د. سيف الدين زمان الدراجي ||
" مايُقرره القادة السياسيون، تميل أجهزة الأستخبارات الى السعي لتبريره ". هينري كيسنجر.
تُركز الدراسات الدولية المتعلقة بتقييم عناصر القوة الوطنية – الدبلوماسية والمعلوماتية والعسكرية والاقتصادية – على وضع أُطر عامة لفهم أوسع لدور الاستخبارات في تعزيزمرتكزات ألامن القومي وقدرتها على الاستجابة للظروف الطارئة ومواجهة التحديات، من خلال أنشطة أجهزتها المتخصصة بجمع المعلومات وتحليلها وتقدير المواقف وإعاقة الانشطة الاستخبارية المعادية بالاضافة الى شكل العلاقة مع القيادة السياسية وتطبيق القانون.
يحضى المجتمع الاستخباري بأهمية كبيرة نظراً للدور الذي يلعبه في رفد رئيس السلطة التنفيذية ومجلس أمن الدولة القومي/الوطني بالمعلومات الضرورية اللازمة لأتخاذ القرارات الحاسمة والحساسة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والمعلوماتية والعسكرية والاجتماعية وغيرها.
ضمن هذا الإطار ومن أجل القيام بالواجبات والمهام المُناطة بها، توفر الدول ميزانيات ضخمة لأجهزتها الاستخبارية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، خصصت الولايات المتحدة الامريكية مايقارب 86 مليار دولار لمؤسساتها الاستخبارية من قيمة موازنتها الدفاعية البالغة 738 مليار دولار.
أن العمل الاستخباري عمل مكلف، قد لايمكن رؤية نتائجه على المدى المنظور، او قد يتعذر الافصاح عنه نتيجة لحساسيته وارتباطه الوثيق بقضايا الامن الوطني/القومي، الا انه ضروري لبلورة رؤى ومواقف ذات أهمية قصوى لمواجهة التحديات والتحذير من التهديدات وأستثمار الفرص وحماية أمن الوطن والمواطن داخل البلد وخارجه.
يشهد المجتمع الاستخباري العالمي تنافساً شديداً لاسيما ضمن نطاق العلاقات بين الدول العظمى والقوى الناشئة أو الصاعدة. فبعد أن كان التنافس عسكرياً شابته العديد من العمليات السرية إبان فترة الصراع بين قطبين رئيسين هما الولايات المتحدة وألاتحاد السوفييتي، اتخذ شكل الصراع منحىً أخر في ظل نظام عالمي متعدد القطبية ليشمل أبعاد أخرى أهمها البعدين الاستخباري الاقتصادي والسيبراني، في معركة يلعب مفهوم الذكاء الاصطناعي دورا أساسياً فيه، لفرض الهيمنة والتفوق وتعزيز مرتكزات الامن القومي للدول. مثال ذلك الصين والولايات المتحدة ألامريكية.
ضمن هذا السياق، تسعى الدول الى تعزيز شراكاتها الاستخبارية، بالشكل الذي يضمن لها تميزها في قراءة الاحداث واستباق المواقف. وما تحالف العيون الخمس Five eyes لكل من الدول الناطقة باللغة الانكليزية – الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، نيوزيلندا، أستراليا وكندا- الا مثالاً على شكل هذا التعاون الذي تقوده دول لمواجهة دول أخرى.
لابد أن يقدم المجتمع الاستخباري دعماً أساسياً لأستراتيجيات الامن الوطني/ القومي، وفق الاولويات المُعدة وبشكل مُتسق مع بنود الدستور والقوانين المعمول بها، مع مراعاة الدور الرقابي من قبل السلطة التشريعية.
إن للمجتمع الاستخباري مهام أساسية ثلاث، تتمثل بـ:
1- فهم قضايا الأمن القومي/الوطني وتحديد الفرص والتحديات والتهديدات.
2- التقدير ألاستباقي والكشف عن المشكلات وتحليلها وتقديم المشورة وخيارات الرد ليتسنى للقيادة السياسية إتخاذ المواقف المناسبة.
3- دعم العمليات الاستخبارية وديمومتها والحفاظ على سريتها وسلامة عناصرها بما يخدم الاهداف المرسومة لها.
وفي سبيل تحقيق ذلك فإن للاستخبارات مصادر ست، نوجزها بالاتي:
1- إستخبارات الاشارة SIGINT: وهي عملية جمع المعلومات الاستخبارية عن طريق أعتراض الاشارات والاتصالات الصادرة من القوى المعادية.
2- أستخبارات الصور IMINT : وهي عملية جمع المعلومات عن طريق تحليل الصور المأخوذة عبر صور الاقمار الصناعية او التصوير الجوي.
3- الاستخبارات البشرية HUMINT: وهي عملية جمع المعلومات بواسطة مصادر بشرية بإستخدام طرق التجسس السرية.
4- إستخبارات المصادر المفتوحة OSINT: وهي عملية جمع المعلومات من مواقع الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والصحف والمجلات وقواعد البيانات التجارية.
5- إستخبارات القياس والتوقيع MASINT: او مايطلق عليها (استخبارات الخصائص المميزة) وهي عملية جمع المعلومات من خلال تحليل الخصائص المميزة للمواد. مثال ذلك التركيب الكيميائي لعينات الماء والهواء، والتوقيعات الرادارية او الترددات الراديوية لانظمة الصواريخ والطائرات من خلال مسارات طاقاتها الحرارية او الكهروضوئية او النووية او الجيو فيزيائية. وقد تستخدم لهذا الغرض أشعة الليزر والاشعة تحت الحمراء لتوجيه أجهزة الأستشعار للمواد المطلوب تتبعها.
6- الاستخبارات الجيومكانية GEOINT: وهي عملية جمع المعلومات بأستخدام وتحليل الصور والمعطيات الجغرافية المكانية التي تصف وتقيم الخصائص والنشاطات في و/أو على الارض.
على الرغم من أهمية التعاون الأيجابي والفعال بين وكالات مجتمع الاستخبارات المختلفة، الا ان ذلك لم يقف حائلاً دون وجود تنافس داخل المجتمع ذاته. الامر الذي قد يلقي بضلاله بشكل سلبي على طبيعة تعاطي الوكالات المختلفة مع قضايا الأمن بشكل عام. فقد تكون الرغبة في الحصول على الفضل وإبراز التفوق المهني وتحقيق الانجاز لوكالة على حساب الاخرى احد أسباب الاخفاقات التي عانت منها الدول وفي مواقف عدة. حيث أشار الكاتب مارك ريبلينك في كتابه " أسفين: الحرب السرية بين وكالة المخابرات المركزية CIA ومكتب التحقيقات الفيدرالية FBI" الى سبب الاخفاقات الكبيرة التي حصلت نتيجة لضعف التعاون بين هاتين الوكالتين الاستخباريتين المهمتين على الامن القومي للولايات المتحدة، والمتمثلة بإغتيال الرئيس كينيدي وأحداث 11 سيتمبر 2001.
لقد أدركت الدول أهمية وجود جسم استخباري يضم تحت مظلته أجهزة الاستخبارات المختلفة، وهو ما حصل بإنشاء مكتب الاستخبارات الامريكية الوطنية DNI حيث يشرف على 16 وكالة استخبارية امريكية تعمل بشكل منفصل لدعم السياسة الخارجية والامن القومي للولايات المتحدة. كذلك الحال بالنسبة لمنظمة الاستخبارات البريطانية المشتركة JIO . بخلاف دول أخرى كروسيا والصين والتي تفضل أن يستمر عمل كل جهاز إستخباري بشكل منفصل.
إن تعزيز عناصر القوة الوطنية لاسيما ما يعتمد منها بالاساس على انظمة المعلومات وشبكاتها الاساسية والتي تلعب الاستخبارات دوراً محورياً فيه، هي أحد المهام الاساسية اللازمة لتوفير الطاقات والامكانيات اللازمة لتنفيذ الاهداف الاستراتيجية لحفظ الامن الداخلي للدول وتعزيز مرتكزات امنها القومي.
https://telegram.me/buratha