د. سعد طاهر الهاشمي* ||
لاشك في وجود فروقات كثيرة بين المفكر والباحث، فكل مفكر هو باحث وليس العكس، فهو يختلف عن الباحث باعتبار أن الباحث يعالج قضيةً علميةً أو إنسانيةً محددة،استنادا الی المفاهيم العامة أو القضايا التقليدية في شؤون البحث، فيهدف أو يحتاج إلی الإلمام بالموضوع من الزوايا التي يريد معالجتها؛ لكنها تبقی محدودة المنهج،ومحدودة المعالجة والأهداف، أو محدودة الجوانب الإيجابية التي تترتب عليها. أما المفكر فهو فضلا عن أنه باحث جدير وقدير، لديه قضية عامة، أي أنه يعالج أمورا تهم الأمة أو المجتمع أو تهم الدولة، أو قضية كبيرة تتعدی الحدود الإقليمية للبلدان أو الحدود المصطنعة، فهي تتعامل مع الذهنية العامة للإنسان.
والمفكر يعالج قضايا إشكالية معقدة؛ سواء كانت إشكالات عقائدية إيمانية أم إشكالات أيدلوجيات فكرية سياسية لأنظمة معينة، أم تتعلق بمعالجات لتسلط الضوء علی معاناة الإنسان كفرد أو كجماعة من أجل تحقيق حالة من العدالة والارتقاء بالإنسان الی المستوی الذي أراده الله له كما في قوله تعالی: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ))، وكذلك قوله تعالی الذي جعل فيه الإنسان خليفة له إذا ما تمسك بالأسس السليمة لمعنی الإنسان: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)).
وفي عصرنا الحديث ظهر مفكرون أسهموا بطروحاتهم الفكرية في معالجة مشاكل المجتمعات ومشاكل الدولة كما هو الحال في بريطانيا وفرنسا، ومنهم المفكر الفرنسي (جان جاك روسو) ونظريته العقد الاجتماعي وكذلك (جون لوك) وأمثالهم من الذين أطلقوا أفكارا ونظريات تعالج مشكلات الفرد والمجتمع في ظل حكم الإقطاع الفرنسي قبل الثورة الصناعية، وفي ظل الحالات غير الإنسانية التي كان يعيشها الملوك في بريطانيا، فكان لهولاء الفلاسفة والمفكرين الدور الكبير في إلهاب المشاعر الإنسانية والوطنية، وخلق الوعي للتحرر من القيود التي كانت تضعها القوانيين أو الأعراف السائدة التي تكبل الإنسان وتقيّد حريته وتحجم طاقاته.
ولانتشار أفكار هؤلاء الفلاسفة، وثقتهم بما يطرحونه من نظريات ، أدی ذلك إلی تحول تلك المجتمعات من حال إلی حال أفضل، وهذا مانشهده إلی اليوم من انعكاسات إيجابية في السياسة للدولة الفرنسية والدولة البريطانية ومن حذا حذوهم.
أما علی الصعيد الفكري الإسلامي فلايخفی علی الجميع الانتكاسة التي تعرضت لها الأمة الإسلامية بعد رحيل الرسول الأعظم وانحراف الأمة عما أراده الرسول (صلی الله عليه وآله) وهو خط الإمامة الذي بلّغ به الله تعالی نبيه الكريم ، هذا الانقلاب والانكفاء الذي أدی إلی تراجع المسلمين علی الأصعدة كافة، فكريا وعلميا واجتماعيا. ومن ثم أصبحت المجتمعات الإسلامية متخلفة كثيرا عن مثيلاتها، وذلك بسبب التخلي عما أراده الله (تعالی) من التمسك بالإمامة، وقد دفعت مدرسة أهل البيت (أئمة وأتباع) الضريبة الكبيرة في مختلف الاتجاهات نتيجة ذلك الانقلاب أو التنصل عن القيام بالمهام والمسؤوليات المطلوبة من المسلمين. فكان المفكر الأول الذي صارع وقاوم تلك المواقف المغايرة لقيم الإسلام والإرادة الإلهية، المخالفة لوصايا الرسول، هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخذ علی عاتقه تبيان الانحراف الواقعي السائد الذي سلكه المسلمون بعد رسول الله مقارنة بما يجب أن يكون أو تكون عليه الأحكام الشرعية.
إذن؛ فالإمام علي هو المفكر الأول الذي حمل هم الأمة متمثلا بتضحياته وصبره وخطبه وتوجيهاته ومن ثم أهل بيته بدءاً من السيدة الزهراء (عليها السلام) ووصولا إلی معركة الطف الخالدة واستشهاد الإمام الحسين وأهل بيته، وموقف السيدة زينب الإعلامي الكاشف الفاضح لطواغيت عصرها، وهكذا توالی دور المفكرين لمواجهة الانحراف متجسدا في أدوار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كلاً بحسب عصره ومكانه ابتداءً من الإمام السجاد إلی الإمام المهدي (ع).
لقد استمر منهج مقاومة الانحراف ومواجهة الطواغيت وتصحيح الجانب الثقافي والعقائدي عن طريق نواب الإمام المهدي، وكذلك المراجع الكرام الذين يمثلون خط الامامة، ودورهم كلا حسب عمله وميدان اجتهاده وواجبه في الحفاظ علی القيم الإسلامية السليمة. وهنا لابد أن نقف عند منعطف تأريخي كبير، منعطف إيجابي مسدَّدٍ بتسديدٍ إلهي ومؤيد بشفاعة محمد وآل محمد، وهو ما قام به الإمام الخميني (قدس) وتأسيسه لفكرة كبيرة وثورة عظيمة لبناء دولة للاسلام، فهو مفكر وقائد ثوري، سواء أكان في مجال العلم وميادينه النظرية أم كان في الميدان العملي مع الجماهير علی الصعيد الثوري، لتحقيق النظرية التي يؤمن بها وتنفيذها في حالة من التطبيق الواقعي الواعي وبتأييد من الجماهير وتماسكها ، مما أدی إلی تأسيس دولة إسلامية كبری، نطاقها الجغرافي هو الجمهورية الإسلامية في ايران، ومجال تطبيقها هو كل الكرة الأرضية، فيشمل الوجود الإنساني أينما كان، أما زمانها فهو ممتد حيث ما امتدت الحياة.
وقد تزامنت مع جهود الإمام الخميني (قدس) جهود الإمام السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رض)، ثم تلاه الإمام السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(رض) وكل من سار علی نهج الإمام الخميني في هذه الفترة الزمنية التي أعادت الروح إلی الجسد الإسلامي، الروح الثورية التي زرعت العزيمة من جديد في صدور المؤمنين، وكل إنسان متبصر، وكل إنسان منصف يقيّم هذه الثورة ويقيّم هذا الفكر المتقد وانعكاسه الإيجابي علی الواقع الذي دفع بالدول الاقليمية نحو الذعر والخوف من امتداد هذه الثورة، فأعدت مؤسسات كبيرة للحد من تأثيرها، والسعي الی تشويه واقعها وتزييف الحقائق وتزويرها.
إذن؛ فدور المفكر الإسلامي كان واضحا في هذه الفترة الزمنية، وحضوره جليٌّ في الواقع الاجتماعي.
ومما أوردناه، نقول وبحيادية وموضوعية؛ يتبين لنا إن كل الموضوعات التي تصدی إليها المفكرون عبر مراحل التأريخ المختلفة، ومحاولاتهم الجادة في وضع الحلول الفكرية والمعالجات الواقعية التي تهم الأمة، نجدها متطابقة بل ومجددة في ما تصدی إليه المفكر الدكتور علي المؤمن، فلم تكن كتاباته ونتاجاته للترفية أو مجرد مجال لطرح أمور ثقافية، وإنما كانت طروحات تحمل هموم أمة بكاملها، وذلك لأنها تتناول قضايا ذات إشكاليات كبيرة، وتقدم الحلول والاقتراحات لمعالجتها وتطرح البدائل الأفضل لتجاوز هذه الإشكالات والوصول إلی مرحلة تقدم الأمة وبما ينسجم مع رقيها ومكانتها. فكان (الدكتور علي المؤمن) المفكر الواعي؛ محل الفخر والاعتزاز من بين مفكرين آخرين، إذ كانت له اليد الطولی والباع الكبيرلخوضه في هذا المجال من خلال ما كتبه وألفه، ومن خلال تواصله المستمر في المؤتمرات والندوات بهذا الشأن.
وأری أن ما ذهب إليه الدكتور المؤمن وما قام به يدخل ضمن الواجب الكفائي، أي أنه حينما تبتلی الأمة ببلاء معين وتحتاج إلی من يدافع عنها، فيتصدی من يستطيع التصدي ليرفع الإثم عن الأمة، وقد قام الدكتور المؤمن بهذا الواجب وتصدی الی هذه المشكلات التي تتعرض إلی هجوم ثقافي وفكري ومحاولات لطمس الهوية الإسلامية، ومحاولات لتشويه المنظومة القيمية، والأخطر من ذلك محاولات تفتيت نسيج الأمة وتشتيتها وتضييع مكتسباتها، وإضعافها وتزييف واقعها. فبرز لنا الدكتور المؤمن بحلول ناجعة حين تناول كيانية الأمة اجتماعيا واعتبارها كتلة بشرية واحدة، تنماز عن غيرها من المجتمعات بغض النظر عن الجانب العقدي والديني، فقد عالج قضية تعدد الهويات وعدم تعارضها وتصادمها مع بعضها، واختزل مساحات إشكالية كبيرة في التأريخ والاجتماع، وبما يتعلق بالهوية الشيعية الإسلامية العالمية وذلك في إصداره الأخير "الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع"، فله منّا وافر التقدير والاحترام ونحن معه يدا بيد نحو تحقيق نهضةٍ تليق بالأمة.
*(رئيس قسم القانون في كلية أصول الدين ــ بغداد)
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha