د. نعمه العبادي ||
ينتظم طيف من المحتجين على الموقف من اسرائيل خلف مجموعة حجج منها، ان اسرائيل دولة كغيرها من الدول وحالما تقبل المنطقة شراكتها فإنها ستكون شريكاً ايجابياً، تتبادل المنافع والمصالح وفق القواعد الطبيعية لعلاقات الدول، وان اليهود كغيرهم من الشعوب لهم الحق في تكوين وطن يعيشون فيه ويمارسون حياتهم الطبيعية، واسرائيل لم يأتِ منها العداء مثلما جاء من دول وكيانات اخرى، واليهود موجودون في المنطقة منذ زمن قديم وهم شركاء فيها، وان عدداً كبيراً من الدول وخصوصا ما تصنف بالدول الكبرى متصالحة مع اسرائيل بل لها علاقات مميزة معها، فلماذا تتخذون هذا الموقف المتشدد الرافض لشراكة اسرائيل ووجودها؟
ينحل هذا التيار المدافع الى خطين :
- الاول: ويمثل تيار السذج والسطحيين الذين يقرأون الامور بوعي محدود وادوات قاصرة، ويتخذون للامور مقياساً من وهم تخيلاتهم او معارفهم المحدودة، ومن المؤسف ان هذا التيار يتوسع في ظل عملية غسل منظمة واعادة صياغة للعقل والضمير في المنطقة والعالم.
- الثاني: وهو اتجاه منظم مدرب يدرك بوعي ماذا يقول وماذا يفعل، وسوقه لهذه الحجج وغيرها يقع ضمن سياق اوسع واكبر يستهدف بناء قناعات نفسية وفكرية وشعبية لا تقف عند حدود قبول اسرائيل، بل ترفعها إلى درجة الوجود المظلوم الذي يجب على الاحرار والمتنورين بحسب هذه البروباغاندا ان يدافعوا ويذبوا عن اسرائيل المظلومة، او تدخل الى المشهد بمقاربة اخرى مفادها، ان اسرائيل تمثل نموذجاً متقدماً في مجال الديمقراطية والتطور ولذلك لابد من الاحتذاء به.
يتصور الكثير ان جوهر الخلاف مع اسرائيل معتمد على الموقف الفلسطيني، فاذا قبل الفلسطينيون بشراكة اسرائيل ووجودها لابد على الجميع ان يقبلوا المصالحة مع اسرائيل، فاطراف المشكلة هم الاسرائليون والفلسطينيون، وهذا الطرح تزعمته كل محاولات الساسة العرب قديما وحديثا التي سوقت لما يسمى بالسلام الشامل الدائم، واليوم التيار السلماني يتعكز على هذه المقولة الماكرة، ويسوق الامور على ان استجابته ما هي إلا نتاجاً لموقف طيف فلسطيني كبير من عملية السلام،والحقيقة ان موضوع اسرائيل وان كانت فلسطين هي جغرافيا المحنة ومحل الابتلاء إلا ان القبول والرفض لا يتصل بالارادة الفلسطينية، وهو امر يمثل مسؤولية دائرتها اوسع بكثير من فلسطين.
لا بد ان نشدد ونركز على امر بالغ الاهمية مفاده، ان هذا الموقف موجه لاسرائيل الكيان والدولة المدعاة ولا علاقة له باليهودية كدين، وباليهود كأفراد بدون اضافة اسرائيل إليهم، فتاريخ المنطقة مترع بتعايش مميز لكل المكونات والاديان ومن ضمنهم اليهود، ولقد كانوا على مر التاريخ وجوداً مرحباً به، وشريكاً في حياة وتاريخ وحضارات اوطان المنطقة، كما ان اليهودية واي وجود يهودي لا تضاف له اسرائيل او لا يلتزم باسرائيل لا مشكلة معه.
تعرّف اسرائيل نفسها بانها دولة دينية وتناضل من اجل تعميق وترسيخ هذا التعريف، والذي يعني انها دولة لليهود فقط الذين يؤمنون بالصهيونية، ونتيجته لا بد من تطهير كيان اسرائيل من الغرباء وابرزهم ما يسمى بعرب 1948 ولا تقبل اسرائيل النقية حتى وجود مسيحي بروتستانتي كمواطن شريك حقيقي فيها.
قام كيان اسرائيل على اساس فكرة دينية تنحت لنفسها موضعا في مرويات توراتية ( بحسب التوراة المتداولة) وتزاوج هذه المرويات بتلفيق تاريخي تصوغه برواية متداخلة تنتهي الى احقيتها بالزمان والمكان، وترفعها الى مكانة المالك الشرعي للمنطقة بترسيمات جغرافية متفاوتة احد صورها اسرائيل الكبرى التي تضم بخارطتها كل بلاد الشام والعراق، وتضع الكثير من ادبياتها الجيو-استراتيجية المدعومة بنفحات تقديسية ، هذه الجغرافية الموسعة بوصفها احد الاحلام والاهداف الحقيقية، والتي لابد ان يحملها كل اسرائيلي عقائدي في ضميره، كما ان هذه المروية المتعلقة بهذه الجغرافية المبشر بها تضع العنف والقتل والتدمير كمدخل ضروري للوصول الى تحقيق هذه الجغرافية.
تتلخص المشكلة مع اسرائيل الكيان في طبيعة التلازمات والارتكازات والمقولات التي تمثل العماد لبنية الفكر الصهيوني الذي قامت وثبتت عليه اسرائيل، وتكمن المشكلة احيانا في ان اسرائيل الكيان تختفي وتدلس على تلك المقولات والارتكازات لانها تدرك حجم اثارتها للرأي العام المضاد، وترفع تلك الامور الى درجة الاسرار عالية المكانة، والتي لا ينبغي البوح بها او تداولها علنا مع انها المادة الاساس لتكوين الاسرائيلي العقائدي، وجوهر المادة اللاصقة لاجزاء الكيان الاسرائيلي التي تحمل في اعماقها آلاف التناقضات.
تقوم هذه المقولات على سرديات مهمة منها ( علوية وشرفية العنصر اليهودي الاسرائيلي الصهيوني على جميع بني البشر، وهذه العلوية تتضمن حصانة تقديسية لابد على كل العالم بحسب هذا الفكر ان يكون بمثابة العبيد للعنصر الصهيوني، وان تخفيف لهجة الخطاب الذي قد نتلمسه بخصوص هذه النقطة ما هو إلا تكتيك يتم العمل به من اجل اهداف اعلى، ان اسرائيل وحدها الكيان المبارك من الرب والدولة الشرعية في وجودها وكل العالم بما فيه امريكا ممسوس بلوثة شيطانية وغير مؤهل لحمل صفة القداسة، وان هذه القداسة تفرض بحسب الفكر الصهيوني مسؤولية اخلاقية على كل اتباع الاديان واولهم اليهود ان يسخروا كل المصالح العالمية لخدمة اسرائيل المقدسة وان يتعاون الجميع مع اسرائيل حتى بالضد من اوطانهم من منطلق المقدس، وان وجود اسرائيل حتمية دينية تمثل تسلسل كوني بحسب سردية توراتية ملفقة ولابد لاكتمال شموخها ودولتها التي تلبي كامل الطموح ان يتم تخريب عدد كبير من الكيانات والوجودات في المنطقة كمقدمة ضرورية لا مناص منها، وهذا التخريب يجاز فيه استخدام كل الوسائل، فاسرائيل الدينية تؤمن ببراغماتية موغلة في التبرير حد النخاع وترفع الخداع والدسيسة وكل اعمال السوء التي تقام من اجل اسرائيل الدينية الى حد الواجب بل توصفها بانها اعمال في غاية النبل، وباتصال بهذه المقولة فان الممارسة السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية من اجل الحفاظ على اسرائيل الكيان مسوغ لها، بل واجب عليها ان تتخذ كل اشكال الخداع والحيلة والكذب والزيف والتضليل والعنف والتدمير والاضرار من اجل ان تحافظ على سلامة اسرائيل، كما ان هناك جزءاً مهماً يتعلق بالبعد المستقبلي لاسرائيل الكيان، إذ تربطه هذه السرديات والمقولات بعوامل مقدسة مشكلة من مظفورة تاريخية- سياسية- دينية تجعل لاسرائيل الغلبة والنصر عقب معارك وحروب وصراعات لابد لها ان تخوضها مع اهل المنطقة وتقضي عليهم فيها، وان الالتزام بهذه السردية فرض واجب في صميم التفكير الصهيوني).
تكشف هذه الخلاصة التي تتصل بسرديات طويلة الذيل لا مجال لذكرها عن الجواب المنطقي لسؤال لماذا الموقف من اسرائيل، وتدق اجراس التحذير والانذار ان ما يسمى بعملية السلام الشامل او التسوية العميقة او صفقة القرن هي اقرار جماعي بقبول هذه المرتكزات والمقولات والرضا بكل لوازمها ونتائجها لان اسرائيل الصهيونية لم ولن تقبل باي تقارب يخدش ولو حرفا واحدة مما تسميه بنيتها المقدسة، وان وسطاء ورعاة ما يتم في المنطقة هم أجراء ( جمع أجير) مدفوع ثمن خدمتهم لهذه المتطلبات، والمتمثل بالسكوت على وجودهم وسلوكهم غير المشروع في دولهم.
آثرت ان اقدم شيئاً اعمق من الاكتفاء ببيانات الادانة (والتي لها مردودها النفسي هذه اللحظات)، لأن معظم البيانات والمواقف الحماسية ربطت في مرات سابقة بلحظات تصعيد ذابت مع تسوية الامور، واجراء بعض التهدئة المؤقتة، ولأذكر اننا في كل الاوقات وبغض النظر عما يجري في الارض الفلسطينية علينا ان نكرر سؤال لماذا اسرائيل، وننطلق في مواقفنا الخاصة والعامة من ثنايا اجابته.
https://telegram.me/buratha