يتجسد الحل الحضاري في الدولة. فالدولة ضرورة في المجتمع، وهي الاطار العام والحاضنة الكلية التي يلجأ اليها الفرد والمجتمع لحل مشكلاتهما. وغياب الدولة يمثل خللا كبيرا في المركب الحضاري، لان غيابها يعني الفوضى. ولكي تكون الدولة حلا يجب ان تكون دولة حضارية حديثة. فالدولة الحضارية الحديثة هي "الحل الحضاري"، و هذا العنوان ليس شعارا عقائديا ولا سياسيا ولا حزبيا وليس اسم علم. غاية ما في الامر انه وصف للدولة التي تقوم على اساس الصيغة الحديثة لمنظومة القيم العليا التي تضمن اشتغال عناصر المركب الحضاري الخمسة على افضل وجه محقق لوفرة الانتاج وعدالة التوزيع و السعادة وحفظ كرامة الانسان وتكامله. وما ذلك الا لأن هذه الدولة تتعامل مع "الجينات" المسببة للمشكلات الحياتية التي تواجه الانسان، وتعالجها، وتقيم مؤسساتها وبرامجها ومؤسساتها على اساس "الجينات الصالحة" وهي القيم العليا الحافة بالانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل. تمثل هذه القيم مؤشرات للسلوك التي يتم على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وتخلق بالتالي البيئة المناسبة لنمو الجينات الصالحة، وتعطيل الجينات الفاسدة، كما يصورها القران الكريم بقوله:"قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". الدولة الحضارية الحديثة هي الحل لانها توفر البيئة اللازمة لمنع الاختلالات في المركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة بعناصره الخمسة. وتحقق الدولة الحضارية الحديثة ذلك من خلال ركائزها الاساسية ممثلة في المواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث. ولما كان الانسان هو علة الفساد وسبب الاصلاح في نفس الوقت فان الدولة الحضارية الحديثة تعنى بتنشئة مواطنيها التنشئة الصالحة واللازمة لقيامهم بدورهم الايجابي في المركب الحضاري، من حيث العلم والمهارة والالتزام بالقانون وقيم المواطنة الفعالة ومنظومة الحقوق والواجبات. ويتم ذلك، من بين طرق اخرى، عن طريق النظام التربوي الحديث الذي تنفذه المدارس في الدولة الحضارية الحديثة. وهدف المدرسة هو تخريج مواطنين قادرين ومؤهلين من حيث التربية والعلم والمهارة على ان يكونوا مواطنين فعالين يشاركون بايجابية في بناء المجتمع الصالح وتعظيم انتاجيته وتحقيق التعاون والتكافل الاجتماعي. ولهذا يحتل العلم الحديث دورا مهما في حياة الناس في ظل الدولة الحضارية الحديثة. فالعلم الحديث هو الوسيلة الافضل لاستثمار الطبيعة واستخراج ثرواتها وتحقيق التقدم في الزراعة والصناعة والانتاج وتنظيم المجتمع وتسهيل الاجراءات وتحسين حياة الناس. وتشجع الدولة البحث العلمي والاكتشاف والاختراع والابتكار. وتمنع الدولة الحضارية الحديثة الاستبداد والاحتكار واستغلال المناصب الحكومية والاثراء غير المشروع واساءة استخدام المال العام. وهذا كله في الجانب الوقائي، الكلي، اما في الجانب العلاجي الجزئي فان الدولة الحضارية تتوصل الى حل المشكلات التي يتعرض لها المجتمع مثل الفساد او ضعف الانتاجية، او غير ذلك من خلال رؤية حضارية منبثقة بالاساس من منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري، وقد قدمت في مقالات سابقة نماذج لهذه المعالجات الحضارية من خلال منظومة القيم العليا. وبينت ان مشكلة البطالة، على سبيل المثال، تعبر عن وقوع خلل حاد في العنصر الخامس من عناصر المركب الحضاري، وهو العمل. فالبطالة تعني ان هذا العنصر خرج من المركب الحضاري وتعطل دوره. ويجب البحث الدقيق عن اسباب هذا الخلل ومعالجتها مباشرة. ومن الطبيعي ان المعالجة لا تكون بزج الناس في الجهاز الاداري للدولة المتخم بالموظفين؛ لان هذا لا يعيد الحياة الى العنصر الخامس، وانما هو بطالة مقنعة، وزيادة الاعباء المالية الدولة بدون مردود انتاجي. انما يتمثل الحل الحضاري لهذه المشكلة باعادة دمج العنصر الخامس، اي العمل، بالمركب الحضاري، ضمن علاقة انتاجية مع الارض، عبر العلم. وذلك بزج اليد العاملة، مثلا، في مشاريع زراعية، تستثمر الارض، وفي مشاريع التربية الحيوانية، وفي مشاريع صناعية متفرعة عنها مثل صناعة الالبان، وتعليب المنتجات الزراعية، وما شابه. بهذه الطريقة يحقق الحل الحضاري هدفين في آن واحد: توفير فرص عمل للعاطلين، وزيادة انتاجية المجتمع.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha