د. علي المؤمن ||
"العَلمانية"، هي عقيدة أوروبية، نشأت على قاعدة تفكيك التحالف بين سلطة الدولة والسلطة الدينية، وهو التحالف التخادمي الموروث الذي أسسه الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (272 ـــ 337 م)، خلال انعقاد المجمع المسكوني المسيحي الأول في روما (305 م). ويستلزم ذلك التفكيك:
1- تجريد الملك من سلطته الثيوقراطية الروحية التي تشرعن لها الكنيسة، وإعادته الى طبيعته البشرية العادية
2- تجريد الكنيسة المسيحية عن سلطتها التشاركية في التحكم بقرار الدولة، واجتماعها السياسي والثقافي والمعرفي، ومؤسساتها السياسية والتشريعية والتعليمية والقضائية والعسكرية.
وعلى أنقاض هاتين العمليتين، ولدت العقيدة العلمانية، أي أنها عقيدة صنعها مناخ الصراعات التراكمية الأوروبية بين تحالف الكنيسة المسيحية والملكيات الثيوقراطية من جهة، وبين الطبقات المثقفة والمتعلمة الناقمة على الاستبداد السياسي الشمولي وهيمنة الكنسية من جهة أخرى. وقد استمرت تلك الصراعات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أكثر من أربعة قرون، أي من القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر الميلادي.
أما "العَلمانية المستوطنة"؛ فنقصد بها العقيدة العلمانية المترجمة أو الممنتجة في البلدان الأخرى غير الغربية، أي أنها العلمانية الأوروبية نفسها، ولكنها الصيغة التي استخدمها الأوروبيون كجزء من عناصر الاستعمار القديم والحديث، لترافق جيوش الاحتلال الأوروبي العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، في حملاتها وغزواتها، ويتم توطينها في البيئات المحتلة الجديدة، وخاصة البيئات المستعمَرة العربية والمسلمة، وفرضها أمراً واقعاً فكرياً وقانونياً واجتماعياُ وسياسياً واقتصادياً، بمساعدة عملاء المحتل المخابراتيين والسياسيين والثقافيين، وكذا النخب الثقافية المنبهرة بالتطور العلمي والاقتصادي والسياسي الغربي، وأغلبهم ممن سافر الى أوروبا أو درس فيها، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. أي إن العلمانية المستوطنة هي علمانية غير موضوعية وغير واقعية، لأنها سلعة مصدرة قسراً من أوروبا، ومفروضة بالقوة على البلدان العربية والإسلامية، بصورة مونتاج معرفي، أو نتاج مترجم أو معرّب.
وقد ساهمت أنظمة الاستبداد والتخلف والفساد في البلدان العربية والمسلمة، ولا سيما في الدولتين المستقلتين الأكبر حينها، العثمانية والقاجارية، في خلق الذرائع والمسوغات لعلمانيي البيئة العربية والإسلامية، لطرح العقيدة العلمانية كدين جديد منقذ من كل أنواع الاستبداد السياسي والديني، والتخلف العلمي والمعرفي والاجتماعي، والجوع والفقر والفساد الاقتصادي. وبالتالي؛ تعاضدت أضلاع مثلث: الإستعمار، والنخب العلمانية المحلية، وأنظمة الحكم المحلية، على توطين العلمانية الأوروبية في البلدان العربية والمسلمة، ومحاولة إعادة انتاجها بصيغ هجينة، لتتلاءم مع البيئات المحلية.
وللعلمانية الأوروبية تجليات متعارضة أحياناً، فهناك العلمانية المقترنة بفلسفة الإلحاد، كالوجودية، والعلمانية المقترنة بالإلحاد والمتعارضة مع الليبرالية، كالماركسية (الشيوعية) والاشتراكية، والعلمانية المقترنة بالليبرالية وأصالة الفرد، وهي العلمانية الغربية القائمة حالياً، والعلمانية بثوبها القومي الشوفيني، وهي ايديولوجيا تقوم على التمييز العرقي. ولا يعنينا هنا القواعد التفصيلية لهذه المذاهب الفكرية، بل ما يجمعها من قاسم مشترك، يتلخص في رفض أية علاقة للدين ومؤسسته بالدولة وسلطاتها وتشريعاتها. كما لا تعنينا المناخات الأوربية التي انتجت العقيدة العلمانية، بل محور بحثنا سيدور في الأقسام القادمة، حول موضوع العلمانية في البلدان العربية والإسلامية، والتي أسميناها "العلمانية المستوطنة".