د. علي المؤمن ||
تتمثل ملاكات الأصالة في التجديد ومعاييره ومقاييسه؛ في التمسك بالثوابت والقواعد المستخلصة منها والادوات التي لاتتعارض معها، ثم التزام النتائج بها؛ لاقتران التجديد بالأصالة وكونه محكوماً بالثوابت. فمثلاً نظام الحدود والقصاص، والنظام المالي، وأنظمة الأحوال الشخصية عموماً، كالإرث والزواج وغيرهما، لا يمكن تغيير مقاييسها وأسسها المنصوصة في الثوابت، ولا يمكن الاجتهاد لتغييرها. فكل تغيير أو تجديد أو اجتهاد يتطاول على كتاب الله (تعالى) والسنة الشريفة، فهو يتجاوز الدائرة الإسلامية، دون أن يؤثر في ذلك زمان ومكان؛ لأن الأصول لا تخضع لعاملي الزمان والمكان. كما أن أي اختلاف في هذا المجال يعرض على الكتاب والسنة، لتحديد مواطن الخطأ والصواب، والأصالة والانحراف في النتائج، سواء أكانت نظريات في الفكر والثقافة أم أحكاماً في الفقه.
والقضية التي لا جدال فيها، هو كون القرآن الكريم والسنّة الشريفة ملزمين بالمطلق؛ لأنها الأصلان الثابتان المقدسان والملزمان بالمطلق، ولكن الاختلاف ينشأ حول فهم ذينك الأصلين المقدسين، وهو ما يتلخص فيما نسميه بـ«الفكر الإسلامي».
قد يقال إن الفكر الإسلامي نتاج بشري يستند إلى النص الإلهي، وبالتالي يكون فيه جانب ملزم (مقدس) وجانب غير ملزم (غير مقدس). وهذا الرأي يتوسط الرأيين الآخرين اللذين يقول أحدهما بأن الفكر الإسلامي نتاج بشري محض، ليس فيه أي جانب إلزامي، والرأي الآخر القائل بأن الفكر الإسلامي محاط بالقدسية، وهو ملزم. وحقيقة الأمر، أن حدود الإلزام تتمثل في حدود العلاقة بين الإلهي والبشري في الفكر الإسلامي. فحين نتحدث عن الفكر الإسلامي، فلا نقصد به التراث وحسب، بل إنه يشتمل على النتاجات الإسلامية المعاصرة أيضاً، والتي تحظى بالشروط المطلوبة لصفة «الفكر الإسلامي». وهذا التحديد له أهمية خاصة؛ لعلاقته بموضوع إلزام المكلّف بالأحكام الفقهية. فالفكر الإسلامي ينقسم إلى مجالين رئيسيين، أحدهما المجال العقائدي، ويدرسه علم الكلام، والآخر المجال الفقهي، وفيه ترتبط القضية ارتباطاً وثيقاً بموضوع «التقليد»، أي تقليد المكلّف للمجتهد في المسائل الفرعية. فكل مكلّف ملزَم بالتقليد (حسب الأدلة التي تطرحها المدارس الفقهية الإسلامية)، والإلزام بالتقليد يتبعه التزام بالفتاوى التي يصدرها ويتبنّاها مرجع التقليد. وهذا النوع الأول من الإلزام. بينما نجد أن المكلّف غير ملزم بفتاوى المجتهدين الآخرين الذين سبقوه أو المعاصرين (عدا الأحكام الولائية).
وهناك اختلاف بين المدارس الفقهية حول حدود الالتزام بمنهج الاستنباط والقواعد لمؤسس المدرسة الفقهية. وهذه القضية عند الإمامية محلولة. حيث إنهم يلتزمون - بشكل مطلق - بالقواعد التي نصّ عليها أهل البيت(ع). وتلك هي أنواع من الإلزام وعدم الإلزام، وهنا تضع معظم المدارس الفقهية الإسلامية الأحكام التي أجمع عليها مجتهدو المدرسة، في إطار أصل «الاجماع» باعتباره كاشفاً عن السنة الشريفة؛ على أنها أحكام ملزمة - أيضاً - للمجتهد وللمكلّف.
أما المجال العقائدي أو موضوعات علم الكلام، فلا فرق فيه بين التراث أو الأفكار المعاصرة، لحرمة التقليد في هذا المجال، والموضوعات العقائدية التي فيها نص مقدس ملزمة للجميع، أما الناتجة عن حركة العقل البشري، والتي تتمتع بالأصالة، ففيها كلام كثير بين أصحاب الاختصاص. يقول مفكر إسلامي: «إن كل ما جاءنا من تراث فقهي وكلامي وفلسفي هو نتاج المجتهدين والفقهاء والفلاسفة والمفكرين، من خلال معطياتهم الفكرية، ولا يمثل الحقيقة إلا بمقدار ما نقتنع به من تجسيده للحقيقة. وبهذا، فإننا نعتبر أن كل الفكر الإسلامي، ما عدا الحقائق الإسلامية البديهية، ليس فكراً إلهياً؛ بل هو فكر بشري يخطئ فيه البشر في ما يفهمونه من كلام الله وكلام رسول الله(ص)».
ويجب هنا الأخذ بنظر الاعتبار أن عدم الإلزام بالتراث الفكري الإسلامي لا يتناقض مع الاعتزاز به واحترامه وإكبار أصحابه وإجلالهم، بل ولا يتناقض مع مبدإ الاستفادة منه إلى أقصى درجات الاستفادة، بما يلبّي حاجة العصر ومصلحة الشريعة، فذلك التراث هو الخزين والأرضية والمنطلق لصياغة الفكر الإسلامي المعاصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha