د. سيف الدين زمان الدراجي*||
سلسلة مقالات في إستراتيجيات الأمن الوطني ومواجهة التحديات.
الحلقة السادسة
"قَول الحقيقة للسُلطة"
Speak Truth to Power
" الثقة تُبنى على قول الحقيقة التي أحتاج أن أسمع، وليس ما يُعجبني أن أسمع". سايمون سينك
تُعرَّف السُلطة بأنها التأثير والقدرة بالقوة على توجيه سلوك مجموعة من الأفراد أو المؤسسات وفقاً لمجموعة من القواعد والقوانين التي تحصل عليها السُلطة بحكم موقعها كأعلى هرم أداري، ولا يقتصر ذلك على التنفيذية منها فحسب، بل على كل انواع السُلطات الأخرى، كالقضائية والتشريعية، وينسحب ذلك على من لديه المقدرة على فرض أساليب سلوكية معينة سواءاً كان قطاعاً عاماً او خاصاً او مُشتركاً.
إن على المُكلف بمسؤولية مُعينة أن يحرص على أن يتسم بالقدرة والكفاءة والإخلاص - في ضوء السياقات والآداب العامة- ليُخبر رئيسه حقيقة ما يحدُث وما يعتقد به- وفق المعلومات والتحليلات المتوفرة- بأنه الخيار الأفضل لمواجهة تحدي مُعين أو تهديد قائم أو إيقاف فعل قيد التنفيذ وإن كان ذلك خلاف رغبة الرئيس ( المسؤول الأعلى).
أحيانا يعني "قول الحقيقة للسُلطة" مواجهة أولئك الذين يشغلون مناصب مهمة، سواءاً كان ذلك في الحكومة أو قطاع الأعمال أو المؤسسات الدينية، وقد تحمل هذه العبارة مدلولات الشجاعة والمخاطرة في الوقت ذاته، فقد تضر بسمعة المرء او قد تضر بمصدر رزقه أو قد تكلفة حياته في بعض الأحيان.
قد يَعتبِر بعض المسؤولين بأن قول الحقيقة هو إنتقاد صريح لسياساتِهم وتوجهاتِهم، او قد يعتبرونَه تهديداً لوجودهِم على رأس السُلطة، وقد يأخذ ذلك منحىً عِدائيأ تُبنى على أساسه مواقف مُستقبلية قد تتسبب بعواقب تعسُفية او عقوباتٍ مُمَنهجة. وهنا يأتي دور الكفاءة الشخصية والقُدرة على إدارة هكذا مواقف لتلافي شخصنتها بين الرئيس والمرؤوس، فضلاً عن المسؤولية الأخلاقية، تجاه الوطن أو المؤسسة من جانب، والمسؤول الأعلى من جانب آخر، تحقيقاً للمصلحة العامة.
لعل أحد أهم الملفات التي لا بد لمن يعمل في المواقع القيادية ضمن هيكلها أن يتحدث بالحقيقة وبشفافية ووضوح بشأن قضاياها وأحداثها ومواقفها وسياساتها الداخلية أو الخارجية، هو "ملف الأمن" سواءاً كان ذلك مُتعلقاً بالامن الوطني أو القومي أو الدولي. فالنظم السياسية تسعى عادة إلى تحقيق الغايات والأهداف العُليا المُشتركة لتلك المفاهيم بعد تحديد مصادر التهديدات وأولويات الإستجابة، باعتبارها ركيزة محورية يُبنى وفق مقتضياتها وعلى أساسها أي منظور عسكري او أمني لقيام الدولة. ويتطلب هذا الأمر رؤية واضحة وصورة متكاملة عن ماهية الأحداث وآليات المعالجة وفق المعطيات ومجموعة الإجراءات الشاملة التي تتخذها الدولة للحفاظ على كيانها.
تُعد حادثة انفجار مفاعل تشيرنوبل Chernobyl عام 1986 في الاتحاد السوفيتي أحد الأمثلة على مدى تأثير قول الحقيقة على الأمن الوطني من جانب والأمن الدولي من جانب آخر، حيث ورغم ما تعرض له العالم السوفيتي غاليري ليجاسوف من ضغوط من قبل بعض قيادات الحزب الشيوعي في حينها وجهاز الاستخبارات إلا أن قوله للحقيقة من دون محاباة أو رضوخ للضغوط ساهم بشكل كبير في منع حدوث كارثة عالمية كادت أن تُبيد قارة بأكملها.
وفي جزء آخر من العالم - كان وإياه على طرفي نقيض - مثالاً آخر حين قالت مُرشحة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتولي منصب مُدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية DNI - أعلى منصب استخباري والذي يضم 17 جهازاً - أفريل هاينز، وهي تخاطب الرئيس الامريكي المُنتخب مؤخراً "أنت تعرف بأنني لم اتجنب أبدا قول الحقيقة للسُلطة، وأنا على يقين بأنك لن تطلب مني أبدا أن افعل غير ذلك".
إن مسؤولية "قول الحقيقة للسُلطة" تقع على عاتق الرئيس والمرؤوس، ولا بد للقائد ان يستمع لمُستشاريه ومرؤوسيه بل ويحثُهم على التحدث معه بصدق وشفافية. كما لا بد من أن يمنحهم الثقة بقُدرتِهم على مُساندته لإتخاذ قرارات صائبة تخدم مصلحة الدولة أو المؤسسة متى ما توفرت الحقائق والمعلومات والتحليلات ذات الصلة.
إن القائد الحقيقي يصنع "قادة"، ويُعزز فيهم روح الإخلاص والتفاني والتعاون والإبتكار، ويغرِس فيهم روح الإنتماء وقول الحقيقة دون خوف أو مُحاباةِ او وجل.
*باحث في شؤون السياسة الخارجية والأمن الدولي.
عضو الأكاديمية الملكية البريطانية لدراسات الدفاع.
https://telegram.me/buratha