د.مسعود ناجي إدريس ||
· البيت والاسرة(١٢)،
بناءً على أوامر الإمام الصادق (ع) الإحسان إلى الوالدين وبفضل خدماتهم العديدة ، يمكن أن تحل العديد من المشاكل في الحياة وتوفر أساسًا للنجاح مدى الحياة. وهنا سنذكر بعض الأمثلة من ذكريات رجال عظماء وأشخاص ناجحين في التاريخ بسبب احسانهم لوالديهم:
■ الشیخ الأنصاري رحمة الله عليه
الشيخ مرتضى الأنصاري، من كبار علماء الشيعة في القرن الثالث عشر، وقد تصدى للمرجعية بعد صاحب الجواهر. واشتهر بالشيخ الأعظم ولُقب بخاتم الفقهاء والمجتهدين.
وبسبب نبوغ الشيخ الأنصاري وقابلياته العالية طلب السيد مجاهد من والده أن يتركه في كربلاء للتحصيل، فبقي آخذا عن الأستاذين المشار إليهما أربع سنوات، ثم حوصرت كربلاء بجنود داود باشا، فهاجر منها العلماء والطلاب وبعض المجاورين وهو من جملتهم إلى مدينة الكاظمية.
يروى أن الشيخ الأنصاري قرر بعد عودته من العراق إلى إيران السفر والترحال بين بعض المدن الإيرانية بهدف الإفادة من علمائها، وبما أنّه ـ ولمدة طويلة ـ كان بعيداً عن أمه؛ فلذا لم تأذن له بهذه الرحلات، والشيخ احتراماً لرأيها أخّر سفره حتى تأذن له. فبعد إصرار الشيخ قررت أمه أن تستخير له بالقرآن الكريم، فظهرت هذه الآية:
<وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ》(القصص/٧ )
وبهذا اطمئن قلب الوالدة، وأذنت له أن يتابع مشواره العلمي.
يروى أن أمه رأت في الرؤيا قبل ولادة الشيخ مرتضى الإمام الصادق (ع)، وقد أعطاها قرآناً مذهباً حتى عبّر هذا المنام بالولد الصالح الذي يرتقي إلى مراتب عالية، فقيل: أنّها كانت تحرص على أن ترضعه في حالة الطهارة وعلى الوضوء
نعم ، إن الحليب الطاهر ينتج الفكر الطاهر و الحليب النجس ينتج أفكارًا نجسة. في حوزة النجف كان الشيخ معتاد على ان يذهب إلى والدته عند عودته من المجمع التعليمي ، ويواسي المرأة العجوز ، كان يتحدث معها ويسألها عن الاحوال المعيشة للناس ويمزح معها ويطلب المعذرة منها . ثم كان يذهب إلى غرفة الدراسة والعبادة. ولما توفيت والدة الشيخ الأنصاري بكى بحزن على فراق والدته ، وعلى جسدها الذي لا حياة له ركع وهو حزين وذرف دموع الحداد.
عزاه أحد تلاميذه المقربين وقال له: سيدي العزيز! لا يليق بمقامك العالي أن تذرف مثل هذه الدموع وتجزع لوفاة امرأة عجوز ماتت. رفع رجل التاريخ العظيم راسه وقال:
« يبدو أنك لا تدرك بعد المكانة المشرفة للأم. لقد أوصلني التربية الصحيحة والعمل الجاد لهذه الأم إلى هذه المكانة ، وهي التي خلقت نشأتها الأولية والأساسية لتقدمي وتطوري. في الواقع ، كل نجاحي يعود إلى الجهود الحنونة والصادقة لهذه الأم.»
■ آیة الله المرعشي النجفي « رحمه الله »
السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (1315 ــ 1411 هـ)، من مراجع التقليد في المدرسة الإمامية، وحصل على درجة الاجتهاد في السابعة والعشرين من عمره. من أبرز الخدمات الثقافية التي قدّمها تأسيس المكتبة العامّة المسمّاة باسمه والتي تحتوي على كم وافر من المخطوطات الإسلامية والكتب القيمة في شتى العلوم، وهي تتصدر قائمة المكتبات الإيرانية العامّة،
وتقع في المرتبة الثالثة لأكبر المكتبات في العالم الإسلامي في هذا المجال، إضافة الى هذا فقد قام بتأسيس مدارس علمية كالمرعشية والشهابية والمهدوية والمؤمنية، فبذل جميع ما بوسعه في سبيل العلم والاحتفاظ بالتراث الإسلامي.
عمدت العلوية والدة السيد المرعشيالى إرضاعه على طهارة وكانت تستأجر له علوية أخرى لإرضاعه في الأيام التي لم تكن فيها على طهارة،
وكانت أوّل كلمة نطق بها هي جملة (هو الفتاح العليم) التي لقنّها له الشيخ علي رفيش النجفي. وقد ارتدى لباس طلاب العلوم الدينية على يد والده السيد محمود في حرم أمير المؤمنين علي عليه السلام، وتعلم القرآن المجيد وعلوم اللغة العربية إلى كتاب مغني اللبيب على يد جدته لأبيه شمس أشرف بيجم. إن كتاباته القيمة - التي تقارب مائة وخمسين عملاً حول مواضيع مختلفة - دليل واضح على مقامه العالي.
المرعشي يعتبر من أهم عوامل نجاحه نعمة الحب والامتنان لوالده ودعاء والديه ويقول في مذكراته:
كان والدي يأخذني إلى درس المحقِّق الآخوند عليه الرحمة وعندما كانت والدتي تطلب منه أن اوقظ والدي، صعب علي أن اناديه، فكنت امسح بوجهه وخدّه باطن قدم والدي فيستيقظ بعد دغدغة لطيفة ويرى هذا الموقف المتواضع من ولده البار. فتدمع عيناه رافعاً يديه إلى السماء ويدعو لولده بالتوفيق.
وكان سيّدنا الأستاذ كثيراً ما يقول: إنّما نلت هذا المقام وزاد الله في توفيقي ببركات دعاء والديّ عليهما الرحمة.( همان ، ص ٢٣٤ .)
■ استاذ المطهري « رحمه الله »
قال آية الله المطهري عن احد عوامل توفيقه : 《بعض الاحيان عندما افكر باسرار وجودي واعمالي أشعر بأن من اسباب دخول الخير والبركة إلى حياتي وان يشملني رحمة الله الواسعة هي احترامي واحساني لوالديّ وعلى الخصوص في شيخوختهما ومرضهما. بالإضافة إلى الاهتمام الروحي والعاطفي ، فقد ساعدتهم قدر المستطاع ، على الرغم من فقري والصعوبات المالية ، من حيث نفقات المعيشة.》
قال احد أبناء الشهيد المطهري أيضا في هذا الصدد:
« كلما سافرنا إلى فاريمان (مسقط رأس المطهري) ، كان والدي يذهب إلى منزل والديه أولاً. بعد ذلك يستقبل الأقارب الذين يأتون إلى بيت الشيخ الحاج لرؤيته هو وعائلته. عندما يلتقي بوالديه ، يقبل أيديهم ويأمرنا بتقبيل أيديهم أيضًا》.
■ باستير ، الكيميائي الفرنسي
في الدول الغربية، بسبب حكم التكنولوجيا والصناعة، تكون العلاقات العاطفية ضعيفة وباهتة، والعلاقات العاطفية لأفراد الأسرة متزعزعة وأحيانًا لا توجد علاقات على الإطلاق؛ لكن بما أن المودة والحب فطريتان في كيان بعض الغربيين، وخاصة النخبة المفكّرة، فإن هذا الشعور الداخلي وصوت الضمير لا ينطفئان ويمكن مشاهدتها.
نعم اقتصاديا وعسكريا تبدو الدول الغربية متقدمة ومتحضرة لكنها تعاني بشدة في خط الثقافة والفقر العاطفي. لويس باستير الكيميائي الفرنسي الشهير ومؤلف الاكتشافات العلمية الهامة عندما أثبت صحة نظريته وحقق الشهرة وصعوده عالميا إلى الصدارة، سعت الحكومة الفرنسية إلى تحويل المنزل الذي ولد فيه إلى متحف.
في ذلك الحفل، ألقى باستير خطاب عن منزله المتواضع، قدم الشكر لتضحيات والدته وقال بصوت مرتعش من تأثره: 《لأمي العزيزة! عزيزتي لقد افتقدتكِ في هذا المنزل لسنوات عديدة! أنا مدين لك بكل شيء الآن. أمي الشجاعة! أنت من غرستِ بداخلي كل خير وتضحية وشغف أقدمه لعظمة العلم وعظمة بلادي، وسأستخدمه من الآن فصاعدًا.
العمل الشاق الذي قمت به في المنزل وفي ورشتنا الصغيرة أوصلني إلى البحث العلمي، وعلمني درسًا في الصبر. منذ أن أرسلتني إلى المدرسة رغم الفقر والسكن، علمتني حب الوطن وخدمة الإنسانية -ليل نهار-. الآن اهدي لكِ كل ما يُعطى لي في هذا الحفل أيتها العظيمة. فقط اعلمي أن ابنك اليوم، المنغمس في أمواج الفخر والعز، لا يزال لا يجد نفسه دون والدته العزيزة! في هذا العالم العظيم يرى نفسه وحيدًا وعاجزًا.»..
ـــــــ
https://telegram.me/buratha