيسي لنفسه أن يحكم علی كل من ثار ضد الأمويين ويحاكمهم ويعدهم خارجين لتمزيق وحدة الأمة!! في حين أنه في خضم جمع نصوص شعرية لشاعر؛ولكن لا أدري ما المحرك الذي دفعه الی هذا التهجم ومغادرة الموضوعية وهي أهم سمة يُفترض أن يتسم بها المحقق ولاسيما الأكاديمي؟! ولا أدري ماهي معايير القيسي في التراجع؟ وكيف يقرأ التراجع ويتصوره؟ وعلی هذا المنطق يكون كل الأنبياء
والمرسلين قد حشروا أنفسهم في زوايا مظلمة وبقيت أصداء تراجعهم ماثلة أمامهم؛ لأنهم ببساطة خرجوا ضد حكام ظالمين، وأرادوا تحرير الإنسان وتخلصيه من الظلم!!
والغريب أننا نجد القيسي يسقط مقطوعتين من شعر الشاعر (أبي جلدة اليشكري) الأولی: يفتخر فيها ا بنفسه، والأخری:يحرض الناس علی الحجاح الظالم اثناء مشاركته في ثورة ابن الأشعث، تلك الثورة التي اُستشهد فيها.
فكانت المقطوعة الأولی حول خطوبة أبي جلدة امرأة من بني عجل يقال لها (خليعة بنت صعب) , فأبت أن تتزوجه وقالت : أنت صعلوك فقير لاتحفظ مالك ولا تلفي شيئا, وتزوجت غيره فقال أبو جلدة في ذلك : -
لما خطبتُ الى خليعة نفسها
قالت خليعةُ ما أرى لك مالا
أودى بمالي ياخليعُ تكـّرمي
وتخرقي وتَحمـُّلي الأثقـالا
إنّي وجدِك لو شهدتِ مواقفي
بالسفحِ يومَ أُجلّـلُ الأبطالا
سيفي لسرّك أن تكوني خادماً
عندي اذا كره الكماةُ نزالا(١٣)
أما المقطوعة الأخری:
نحـن جلبنا الخيلَ مـن زرنجا
مـالكَ ياحجـاج منّـا منجـا
لتبعجـنّ بالسيـوفِ بعجــا
او لتفـرنّ فــذاكَ احجـى(١٤)
إذن، استعرضنا صفحات من الإعلام الأموي وتعامله مع العراق، وكيف وطد له النظام السابق، وكيف كان مصداقا للحكم الأموي، بسلوكه وبإعلامه وبفقهه السلطوي، وتبريراته غير المنطقية، وهنا أود التذكير بأمر مهم، وهو أن هناك كتابا لايغادر صغيرة ولا كبيرة،وأن للكلمة أثرا، فهي بذرة، فإذا كانت صالحة،أنبتت وصارت شجرةً طيبة!!
وإذا كانت فاسدة، ستنبت أيضا؛ ولكنها ستصبح شجرةً خبيثة!! فكونوا من الذين يزرعون الزرع الطيب، فإن الدنيا دار فناء، ومن بعدنا ستأتي عيونٌ تقرأ ما نكتبه وتحاسبنا وتشكونا إلی الله إذا دلسنا وغيرنا وتركنا الحقيقة!
وأخيرا: السلام علی الإمام الحسين وأهل بيته(صلوات الله عليهم)، والسلام علی الشهداء السعداء الذين مضوا علی نهج الحسين.
...............
١- ينظر: أعلام الهداية، الإمام علي بن الحسين، زين العابدين، المجمع العالمي لأهل البيت:٦/ ٩٦ـ ٧٩ ، ١٥٣- ١٥٥
٢- ينظر: أخبار الدول وآثار الأول، أبو العباس أحمد بن يوسف القرماني:١٣٥- ١٣٦
٣- الأغاني، أبو فرج الأصفهاني: ١١/ ٢٩٣
٤- تاريخ الطبري: ٦/ ٣٤٨
٥- طبقات ابن سعد: ٦/ ٢٦٥
٦- وفيات الأعيان،ابن خلكان: ٢/ ٣٧٢
٧- مؤرخ وكاتب ومحقق عراقي، شغل منصب عمادة كلية الآداب جامعة بغداد لعشرين عاما، توفي عام 1994م.
٨- شعراء امويون، نوري حمودي القيسي : ٤ / ٣٢٢
٩- المصدر نفسه:٤/ ٣٢١
١٠- المصدر نفسه:٤, ٣٢٥
١١- بحار الأنوار، المجلسي:٤٤/ ٣٢٩
١٢- طبقات ابن سعد: ٦/ ٥
١٣-الأغاني، أبو فرج الأصفهاني : ١١/ ٣٠٠
١٤- المصدر نفسه: ١١/ ٢٩٣
https://telegram.me/buratha