اعداد الدكتور فراس العتابي وحسن الربيعي ||
الباحثين في مركز تاج الحضارة الثقافي
إن حركة الحداثة بالنسبة للشخص المسلم يتنازعها سياقان، الأول هو السياق الغربي الذي يحتدم المخاض الفكري فيه، وهو الذي أنتج الفكرة، وروج لها، وعمل على تطبيقها، وأما السياق الثاني فهو سياق منطقتنا الإسلامية التي أسقط عليها المفهوم وأُريدَ لها أن تتمثله، وبين السياقين بون هائل في أسباب نشأة فكرة الحداثة، والتنظير لها، إذ إن ظروف البيئة الأوربية هي التي أنجبت فكرة الحداثة؛ حتى جاء الوليد متمردا ضد ممارسات الكنيسة التي احتكرت سلطة المعرفة وألزمتها الخضوع لاشتراطاتها في مقاييس العلم، والعقل، ولأنها رسمت للإنسان طريقا هامشيا لا تكاد تتضح ملامحه، قبالة وهب المسارات الفعالة والحيوية في الحياة لمركزية صارمة لإله مرسوم حسب الرغبات الكنسية حينذاك، بينما لم يشهد سياقنا الإسلامي هذه الظروف؛ فقد وهب القران الكريم سمة الاستخلاف للكائن البشري؛ فجعل منه مركزا في حياته الإنسانية، كما جعل هذا الدين من الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فرح بها من غير قيد أو شرط، إلَّا اشتراط المرجعية الإلهية، وهذه المرجعية لا تشابه المرجعية التي دعت إليها الكنيسة عند ظروف نشأة الحداثة الغربية، كون الكنيسة حينذاك قيَّدت كما سنرى بعد قليل، والقرآن الكريم حرر؛ إذ يقول رب العالمين: ((إقرأ وربك الأكرم))، الأكرم هو الأفعل إنها صيغة يتسامى بها عطاء الإله القرآني على طبيعة الشح البشرية، فتبقى حدود الكرم الإلهية غير متناهية على سبيل القراءة العلمية وبحسب وعي المتلقي لدلالة هذه الأكرمية في البحث العلمي، بينما حاول الكنسيون زمن ولادة الحداثة تقييدها بحسبهم، ما ولَّدَ ردة فعل شديدة نحوهم من مفكري الغرب، فإن ذهب رجال الكنيسة إلى أقصى اليمين؛ فقد ذهب مفكرو النهضة الأوربية ومنظروها إلى أقصى اليسار؛ فتمخض الصراع كما بينَّا عن ولادة الحداثة الغربية ذات المركزية الأوربية، والتي ابتدأت مع حلول عصر الأنوار في القرن السابع عشر في أوربا وصولا إلى منتصف القرن العشرين، وقد جاءت هذه الحداثة بوصفها حركة انقلابية على ما كان سائدا في العصور الوسطى، بمعنى الإيمان بمركزية العقل قبالة مركزية النص الديني وهذه أولى دعواتها التي حرَّضت على مركزية العقل وإنه المحور بدل مركزية النص ومحوريته، أما دعوتها الثانية فهي مركزية الإنسان بعد أن عرضه الكنسيون كائنا ميتافيزيقيا وهامشيا يدور حول مركزية الإله المصنّع برغبات بشرية، أما ثالث أركان المثلث الحداثي فهو الدعوة إلى قداسة العلم قبالة ما كان سائدا في العصور الوسطى من عدم الاعتداد بأي قول علمي يخالف المنظومة الأرسطية من جهة، والمنظومة الأفلاطونية من جهة أخرى فالعلم في هذه العصور كان محدودا بآراء هذين القطبين ولا سيما أرسطو الذي وجد فيه توما الأكويني إنسجاما مع مبادئ الكتاب المقدس وبما إن أرسطو يقول بمركزية الأرض؛ والكتاب المقدس يقول بذلك؛ فهذا يعني انسجامهما وعدم جواز الخروج عليهما، وعليه أصبحت أي نظرية تتنافي مع ما تقدم سواء كانت في الفلك أو في الطبيعيات أو في النباتات فإنها تقصى لأن العلم ليست له المركزية بل إن المركزية كانت للجانب العلمي في الفلسفة الأرسطية بوصفها المعيار والمقوم والمتن الصلب الذي يقصي معارضيه، فعندما كانت الكنيسة تتبنى آراء اليونان القديمة لاسيما آراء أرسطو وبطليموس في قوانين الحركة الفلكية وفي كون الأرض هي المركز الذي تتمحور حوله هذه الحركة وحاول (غاليلو غاليلي) في القرن السابع عشر نشر أفكاره العلمية التي تفند هذا المتن المهيمن وإن الأرض ليست المركز بل هي جرم يدور مع أجرام متعددة حول الشمس حوكم ( غاليلو ) لمحاولته هذه واتهم بالهرطقة، ثم حكم عليه بالإقامة الجبرية فبقي حبيس بيته حتى نهاية حياته، وهذا مَثَلٌ مِن أمثال لا حصر لها لقساوة المتن الذي جابهته الحداثة. ما جعلها تؤكد على إن المركزية هي للعلم مطلقا من غير تقييد في ردة فعل صارمة أفضت إلى مركزية العقل، والإنسان، والعلم، وأنتجت عدة سمات أبرزها الذاتية التي نتجت عنها الفردية، والحرية، والسمة الثالثة العقلانية التي تفرعت إلى أربعة فروع وهي عقلنة الدين، وعقلنة الفكر السياسي، وعقلنة الفكر العلمي، وعقلنة التاريخ.
ولكن السؤال الأهم هنا: أي عقل؟ وأي علم؟ وأي انسان؟ هو المركز في هذه الفلسفة التي انتفضت على ما سبقها؟
إنه الإنسان الأبيض، والعقل الأبيض، والعلم الأبيض. فلقد دارت الحداثة حول مركزية أوربية صلدة لا تسمح لغيرها من قيم، وأفكار، وحضارات بالقول المعرفي إلَّا بشرط واحد؛ وهو أن يتمثل غير الأبيض القيم البيضاء تمثلا كاملا من غير اجتهاد، وعبّروا عن فلسفتهم هذه بمثل طريف، وهو جوزة الهند؛ فإن كنت أسمر فلك أن تكون حداثيا بشرط أن تفكر بطريقة الرجل الأبيض؛ أي أن تكون مثل جوزة الهند ظاهرك أسمر، وباطنك أبيض، وحجزت بذلك الحداثة كل ماهو غير أبيض خارج أسوارها مثلما نفت الأفكار السابقة لهذه الفلسفة من يغايرها في احتكار فلسفي وعلمي صلد، ففي فلسفة الحداثة حدثت القطيعة بين الفيزيائي المادي، وبين الميتافيزيقي الغيبي، وأصبح المركز في الكون هو الانسان وليس الوحي او الغيب، فالمتحكم، والمسيطر، والمفسر، والمقنن هو الانسان في تمركز صلد، ونسق مهيمن يحذف ما سواه فإن عانى (غاليلو) من نسق المفسرين للغيب؛ فقد عانى الواقعون تحت هيمنة الحداثة من تسلط المفسرين للفلسفة الحديثة والعلم، إنها دورة تتناوب فيها الأنساق مسك زمام الهيمنة فمرة يهيمن المتدينون بالمعنى النسقي، ومرة يهيمن العلميون بالمعنى الحداثي لهذه المفردة، فنجد ديكارت وكانت وهيجل ومن سار على دربهم يرسمون الحدود غير القابلة للتخطي ويزدرون الهامشي على حساب إعلاء قيمة المتن إلى الدرجة التي تكسرت فيها هذه الهوامش ولم تعد قادرة على التنفس في نفي نسقي يبرر دكتاتوريته بحلم وردي في حياة إنسانية راغدة لم تتحقق، كون هذه الفلسفة أضاعت بوصلتها حين أسقطت صورة الإله الكنسي على كل الديانات في إعمام نفسي ناتج عن عصبية متمردة، وعن سياق مغاير لسياقاتنا الإسلامية ذات المرجعية القرآنية، وهي المرجعية الأعلى للإنسان المعتقد بهذا الدين، وربما يوضح قصدنا بشكل أوفى ما بينه السيد محمد باقر الصدر، الذي استخرج مصطلح “المثل الاعلى” من القران الكريم، حيث ورد مرتين؛ المرة الاولى في سورة النحل الاية 60 “لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”، وفي سورة الروم الآية 27 “وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". وغالبا ما تتخذ المُثُل العليا طابع الدين وتلبس حُلة القداسة، وتمثل المرجعية في السياق الإسلامي، فالآيتان موطن الشاهد المتقدم حصرتا المثل الأعلى لله جل اسمه الكريم في صيغة نحوية وتركيبية تحصر دلالة المثل الأعلى لله دون سواه؛ بينما وجدنا الحداثيين المطوقين بسياقهم الأوربي، والخارجين عن التغطية القرآنية يستمدون مثلهم الأعلى من الواقع الذي هم في سياقه الزمني والمكاني، ما أصاب فلسفتهم في الحداثة بنكسة الفشل في تحقيق ما دعت إليه في عالم راغد وسعيد، وهذا أمر بديهي لأي اجتهاد بشري، فالحركات الفكرية والنظريات العلمية تشع كموضة، أو كأيديولوجيا في أمد تاريخي محدد ثم يخبو بريقها بعد حين؛ ليظهر منهج جديد، أو نظرية جديدة ينشغل بها أصحاب المرجعيات الأرضية الذين يدورون مدار المثل الأعلى النسبي، ولكن تعاقب الحركات الفكرية بعضها وراء بعض دليل على أن الأمر أكبر من أي نظرية بشرية مهما علا شأنها وعظمت عبقرية صاحبها، فكل نظرية لا ترى من الواقع إلَّا جانبا واحدا وهي تتوهم رؤيته كاملا، ولكن الواقع أخصب وأكثف وأكثر تعقيدا، وحركة الحياة لا تتوقف حتى تّكِلُّ النظرة البشرية عن الإحاطة بها، أو كما يقول غوته: رمادية هي النظرية ياصديقي ووحدها شجرة الحياة تظل خضراء.
ثم إن شجرة الحياة الخضراء هذه أحرقت مرتين من خلال حربين عالميتين كانتا تحت مظلة الحداثة، وبرعاية تفوقها العلمي الذي تفنن بتصنيع أدوات القتل والدمار، بل إن هذه الحداثة أوهمت الإنسان بأنها تمتلك خارطة السعادة البشرية من خلال فصل وجود الاله والدين عن الحياة {العَلمانية}؛ فإذا بنسب الانتحار هي الأعلى في البلدان التي تستظل بعنوانها الحداثي، وإذا بالشذوذ يرسم فعلا جنسيا شائنا تحت يافطة الحرية، هذه الحرية التي هي في نظر الحداثة من صنع الانسان وعليه فهي غير مرتبطة بمنظومة أخلاقية مقدسة لأنها تنبع من محورية الانسان، وإنه مالك لحريته، ومن حقه ان يتنازل عنها وقتما يشاء، وهذا يتعارض مع توجهات الإسلام التي تعد الحرية منطلقة من عبودية الانسان لله، وليس بمقدوره ان يتنازل عنها تحت أي ظرف، هذه العبودية التي يمتلئ حاملها بالروحانية التي تمنح الجسد الإنساني نضارته ونصوعه، وعلى خلاف الحداثة التي حصرت العالم بين فكَّي المادة والحس اللتين ضرستا الإنسان الغربي وكل من تلون بلونه حتى غدا شاحبا فتكسرت لديه الأسرة والقيم مجتمعيا وتحول إلى سلعة اقتصاديا وبات علمه غولا بمخالب خبيثة تنهش فيه وفي غيره.
إن معتقد التثليث الكنسي لم تمحه صرخة التنوير الأوربية بل تلبَّس ثوبا جديدا من خلال تثليث حداثي، فكما حوّل سيجموند فرويد كرسي الإعتراف الكنسي إلى كرسي التحليل النفسي حوّل الحداثيون عقيدة التثليث الكنسية إلى ثلاثي جديد كانت رؤوسه هذه المرة مركزية موشومة للإنسان والعقل والعلم فعادوا بخفي حنين وهم يطرقون من جديد بابا بشريا غير باب الله القرآني وهو باب ما بعد الحداثة.
والختام: لكم ثالوثكم ولي توحيدي، ولكم سياقكم ولي سياقي، ولكم دينكم ولي دين.
https://telegram.me/buratha