رياض البغدادي ||
مثّل انتصار الثورة الإسلامية التي فجرها الامام الخميني (رض) في ايران ، ترجمة أمينة لطموحات الجماهير المغلوبة في الامة الاسلامية بدولها جميعا، وتعبيراً حياً عن روح الإيمان المستند الى تراث الإسلام المحمدي الأصيل ، المنحصر بخط أهل البيت عليهم السلام ، واستجابةً لمتطلبات الحياة الإنسانية العصرية ... فالثورة كانت إنجازاً مهماً لجبهة المقاومة ، والانتصار الأول لها قبل ان تأخذ شكلها الدولي الحالي ...
إن التأسيس الأول لجبهة المقاومة ، رشح من خلال الضرورة التاريخية لحتمية وجودها ، كأداة جهادية افتقدتها الأمة الإسلامية ، في ما بعد ثورات طرد الاستعمار في العشرينات من القرن الماضي . وبمقدار ما كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران حدثاً تأريخياً ، ومفصلاً مهماً في مسيرة الصراع ضد الاستكبار العالمي ، فإن سمات هذا الانتصار ومرتكزاته الأساسية ، قد میزت مسار جبهة المقاومة بما جعل من حضورها واقعاً نوعياً مؤثراً ، وليس مجرد إضافة رقمية للقوى والحركات الثورية في العالم الاسلامي ، وعلى طول المسارات التي تحركت فيها جبهة المقاومة ، كانت سمات ومنطلقات الثورة الاسلامية وأجواؤها ايضاً ، عاملاً اساسياً من عوامل حيوية المقاومة وتميزها النوعي ، وأول هذه السمات إن المقاومة ولدت من رحم المعاناة ، وفي أجواء المعارك و سوح الجهاد ، فكانت حركة ثورية آمنت بالمقاومة والمواجهة المباشرة ، للانقلاب الجذري سعياً لتحقيق الانتصار الحتمي على أعداء الاسلام ، وليس السعي لمجرد الإصلاح الجزئي ، وثاني هذه السمات - ونحن هنا نتطرق لتلك السمات ذات العلاقة بمعالجتنا هذه - إن جبهة المقاومة اتجهت بوعي و إصرار ، نحو نحت طريقها الخاص في المنطلقات والتطبيق . وهذه السمة لها صلة بالولاية التي يؤمن بها خط المقاومة والجهاد ، فحين يرفض الولائيون الواقع ، فهم يقدمون البديل لذلك على شكل نظرية شاملة متكاملة ، وليس مجرد رفض من غير تقديم ما يناسب المرحلة من حلول ...
إن المؤمنين بحتمية المقاومة والقائمين على قيادة حركتها ، عندما يرفضون الواقع المتخلف ، ويطمحون الى تفعيل فرض الجهاد في سبيل الله ، انما يحددون النظرية التي تؤطر هذا الرفض ، وتجعل منه موقفاً إيجابياً لا يكتفي بعرض ( ما لا يريدون ) ، بل يتعداه لتوضيح ( ما يريدون ) ، بل ويحددون حتى الوسائل الجهادية المتطابقة مع نهج أهل البيت عليهم السلام ، فكان أمامهم خياران رئيسان :
الأول : الطرق السهلة ، وذلك بالنزوع نحو التقليد والمحاكاة والتلقي والاستعارة ، والسير في طريق الاستسلام ، الذي سلكته بعض الحركات والانظمة العميلة ، وهو طريق ربما يوفر الأمن الجزئي لحركاتهم وأشخاصهم ، ويؤمّن مصالحهم الدنيوية ، لكنه قطعاً لا يوصلهم الى رضا الله و تحقيق طموحات الأمة ..
والثاني : شق الطريق الخاص بهم ، والغطس في ظواهر الواقع الإسلامي ، واستخلاص نظرية عمل حية متجددة ، توصلهم الى رضا الله تعالى ، وتكون مستجيبة لمتطلبات صنع الحاضر والمستقبل لهذه الأمة ، وتحقيق مطالبها المشروعة .
وقد تمسك المجاهدون السائرون على خط الولاية - بشكل حاسم وقاطع - بالخيار الثاني، ولم يكن هذا التمسك موقفاً ظرفياً إنفعالياً ، بل كان ۔ وما زال ۔ سر قوة جبهة المقاومة وتجددها وحضورها النوعي .. فهذا الخيار جنّبهم السكون والركون للاستعمار والانظمة المستبدة ، التي تسلطت على مقدّرات هذه الشعوب المغلوب على أمرها ، فاكتسب خيار المقاومة بعداً مهماً من أبعاده ، يتمثل بالمعاناة واستخلاص النظرية من خلال الفعل في الواقع والتماس الحي معه.
ومن جهة ثانية ، فإن هذا الخيار التاريخي ، اذ جنب جبهة المقاومة الاستعارة والتلقی ، قادها الى الابداع النظري في ميدان التطبيق ايضا .. فالتمسك بالنظرية الجهادية ، وولوج الطريق الخاص في النظرية والتطبيق ، مقترنة بحماسة المجاهد ومبدئيته وجديته و علاقته بالله تعالى ، فكان لابد ان يقود الى ان تنضح مسيرة الجهاد افکاراً تُغني نظرية المقاومة وتؤكد نجاعتها ..
ففي انتهاج الطريق الخاص ، و الابتعاد عن التلقي والكسل الفكري ، و تحمّل المعاناة على طريق استخلاص الأفكار ، كانت ولازالت جبهة المقاومة تمثل موقعا رياديا يتسم بالاسبقية .. فقبل أن يلجه المجاهدون ، كان الطريق الخاص - على الأقل في منطقة الشرق الاوسط - طريقا محفوفاً بالمخاطر الجمة . إلّا ان جبهة المقاومة بكل فصائلها وهم يرفضون النهج التبشيري المدرسي ، ويصرون على المنهج الثوري الجهادي ، كان قدرهم ومبرر وجودهم ، أن يكونوا سبّاقين ورياديين في هذا الميدان الاساسي ، وكانت فصائل جبهة المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين وغيرها ، من جبهات الصراع قد ابدوا شجاعة ، لم يكن متاحاً للأمة تلمّسها لولا قرارهم التأريخي في ولوج هذا الطريق ، واعلانه في زحمة المواقف الانهزامية التي كانت سائدة ..
لقد عبّر هذا الخيار عن أصالة تاريخية ، وعن مبادرة اقتحامية ، ابعدت المقاومين عن الجمود اولاً ، وعن التقليد والمحاكاة ثانياً ، ووضعتهم على طريق الابداع والتجدد ..
من هنا اتسمت المرحلة الاولى لنشوء جبهة المقاومة وانطلاقها ، وتحديدًا بإنتصار الثورة الاسلامية في ايران ( بمبادرة ) ثورية ، هي احد عوامل قوة المقاومة وانتشارها ، فلو كان الامام الخميني او القادة الاوائل من مؤسسي جبهة المقاومة امثال السيد محمدباقر الصدر و الامام موسى الصدر والسيد عباس الموسوي والسيد محمد حسين فضل الله والسيد محمد باقر الحكيم وغيرهم ،قد انحازوا الى المسالك المطروقة ، والخيارات السهلة لفقدوا مبرراً اساسياً من مبررات وجود المقاومة واستمرارها ، ولتخلفت جبهة المقاومة - بالتأكيد - عن اللحاق بركب الجهاد الذي كان ظهوره حتمياً ، في تلك الفترة الزمنية من عمر الصراع ، ناهيك عن تصدره وقيادته.
ان ذلك يمثل المبادرة في جوانبها النظرية والتطبيقية .. وهذه المبادرة ، في الفكر والممارسة ، كانت اطارا لمسارات جبهة المقاومة وجهادها ... وهي زاخرة بما يؤكد نهج الإقدام والجرأة ، وفي تقبل وتحمل تداعيات طول المسيرة وصعابها ، التي قطعتها المقاومة.
كان ولازال المجاهد نموذجاً حياً للمقاوم المتّسم بالحيوية والفاعلية ، فالمجاهد لم يكن جزءاً من جبهة المقاومة ، بل كان الجبهة نفسها، ويمثل أنموذجها المصغر - جبهة المقاومة في اصغر وحداتها - وحين يتسم منهج المقاومة بالمبادرة المقترنة بالشجاعة والرؤية الجهادية ، فإن المجاهد لابد أن يعكس ذلك في سلوكه وفي تماسه اليومي بالظواهر الحياتية ، وقد جسد المجاهدون التزاما بخط اهل البيت من جهة ، وفي التحليل المستخلص من نظرية المقاومة الذي تنضح به عقولهم من جهة أخرى .. وذلك قدرهم وتلك سمة دينهم المحمدي الأصيل الذي آمنوا به ..
فلو لم تبادر المقاومة ، وتضرب ضربتها الواعية الشجاعة ، وتصنع ثورتها الثانية في العراق لكان الواقع الاسلامي ، وواقع العراق نفسه ، بل وواقع جبهة المقاومة ، في صورة اخرى سلبية يعلم الله مدى ضعفها وهزيمتها ، ولا يبعد ان يكون العراق لا سامح الله ، قد خرج من جبهة الصراع ، من خلال عملية استسلامية كانت كفيلة بإعادة صدام ابن ابيه الى الواجهة العربية ، بعد ظروف عزله إبان غزوه للكويت ..
ولو لم تبادر جبهة المقاومة في التصدي لمؤامرة داعش ، في تحرك سريع اقتحامي تمثل في الاستجابة لقرار المواجهة ، الذي اعلنه المرجع الاعلى السيد السيستاني دام ظله ، وما سبق الفتوى من تحرك فصائل المقاومة للدفاع عن المقدسات في سوريا ، استجابة لقرار الولي الفقيه دام ظله ، لكان واقع العراق بل والمنطقة برمتها لا يمكن توقع فداحته وظلاميته ..
لقد تجنبت المقاومة بقرار انطلاقها وتحركها ، وقوع الامة في شرك الاستسلام ، والتأقلم مع الواقع التطبيعي مع الكيان الصهيوني ، الذي اشاعته الأنظمة العربية العميلة ۰۰
بل على النقيض من ذلك ، كان خط المقاومة يتسم بالاقتحامية والتأهب والتحفز المستمر ، ضد فقدان الحيوية والفاعلية والتجدد .
واذا كانت هذه السمة ( في التأهب والاستعداد المقترن بالوعي ) هي سمة المجاهد وفي المراحل كلها ، فإنها مطلوبة اکثر في ظل العمل الايجابي - العلني .. فتعدد مهام المقاومة وقيادتها لعملية التغيير ، وخطورة المهام التي تتصدى قيادة جبهة المقاومة لإنجازها ، ان ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - يعطى اهمية استثنائية لسمة المبادرة المستندة الى الوعي .. فحركة أي فصيل مقاوم - مهما كانت صغيرة - هي جزء من حركة جبهة المقاومة بشكل عام ، والتي هي محصلة كمية ونوعية للحركات الجزئية ، فبدون هذه الحركات على جزئيتها ومحدودية رقعتها - لن تكون حركة عامة ملموسة بالتأكيد ، فالمجاهد قائد في أي زاوية من زوايا التغيير المطلوب ، وقيادته لن تكون ممكنة ، دون أن يتصف بفهم حركة المقاومة العامة ومستلزمات التطابق معها ، وما يتطلبه ذلك من مبادرة في الفعل في اطار الخط العام ، وبدون ذلك ، تصبح ( قياديته ) ظاهرة مفروضة ، وغير مبررة ، ولا تتمتع بأدنى حدود الشرعية المطلوبة ، والمجاهد يجب ان يتسم - وتلك بديهية دون شك - بأسبقية الوعي والتحليل للظواهر ، فهو ( مجاهد ) ، وهو ( مسلم مؤمن ) في آن واحد . وعندما يفقد اسبقية الوعي ، يصبح انتماؤه للاسلام شكلياً دون شك ..
اننا هنا ، نثبِّت هذه البدهيات ، والتي هي تقالید اساسية في مسيرة الاسلام المحمدي الاصيل ، كمدخل لتشريح ظاهرة مقلقة ومدانة وهي ظاهرة ( الاتكالية والتلقي ) اولا ، وضمور المبادرة وشحوب لونها المشرق ثانيا .. ان هذه الظاهرة خطيرة ومدانة ، لانها تتنافى مع خيار الجهاد والمقاومة ، ومع منهجهما القائم على المبادرة الشجاعة ، وعلى الوعي والمبدئية ، ومع الدور القيادي المطلوب والمفترض في المجاهد ، كل ذلك مقارنةً مع الدور الاسلامي والولائي لجبهة المقاومة، وفي ظل هجوم شرس معادٍ ..
ان امام قيادات المقاومة عيناتٍ ونماذجَ ليست قليلة ، تؤكد وجود الظواهر المرفوضة التالية :
اولا ۔ غیاب او ضعف المبادرة في تحليل الظواهر والمستجدات في حركة المقاومة ، وفي حركة الواقع الذي تعمل فيه وتتحرك ضمنه ..
ثانيا - سيادة موقف ( الانتظار والتلقي والاتكال ) وما يتبع ذلك من کسل فكري ، وضعف في الوعي السياسي - خاصة ..
ثالثا – النظرة غير الصحيحة - واذا شئنا القول النظرة السطحية - للعمل والنشاط الفكري ، وكأنه ترف له صنّاعه ، بصورة تجعل منه عملاً لاحقاً ومتمماً لا غير !!
رابعا - القاء العبء في التحليل وفي صياغة المواقف ، وصولاً للتفصیلات على القيادة ، و إن هذه الظواهر بقدر ما هي غريبة على منهج المقاومة وجهادها ، فإنها مرفوضة ومدانة بالتأكيد .. وجبهة المقاومة ترى في هذه الظواهر ، تعبيرا عن تحول جانب من نشاط الجبهة ، الى عمل و صيغ ادارة تقليدية ..
فإذا كان المجاهد مطالباً بأن يلتزم بالتعليمات وتحليلات قياداته ، فإنه من غير المطلوب والمستساغ التحول من الالتزام بالتعليمات الى انتظارها ..
ان بروز مثل هذه الظواهر المرفوضة تعبير عن ( الكسل ) الذي عطل حركة الوثوب لدى المجاهد ، وحولت العلاقات الجهادية بين الفصائل المتعددة ضمن جبهة المقاومة ، الى علاقات مبتسرة قائمة على الشكلية والاتكالية ،التي تقود الى العلاقات المبتسرة بين المجاهدين ..
فعندما يُسأل المجاهد عن موقف ما ، يجيب : لم يأتنا الموقف حتى الآن ...
ان هذه العلاقة غير صحية وغير قيادية ، فالخط العام لجبهة المقاومة معروف .. وكذلك خطه السياسي ومنهجه الفكري .. لذا فإن حالة التلقي ، حالة خطرة في جبهة المقاومة ، وهي احدى الظواهر التي تقود الى ضعف ثقة المجاهدين بأنفسهم ، فعندما لا يرون روحية متجددة في التعامل اليومي ، يبدأ العمل الجهادي بالتحول الى صيغ ادارية تقليدية ..
ان قيادات جبهة المقاومة، مع امتلاكهم لاسبقية الوعي وشمول النظرة ، بحكم تجربتهم الطويلة في ميادين الجهاد والمقاومة ، فإنهم بحاجة للمشاركة والمبادرة الصاعدة من القاعدة باتجاه القيادات .. ومثل هذا المبادرة لن تتحول الى مساهمة حيوية ، ومحملة بالزخم الحركي المؤثر ، دون أن تصب فيها اسهامات المجاهدين مهما كانت صغيرة ...
فإزاء موقف او حال ما ، كيف سيكون التصرف المفترض في التحليل ، وفي الغطس مع الظاهرة والحال لفهمهما ؟
ان ذلك بالتاكيد سوف لا يتعارض مع موقف يأتي من قيادات جبهة المقاومة..
ان تحرك المجاهد نحو تحلیل الظواهر ، يبعد ذهنيته عن الجمود ، ويمد المقاومة بمقومات صنع القرار قيادياً ، لأن حركة المجاهد هي المجسات الأمامية لقيادته ، فالعلاقة بين الفصائل داخل جبهة المقاومة لیست علاقة ادارية .. انما هي علاقة جهادية ولائية قائمة على المسؤولية المشتركة ، المبنية على اساس العمل الجماعي وروحية التواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ..
ستبقى قيادات جبهة المقاومة ، بحاجة الى المبادرة في اخطر مواجهاتها ، فمبادرة المجاهد لیست حقا له فقط ، بل هي واجب عليه .. والحقوق مترابطة مع الواجبات ، والتخلي عن المبادرة ليس تنازلاً عن حق ، بل هو تفريطٌ مؤذٍ بواجب ، وتقصير خطير في الالتزامات الاخوية الايمانية فيما بينهم.
کیف نغني نظرية المقاومة ؟ وكيف نرفد مسيرتها بإلتزامنا بمنهج اهل البيت عليهم السلام ، كما حصل في العراق في ظروف الجهاد السري ؟ او ما حصل في ايران ايام المواجهة مع الشاه ؟
كيف استطاع اولئك المجاهدون ان يقودوا انفسهم بإنفسهم ؟ كيف كانوا يبنون الوعي والفكر و بالوقت نفسه ، يقدمون التضحيات وفي ظل معاناة المواجهة الشرسة ؟
نقول کیف يمكننا ان نقرأ تلك التجارب ، اذا لم نبادر في بناء شخصياتنا الفكرية ، لنكون قادرين على التحليل والاستقراء المسبق ، لمواقف حركتنا او فصيلنا الجهادي ، ما دام خطه العام معروفاً ؟
ان موقف التلقي والاتكال ، لا يخرج من اطار هذه العوامل ، منفردة او مجتمعة :
أولا - تخلف في الوعي ، قائم على عدم بذل الجهد الشخصي في البناء الفكري ، والمتابعة لما ينشره العلماء والفقهاء والمفكرون ، في ادبيات الجهاد واحكامه الفقهية ، وتقصير في الاطلاع على الموروث الروائي الذي يعزز ارتباطنا بأهل البيت عليهم السلام ، وهذا عامل مرفوض قطعا .. . فأي عذر لهذه الظاهرة كتعدد مسؤوليات المجاهد ، غير مقبول ، فالمجاهد مطالب بأن يخصص فسحة من الوقت ، يومية للقراءة والمتابعة ، ولا نظن - في حالة برمجة وقتنا والاستفادة منه - اننا عاجزون عن تأمين وقت يومي لأدبیات المقاومة ، و نشریاتها على الاقل .
ثانياً : الكسل والاسترخاء ، وتلك صفة غريبة على المجاهدين ۰۰ فالمجاهد قَدَرُهُ المعاناة والمسالك الصعبة ، وهو مطالب بأن ينضح فكره بما يغني نظرية المقاومة ، وما يسهم في صياغة مواقفه ..
ثالثا : ( الوظيفية الإدارية ) والتي جوهرها الحرص على ( المواقع ) والخشية من المبادرة .. ولأهمية هذا العامل لنتحدث عنه بشيء من التوسع ۰۰
الموقع الجهادي ، هو مفصل من مفاصل جبهة المقاومة ، وليس باباً للوجاهة الاجتماعية .. وحين يملؤه المجاهد فإن شرط استمراره الحقيقي فيه ، يتمثل في أن يكون وجوده في هذا المفصل عاملاً ( لتشغيله وتطويره ) ۔ ان صح التعبير - بما يسرع حركة المفاصل الأخرى ، وبصورة مترابطة معها ، فحين يفشل المجاهد في توفير هذا الشرط ، يكون قد خسر الموقع أخلاقياً وجوهرياً ، وان بقي فيه شكلاً واسماً !! ولن يمضي وقت طويل حتى يخسره في الشكل ايضا من ناحية ... ومن ناحية ثانية ، من المفيد ان نتساءل : لماذا يخاف المجاهد من مغبة ونتائج المبادرة ؟
إنَّ ذلك - إنْ وجد - لا يعدو ان يكون :
اولاً عدم ثقة المجاهد بنفسه ۰۰ وهذا غير مقبول ۰۰ وهو مطالب بالصراحة مع فصيلة الجهادي ، لكي يقف الى جانبه في تقويم الضعف في تكوين شخصيته الجهادية ..
ثانياً غياب روح الاخوة والتعامل الديموقراطي ، الذي سيؤدي حتماً الى انکسار معنويات المجاهد ، وغياب روحه المقاومة ، وهذه ظاهرة - ان وجدت - فهي مرفوضة .. وعلينا تحمل مسؤوليتنا في مواجهتها بشجاعة وحزم ، وأيّاً كان السبب ، فإن جبهة المقاومة ترفض وتدين مثل هذه الأرضية ، التي تبنى عليها مواقف الاتكال والتلقي ..
ان الالتصاق الوظيفي يجعل من المجاهد ثقلا معطلاً يسحب الى خلف ، بدل أن يكون - وهذا هو المطلوب - قوة دفع الى أمام ، ومسيرة الجهاد ، وروحها الأصيلة ، ومهامها الخطيرة ، تتطلب الانتماء الصميمي الفاعل ، وليس الالتصاق الشكلي الوظيفي ..
رابعا : المسافة الشاسعة في الوعي ، وفي عمق النظرة بين المجاهدين الأوائل من اصحاب التجربة ، والمجاهدين الجدد من الشباب المقاوم اولا ، وفي الثقة المطلقة باقتدارها وفي صواب صياغتها للمواقف ثانیاً ..
لكن الإقرار بهذه الحقيقة ، والتي هي جانب اساس من صمامات الأمان في حركة المقاومة شيء ، وفي الإفراز السلبي لذلك شيء آخر .. فالثقة بالقيادة ، وباقتدارها مطلوبة ومفترضة ، لكن من غير الصحيح السكوت والانتظار بحجة أن القيادة اقدر ، ومن غير الصحيح ايضا القاء الحمل بكامله ، او بجزئه الاساسي ، على كاهل القيادات ، واذا كان طبيعياً أن تكون القيادات بسبب تجاربها اكثر وعياً لما يجب فعله تجاه ما يحيط العمل من أخطار ، فانه من غير الطبيعي فقدان القدرة على نقل تلك التجارب الى اكثر ما يمكن من المجاهدين ، ولو بالطريق التقليدية لتبادل اطراف الحديث في الجلسات الأخوية ، التي يجتمع فيها المجاهدون ، فليس هناك اجمل من قصص الجهاد ، والحديث عن التجارب الماضية بحلوِها ومرِّها ، ففي تلك القصص عِبَرٌ وتجاربُ ، مفيد جداً نقلها الى المجاهدين الجدد،أعلى الله مقامهم ، وزاد في بصيرتهم وإيمانهم ...
والمجاهدون الجدد كذلك يجب ان يتحملوا جزءا من المسؤولية ، فهم مطالبون باختصار المسافة التي تفصل بين وعيهم ووعي القيادات ، ويجب على دوائر الاعلام والتعبئة الفكرية في الفصائل الجهادية ان توفر المستلزمات اللازمة لذلك ..
خامسا : الخلل في التربية الفكرية الجهادية ، فالجهاد ليس نزهة ، ولا هو عمل يستحق عليه المجاهد أجراً شهرياً وإن كان ذلك ليس عيباً في ان توفر جبهة المقاومة ما يسد حاجة المجاهدين وعوائلهم ، لكن يجب أنْ نعلمَ أنَّ المجاهد لم يُفضِّلْهُ الله تعالى على غيره من المؤمنين ، لمجرد انه يحمل السلاح ويحارب اعداء الدين ، وانما فضّله ، لانه يعبد الله تعالى بهذا الفرض المليء بالأشواك والمحبطات والإرهاق ، والبعد عن الأهل والأحباب ، والعيش في البراري والقفار ، لذلك يجب أن يعمل المجاهد على تربية نفسه ، وامتحانها ومحاسبتها ، لكي لا يسلبه الشيطان عمله العظيم بقليل من المغريات ، التي يضعف أمامها المجاهد بسبب ضعف تربيته الفكرية ...
علينا الاعتراف - مهما كانت هذه الحقيقة مرة ۔ ان واقع فصائلنا الجهادية المباركة ، يشهد ظواهر وان كانت قليلةً ، لكنها غريبةٌ على أجواء الجهاد ، فمنها ماهو قائم على الشكليات وفقدان الروح الاخوية الحية ، والاستعاضة عنها بالاحترام الشكلي وغير الصادق .. إن ممارسة مثل هذه الصيغ الخاطئة والخطرة ستعبر عن نفسها ، وعلى مدى طويل في تكريس وسيادة نهجٍ خاطئٍ ، ووضع نفسي خاطئ ايضا .
ان هذه العوامل الخمسة على انفراد او ككل ، قادت الى وضع ندينه و نرفضه على طول الخط ، ونرى فيه ظاهرة مرضية مقلقة ، ان لم نبادر الى معالجتها ، وإحلال البديل المناسب محلها ، وان كانت تلك السلبيات قليلة واستثنائية ، لكن مع ذلك فالجهاد لا يتحمل اي موقف سلبي ، ولنا في كربلاء عبرة ، حيث أصَرَّ الحسين (ع) ، على تنقية صفوفه من اي انسان لم يكن الجهاد قد اختمر في نفسه وروحه ، فبقي يطلب من اتباعه ان يرحلوا ، وليتخذوا من سواد الليل جملاً ، وقد استمر ذلك الى ليلة العاشر من المحرم ، ولما اطمئن الى نقاء جبهته ، من كل ما يمكن ان يصدر منه موقف سلبي اثناء المعركة ، قام سلام الله عليه وكشف لهم الملكوت ، فأراهم مصارعهم ، وأنبأهم بأسماء قاتليهم ، وكذلك كشف لهم قصورهم في الجنان ، وعظيم ما ينتظرهم من الرضوان ، فصاروا للشهادة اشوق ، والى الحزم في قتال اعداء الله اعظم ، والى نصرة ابن رسول الله اصدق ، فكانوا مثلاً للمجاهدين في سبيل الله ، وقدوة لعشاق الجهاد على مر العصور والأزمان ..
إذن ، مطلوب من المجاهدين الكرام مواكبة ومتابعة النشاطات الفكرية ، لفهم أدبیات الجهاد وأحكامه الفقهية ، وتعزيزاً للعمل الفكري المستند الى سيرة أهل البيت عليهم السلام ، وما كتبه العلماء الأفاضل ، فذلك عامل أساس في وعي المجاهد ، وضمان عدم الوقوع في السلبيات ومنها الاتكالية والانتظار ..
ومطلوب ايضا من المجاهدين (روحي لهم الفداء) ، ان يكونوا بروحية متجددة ، بعيدة عن العمل الوظيفي ، الذي بدأ يغزو الحياة الداخلية لفصائل المقاومة ، فبدل ان نعمل على نقل تقاليد الجهاد واخلاقياته الى الدولة ، صار هناك انتقال لتقاليد الدولة إلى فصائل المقاومة ، ويجب أنْ نعلم أنَّ المجاهد الذي لا يؤدي دوره كمجاهد في المجتمع ، سيعجز عن ممارسة دوره الجهادي في جبهات الصراع ..
إنَّ مَنْ يرتبط بالجهاد ارتباطاً شكلياً ، لامكان له في جبهة المقاومة ، وإنْ حصل على مكان الآن ، بسبب ظروف المرحلة التي نمر بها ، فمن المؤكد ان لا مستقبل له ، والله تعالى فضح المنافقين الذين جاهدوا مع النبي الأكرم (ص) ، وبالرغم من الحاجة الماسة لِحَمَلَةِ السلاح في تلك الظروف ، التي كان الإسلام فيها ضعيفاً، لكن الله كره خروجهم ، فثبطهم عن الخروج مع النبي فقال تعالى : ( وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ . لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) التوبة 46-47 .
وبالمقابل فإن الأبواب الرحبة تفتح أمام المجاهدين ، الذين يعانون كثيراً على طريق إغناء ورفد مسيرة الجهاد ، والذين يستلهمون الشجاعة من إيمانهم بالله تعالى ، وعشقهم لسيرة المجاهدين الأوائل في طريق ذات الشوكة ، الذين فضلهم الله تعالى وقال في سورة النساء الآية 95 (لّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا )
والله تعالى وليُّ التوفيق
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha