محمد الكعبي ||
لم تكن تلك النصيحة التي انطلقت من عبد الله بن عباس لامير المومنين (عليه السلام) نصيحة عابرة من اجل استمالة الزبير وطلحة وضمهم الئ صف الامام علي (عليه السلام) ابان الصراعات الاولئ من صدر الاسلام, وقد كان جوهر هذه النصيحة ان يسلم الامام علي (عليه السلام) العراق بموجبها للزبير واليمن لطلحة وبذلك يسحب البساط من تحت اقدام المتمردين, الا ان الجواب كان صارما, وينم عن حنكة الامام علي ع؛ حيث قال لايمكنني ان اسلم العراق؛ لان فيه المال والرجال اي فيه طاقة مادية وطاقة بشرية فلايمكن التضحية بهذا الموقع تحت اي فكرة اخرى ، نعم هناك أسباب أخرى منعت أمير المؤمنين ع من التعاطي مع مقترح ابن عباس منها ديني ومنها سياسي ومنها اجتماعي.
العراق منذ القدم يحتل مكانة كبرى في الحدث العالمي. ولا اريد استعرض مكانة هذا البلد تاريخيا بقدر ما اريد الاشارة الى بعض النقاط المهمة والمعاصرة التي توكد اهمية هذا المكان في الحدث المعاصر .
لقد بات العراق محل انظار العالم والكل يترقب احداثة, ولا يمر يوم الا وفيه حدث يأ خذ صداه في الاعلام والاروقة الدولية؛ وهذا نتيجة عوامل عديدة جعلت منه محوراً مهماً في المتغيرات الدولية؛ حيث أصبح محل انظار العالم.
ومن العوامل التي ساعدت في أهمية العراق هي:
* الموقع الجغرافي الحساس الذي يعتبر ممرا مهما بين دول العالم، حيث تحيط به دول سنية وشيعية، عربية وغير عربية؛ مما جعله محل للنزاعات والصراعات والتفاهم والاختلاف والاتفاق حسب الظروف والاحداث . حيث عوامل القوة والضعف كان لها تاثيراً في كثير من المواقف.
* ان لوجود الثروات الطبيعية كالنفط والغاز وغيرها الكثيرة والمتنوعة جعله محط أطماع القوة العالمية.
* وجود الاضرحة والاماكن المقدسة والمقامات والمعابد لمختلف الديانات والمذاهب جعله محل أهتمام العالم ومركز استقطاب لمختلف الناس.
* أن لتنوع الشعب العراقي ــ بين شيعة وسنة وعرب واكراد ومسيح وباقي الديانات والمذاهب ــ له دوراً كبيراً في سياسة الدول العربية والإسلامية والغربيةـ
* وجود النسبة العالية من الشباب فيه، يعتبر العراق من البلدان الشبابية وهذه الخصيصة مهمة في الحسابات السياسية.
* تفوق العقل العراقي ونباهته وتميزه باغلب الانشطة، يعتبر العقل العراقي من العقول النابضة المفعمة بالنشاط والعمل اذا اسثمرت بشكل صحيح.
* شخصية الفرد العراقي القادرة على التكيف بمختلف الظروف, يتميز الشعب العراقي بالقدرة على التحليل والتحول وغيرها من المزايا التي يطول شرحها.
* يعتبر العراق المركز المحرك لجميع المنطقة ، استقراره استقرار للجميع, واضطرابه اضطراب للجميع، مما جعلة محل لكثير من التدخلات الخارجية، وما كان لقول رسول الله (ص) التي تنم عن قرائة موضوعية دقيقة حيث قال (الكوفة جمجمة العرب ورمح اللَّه تعالى وكنز الإيمان فخذ عنهم).
* فقدانه القيادة السياسية الحكيمة على مر تاريخه المعاصر؛ مما جعله ساحة لصراع اقليمي عالمي، ساعد على ذلك وجود قيادات غير وطنية ، بل كان اغلبها مستوردا من هنا وهناك.
العراق يعتبر نقطة التقاء القارة الاسيوية مع القارة الاوربية متمثلة بتركيا من الشمال, كذلك يعتبر نقطة التقاء بين الدول العربي والدولة الفارسي حيث تحده ايران شرقا. وهو ايضا نقطة التقاء العالم الشيعي بالعالم السني ... ولعل هذه النقاط التي اشار اليها كرستوفر السفير الامريكي في العراق تدل على عمق القراءة الامريكية لهذا الموقع الحساس.
بعد هذه المقدمة، نسلط الضوء على بعض الظواهر والحالات والمواقف التي برزت بعد 2003 م خصوصا عند النخبة السياسية المتصدية للعمل الحكومي والاجتماعي التي تستحق الوقوف عندها وتحليلها ومنها :
الاستقواء السياسي ، التهميش، التبعية، المحاصصة، الاسئثار بالسلطة، وعدم وجود خطط استراتيجية مما ادى إلى ظهور مشاكل كبيرة ومتعددة ومختلفة, وقد تجذرت وتعمقت تلك المشاكل في الاوساط السياسية, مما كان لها أثراً واضحاً على النظام السياسي والاجتماعي والاداري والثقافي في المجتمع؛ حتى أصبح المجتمع متحزبا من حيث يشعر أو لايشعر.
ان السياسات الخاطئة أو الغير مدروسة المقصودة وغير المقصودة ، كان أثرها واضحا من حيث تقسيم وتوزيع المناصب الحكومية للمتحزبين والغير اكفاء, فتصدع البناء السياسي والاداري والاجتماعي , وبان الخراب جلياً أمام العيان.
كانت نتيجة ما تقدم فقدان الكثير من الاموال والجهد والوقت حيث عاش اغلب أفراد الشعب العراقي حالة البطالة والتيه والجوع والعوز والمرض والاتكال على الغير؛ مما جعل البعض يشعر بحالة التخبط والانهزامية وفقدان الامل بالاصلاح بسبب الكتل السياسية التي تحكمت بمفاصل الدولة واحكمت قبضتها.
وهذا بسبب الفشل في طريقة أدارة الدولة. لقد كان الفشل واضحاً على المستوى الخارجي والداخلي, بل حتى على مستوى أبسط الحقوق، كل هذا نتيجة فقدان التفكير السليم لادارة البلد والتي تحتاج إلى رجال دولة وهذا طبعا غير متوفر في اغلب المتصدين للمشهد السياسي فكان له تداعيات خطيرة، ومن المشاكل التي برزت:
التنصل عن المسؤولية والقاء اللوم على الاخرين: حيث أصبحت هذه الظاهرة واضحة للعيان ويتناولها المجتمع ويعرفها ويتكلم بها بجلساته الخاصة والعامة, لنأخذ هذه الظاهرة أنموذجاً ونسلط الضوء عليها فنقول مثلا: اغلب الكتل السياسية تتفق على قانون أو مشروع معين وتصوت عليه ــ طبعا غير مدروس دراسة وافيه وهذا بسبب قلة الخبرة والكفائة والاختصاص وعدم وجود رجال يفكرون ببناء دولة ــ وبعد أن ينكشف فشل هذا القرار أو المشروع نرى اغلب الكتل السياسية تتنصل عن مسؤلياتها وترمي التهمة على غيرها باعذار وحجج تافهه تنم عن فقر سياسي.
مثال آخر الكل يطالب محاربة الفساد والاستبداد حتى خرج الشعب العراقي بالشوارع يعبر عن رايه واستيائه من الطبقة الحاكمة، والغريب أن الشارع العراقي تفاجأ ان الكتل السياسية المشاركة بالحكومة ايضا تطالب بنفس المطالب، كانما الشارع خرج على الفساد الموجود في كوكب المريخ، وهذا أسلوب سمج تتبعه احزاب السلطة.
بعض الكتل السياسية تطالب بالتغيير الحكومي ومحاربة الفساد وتقديم الفاسدين الى العدالة علما ان هذه الكتل نفسها مشاركة بالحكومة بل هي جزء من المشكلة وليس من الحل، كل هذا والشعب يراقب ويستغرب من هذا الاسلوب.
مما تقدم نقف أمام خيارات وتحليلات تجعل المراقب يحاول أن يصل إلى نتيجة لمعرفة طريقة تفكير سياسيوا العراق الجديد، لذا انقسم المراقبون السياسيون وعلماء النفس والاجتماع من هذه الظواهر التي برزت من رجال السياسة الجدد إلى عدة أراء فمنهم من يقول أنها:
* كتل بارعة بالسياسة وتريد ان تبرأ نفسها من الفشل المحتمل لكي تحافظ على جماهيرها ومكاسبها ولاتكون بلائمة، فتُحمل الاخرين مسؤولية الفشل، وتقوم بدور المنقذ أو المطالب للشعب وتطلعاته.
* انها كتل لا تتحمل مسؤولية أخطائها و قراراتها وتعيش حالة الانهزامية والجبن السياسي.
* انها كتل ضعيفة فاقدة للثقة بنفسها، حيث تركت الامر بيد غيرها وتركت استحقاقاتها الدستورية.
* كتل سياسية لا تثق بجماهيرها فتخاف منهم لذا تتنصل عن مسؤولياتها وتحاول أن تبرر مواقفها وترمي التهم على الاخرين.
* انها كتل براكماتية ـ الغاية تبرر الوسيلة، والسياسة فن الممكن ـ فتحاول ان تجلب المكاسب وتبتعد عن الخسائر، وهذا الكلام فيه من الصحة الشيء الكثير ، نعم انها كتل مصلحية وتقدم مصالحها الحزبية على كل شيء ولكن لم نلاحظ منها اي تفوق بجانب خدمي أو اداري مما يجعلنا نجزم انها كتل تبحث عن مكاسبها الخاصة بعيدة عن تطلعات الشعب .
* كتل لا تملك روية حقيقية ولا سياسية لانها جديدة على العمل السياسي، كما لا تمتلك الخبرة الكافية.
* كتل مناورة تحاول ان تكسب جميع الاطراف السياسية مع الحفاظ على مكاسبها دون أن تفقد جماهيرها.
النتيجة:
هذه الطريقة من التعاطي السياسي للكتل، افقدها احترامها امام أغلب أبناء الشعب بل وامام خصومهم السياسيين حيث بات السياسي الاخر لا يعير أي اهمية للسياسيين العراقيين.
* فتحت المجال للغرباء ان يتحكموا بالبلد ويمرروا ما يريدون، والكتل السياسية عاجزة عن الاعتراض لانها فقدت قدرتها وقيمتها.
* فتح المجال أمام الاخرين ببناء مدنهم وتمرير القرارات التي تصب في مصلحة البعض دون البعض كل هذا على حساب الاكثرية!
حتى على المستوى المحلي والإقليمي والدولي نجد السياسي الاخر محترم، وأغلب سياسينا لا يعار لهم اي اهمية بل منهم من يحتجز في المطار ومنهم من يحقق معه في هذا البلد وذاك، و منهم من لا يسمح له بدخول بعض البلدان العربية البسيطة والفقيرة فضلا عن البلدان المتقدمة وهذا نتيجة المقدمات الخاطئة التي انتهجها البعض في التعاطي مع الوضع الجديد للعراق.
* قلت الخبرة وضعف الشخصية وركاكة في المنظومة المفاهيمة السياسية والادارية لبعض القادة والسياسيين.
يدرك المتابع ان أغلب السياسيين يعيشون عقدة النقص و الخوف من الفشل نتيجة الماضي الذي كان يعيشه أغلب رجال المعارضة من خوف و جوع واضطهاد وحرمان والاحساس بالدونية من قبل الاخر أثر على شخصياتهم وطريقة تعاطيهم مع المواقف والمناصب الحساسة في البلد بل حتى على تفكيرهم. ليس عيباً ان نتعلم ونستفيد من تجارب الاخرين ونأخذ ما ينفعنا ونطور مهاراتنا وقدراتنا وهذا لايتحقق الا بترك الانانية والنرجسية الوهمية ونحتاج الى مراجعة حقيقية و دقيقة وجادة بدون رمي الاتهامات على الاخر ولا نعيش وهم نظرية المؤامرة الخارجية، علينا قبول النصيحة والتوجية ـ كما اشارت المرجعية المباركة في أحدى خطبها ــ ونجابه الواقع الجديد بكل مافيه من إرهاصات ومشاكل لنستطيع النهوض بالمسؤولية، علينا قبول الخسارة كما نقبل الفوز فهذه هي السياسة، علينا ان نتعلم كيف نناور وكيف نفاوض وكيف نقرر.
ينبغي تأهيل رجال أكفاء وأهل أختصاص للعمل السياسي والاداري والاجتماعي وخصوصا في المراكز المهمة والمتقدمة في البلد من خلال ادخالهم دورات تخصصية ومكثفة في التنمية البشرية وتطوير الذات وفن القيادة والعمل والفكر حتى يعيد السياسي العراقي ثقته بنفسه ويترك لغة الانهزامية والاختباء خلف الكواليس لكي يستطيع ان ينهض من جديد، لابد أن ينسى السياسي الماضي بكل ذكرياته المؤلمة عليه ان ينسى انه معارض بل ينبغي أن يستشعر انه رجل دولة .
لابد أن نواكب المتغيرات ونقتنع اننا جزء منها واننا الاهم في المعادلة الجديدة، ينبغي ان يعيش المتصدي للعمل الجماهيري والقيادي روح القائد والمسؤول والراعي للجميع ويتسع بفكره وتخطيطه ليشمل الجميع ولا يقوقع نفسه بجهة أو كتله.
التجرد عن الازدواجية مهم جدا في العمل الرسالي والسياسي، لكن اليوم مع الاسف أصبحت الازدواجية من خواص السياسة، علينا ان نعيش روح الديمقراطية وسلمية تبادل السلطة، والاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص ولابد من مشاركة الاخرين بالقرار والنصح والتوجيه والاستشارة وترك التعنت والتعجرف والتزمت، عندها نكون قد نجحنا في اختبار السلطة وإدارة الدولة والا فلا.
https://telegram.me/buratha