الدكتور علي زناد كلش البيضاني ||
من القلة النادرة جداً أن نجد من مفسري النص الديني ينطلق من ذهنية فارغة بمعنى أن لا تُفرض قبلياته الإعتقادية على رؤاه واتجاههِ التفسيري ، وأن لا يُقحم النوازع والانفعالات الذاتية على الفضاء الواسع للنص وتجريده من الإسقاطات المذهبية والعنصرية والبيئية ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل شكّل المجتمع قوة ضاغطة على التوجه التفسيري لدى المفسرين ، فتنمية التصورات الفكرية وتقبلها بل تخليدها على مر العصور ، كما للرفض وعدم تَقبُل الفكرة وبالتالي حذفها وإبعادها من التداول ، شكّلا صورتين بارزتين في التوجه الفكري لأغلب المفسرين ، ولعل السبب في ذلك مرتبط بثنائية ( الاعتقادات والرغبات ) للمجتمع لا سيما وأن الاعتقاد يطوي بداخله عناصر وأُسس الحكم والتصور والمعرفة بإطارها العام ، بينما تُشكّل الرغبة عناصر الدوافع العميقة المُتجذرة في النفوس ، ومن هنا فقد حدد هذان الأمران وخصوصاً الثاني مسار الكثير من الأفكار والتصورات والمواقف التي تظهر في المجتمع ، فالكثير من هذه الأفكار والتصورات حوربت لاصطدامها برغبات المجتمع وأن كانت تؤطر بإطار الحق المحض ، وقد تدوم ويُكتب لها الاستمرارية بل القبول الواسع إذا كانت تتماثل وفق رغبات المجتمع وأن كانت باطلا محضاً ، ومن هنا ينبغي لنا أن لا نؤسس أو نفترض مسبقاً أن بقاء آراء وأفكار ومواقف دليل على صحتها وأحقيتها ، واختفاء رأي وفكر وموقف وضياعه وعدم استمراره من التداول أو الديمومة دليل على بطلانه وعدم صحته ، إذ إنه كم من رأي سديد وموقف دقيق تم تسطحيه أن لم نقل استبعاده لأنه خالف مزاج العموم من المجتمع ورغبتهم وخصوصاً الفاعلين منهم ، في قبال كم من رأي باطل ومردود عاش إلى الآن ولم يوجه له النقد والاعتراض لأنه ساير منظومة الرغبات ، فأصبح يُنظر إليه كرأي مجيد ، وتصوّر مصيب ، وفكر دقيق ، وبهذا تتشكّل الاسقاطات المجتمعية بتأثيراتها المباشرة على البُنى التفسيرية للمفسرين ، كما أن عمليّة التفسير لم تتم ببراءة تامة دائماً ، إذا ما عرفنا أن حال المُفسر كحال الناس يتأثر بما يجري حوله ، إذ كثير منهم خضعَ لإرادة أولي الأمر وإملاءاتهم الذين حاولوا جاهدين تطويع النص لصالحهم وفي قبال ذلك كانت الأجواء القبلية والمذهبية والعصبيات التي يسميها ابن خلدون بـ " الحميّة " دور في تغذية المفسر وهو يمارس عملية التفسير ، فكان المنتَج التفسيري جزءً لا يتجزء من هذا الخليط ، فديمومة التفسير والمفسر مرتبطة بإعجاب المتلقين الذي عبرَ عن عاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم وهم بذلك راحوا يهللون ويباركون هذا المنجز التفسيري المتساوق مع رغباتهم ، وهذا الأمر يعود على المُفسر بما يشبه التغذية الراجعة لتزيدهُ حماساً في تطويع النصوص رغبةً لجمهوره كما تزيده تطرفاً وتعصباً وقفزاً على الحقائق التي ستُغيّب تحت مطرقة الرغبات ، ولا ننسى التأثير الكبير عندما تحول الأمراء إلى أوصياء على المعرفة حتى وصل الأمر ببعض المفسرين أن يكتب للحكام وعلى نفقة الأخير عندها حل ( نبض الحكام ) محل ( نبض المعنى ) و ( نبض النص ) .
وكما يتأثر المفسرون بمجتمع المتلقين نراه يتأثر بمجتمع المفسريّن سواءً السابقين منهم أو المعاصرين له ، من حيث تعاطيه ومسايرتهِ مع أصحاب الرأي من المفسرين وعدم التعارض معهم حتى لو أكتشف جديداً في بعض الأحيان خوف ردود الأفعال أو عدم الثقة العلمية بنفسه ، وهو بهذا الأمر يُشكّل تبعية ثقافية وفكرية للمفسرين الآخرين يرسمون لهُ آفاقاً ، ويحددون له اختياراته ، و يوجهون له مساراته عندها تبرز التباينات ، وتظهر المفارقات نتيجة تأثره بكل هذهِ المعطيات .
وتأسيساً على ما سبق نجد أن أغلب الباحثين في الحقل التفسيّري يتبعون خطوات من سواهم في الخطوط العريضة فضلاً عن الدقيقة ، بل لا يتحرجون أحياناً من الإكثار من النقل في مجال التفسير كما عبر عنه ابن عاشور في كتابه التحرير والتنوير بقولهِ : " أن التفاسير وإن كانت كثيرة ، إلا أنّك تجد الكثير منها عالة على كلام سابق " .