خالد الفرطوسي ||
ترى نظرية المنطق التجريبي على أنه ليس لدينا بديهي أولي، وجميع القضايا التي يتخيلها العقليون بديهية أولية، هي مجموعة قضايا تجريبية حصل عليها الإنسان على مدى حياته الطويلة.
نلحظ ما يأتي:
أولاً: لنفرض جدلاً صحة نقد التجريبيين بشأن القضايا البديهية الأولية، ونذعن بأنها تحصل عن طريق التجربة، لكن بعض القضايا التي يذعن بها الذهن لا تخضع إلى التجربة والمشاهدة، كحكمنا بامتناع التناقض.
ثانياً: إذا آمنا بأن الحكم الصحيح ينحصر بالحكم الذي تضمنه التجربة، حينئذٍ نتساءل: نفس هذا الحكم، صحيح أم خطأ؟ إذا كان صحيحاً ومنطقياً فهل هذا الحكم ذاته وليد التجربة، أي إن صحته ثبتت لدينا من خلال التجربة؟ أم هذا الحكم ليس وليد التجربة؟
إذا كان هذا الحكم ليس وليد تجربة يتضح إذاً أنه حكم بديهي أولي، بمعنى أن لدينا حكماً ثابتاً دون توسط التجربة، وعليه يُعد هذا الحكم الذي هو الحكم المنطقي الوحيد، الذي دعمته وأيدته التجربة، غير ثابت لدينا بطريق أولى.
ثالثاً: إن الدليل العلمي ليس نوعاً واحداً، وليس منحصراً في الدليل التجريبي، لأن العلوم أصناف شتى، وكل علم من العلوم له الأدلّة التي تناسبه، ودليل العلوم الطبيعية التحليلية ليس كدليل العلوم الإنسانية.
ومن العلوم ما يناسبه الدليل الحسي المادي والدليل التجريبي، كعلم الفيزياء والكيمياء والأحياء، وهذه العلوم الثلاثة علوم طبيعية تحليلية تجريبية تقوم على ملاحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية، ووضع الفروض لها، واختبار هذه الفروض بالتجربة أو ما يقوم مقامها، ثم استنتاج الفرض الصحيح للظاهرة.
ومن العلوم ما يناسبه اللجوء إلى أفضل التفسيرات، كعلوم البدايات، مثل: بداية الكون، وبداية الحياة، واللجوء إلى أفضل التفسيرات يُعدّ قاعدة علمية في التفضيل بين الأدلّة أكثر من كونها دليلاً قائماً بذاته، فإذا كان يمكن تفسير ظاهرة ما تفسيراً بسيطاً، أو معقداً، فإن التفسير البسيط هو الأفضل.
ومن العلوم ما يناسبه الدليل العقلي، كعلم الفلسفة أحد العلوم الإنسانية، حيث الاعتماد فيه على معلومات عقلية لا تحتاج إلى إحساس وتجرِبة.
ومن العلوم ما يناسبه الوثائق والآثار، كعلم التاريخ، وهذا العلم مبني على الوثائق، ولا مجال للتجرِبة فيه، حيث نحتاج - لإثبات الحادث التاريخي - إلى أخبار وآثار تبرهن على وجود هذا الحدث التاريخي في الماضي، والوثائق والآثار التي يعتمد عليها علماء التاريخ قد تكون مكتوبة، كالرسائل والسجلات، وقد تكون غير مكتوبة، كالألبسة والنقود والأوسمة والمباني.
وهناك علوم كثيرة لا مجال للتجرِبة فيها، أو قد تندر: فأين التجرِبة في علم اللغة والأدب؟ وأين التجرِبة في علم المنطق؟ وأين التجرِبة في علم الفلسفة؟
ويتبين مما تقدم أن من أهمّ النقائص في عمل العلوم التجريبية، ما يأتي:
1- محدوديّة نطاقها: إذ إن الكون بجميع أبعاده لا يخضع للتّجربة، فمسألة بداية العالم ونهايته لا تخضع للتجربة، ولا المسائل التي ترتبط بعبثيّة العالم أو هدفيّته، فالإنسان يلجأ إلى التفكير العقلي حين يصل إلى مثل هذه المسائل.
2- التزلزل وعدم الثبات: فصورة العالم تتغيّر باستمرار في المنظار التّجريبيّ، لأنّه قائم على أساس الفرضيّة والتّجربة، لا على أساس المبادئ البديهيّة الأوّليّة العقليّة، فالفرضيّة والتّجربة لهما قيمة وقتيّة. من هنا، فالمنهج التجريبي لا يمكنه أن يكون قاعدة للإيمان، فالإيمان يتطلّب قاعدة قويّة ثابتة لا يعتريها التّزلزل والتّغيير.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha