د. علي المؤمن ||
يعد المجتمع الشيعي اللبناني من المجتمعات العريقة في تشيعها، فهو يعود تاريخياً الى عصر صدر الإسلام، وظلت تسمية سكان "جبل عامل" هي التعبير التاريخي عن جغرافيا المجتمع الشيعي اللبناني، رغم انتشارهم في أغلب أراضي لبنان. وقد تسنى لشيعة لبنان إقامة أكثر من إمارة شيعية، أقدمها إمارة "بني عمار" في طرابلس(23). ولكن بعد سقوط الدولتين الفاطمية في مصر والحمدانية في سوريا، واللتين شكلتا حماية سياسية لشيعة لبنان؛ فإن المجتمع الشيعي اللبناني تعرض لحملات اجتثاث وتدمير وقتل رهيبة خلال حكم الدول الزنكية والأيوبية والعثمانية، حتى أن كثيراً من الأسر الشيعية اللبنانية تحولوا الى التسنن أو المسيحية هرباً من القتل؛ لأن الدولة العثمانية كانت تعد شيعة لبنان كفاراً مهدوري الدم، بينما كان المسيحيون أهل ذمة ويعيشون بأمان.
هذا الواقع حوّل شيعة لبنان الى مجتمع مهمش سياسياً وفقير اقتصادياً ومتخلف تعليمياً. وتراكمت هذه الحالة بشكل كبير، حتى ظهور مرحلة التغيير التاريخي الحاسم للمجتمع الشيعي اللبناني، والتي جرت فصولها خلال عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وصولاً الى تحول شيعة لبنان الى الرقم السياسي الأول في لبنان بعد العام 2000، وتحديداً بعد النجاحات الستراتيجية التي حققوها في المعركة المتواصلة مع إسرائيل، والتي ظلت الأنظمة العربية وجيوشها وإعلامها تفشل فيها منذ العام 1948، حتى بات المجتمع الشيعي اللبناني عنواناً رئيساً لعنفوان الشيعة العرب وفخرهم، بل أن المجتمع الشيعي اللبناني حقق لكل اللبنانيين انتصارات تاريخية لم يكن أي لبناني يحلم بها أو يجرؤ حتى على التفكير فيها، ومنها أنه فرض تغييراً جذرياً على نظرة العرب الى لبنان، من مجرد بلد للسياحة واللهو والترفيه والتحرر من القيود الاجتماعية والدينية، الى حاضنة للانتصارات الستراتيجية على اسرائيل وجيشها، وبعقول وأيدي شيعية إسلامية عقدية. وهنا تكمن المفارقة الكبرى التي خلقتها مرحلة الصعود الشيعي المتسارعة.
ويتميز المجتمع الشيعي اللبناني عن غيره من المجتمعات الشيعية العربية، بمرونته الاجتماعية وانفتاحه الثقافي وخبرته السياسية، وقد تحول منذ العقد السادس من القرن العشرين الى قناة شيعية فاعلة للتواصل مع الضفة السنية في العالم العربي، والصوت الشيعي العربي الأعلى، والنافذة التي يطل عبرها الانتاج المعرفي والفكري والثقافي الشيعي على البلدان العربية، ولاسيما الانتاج العراقي والإيراني، من خلال الإعلام والصحافة وطباعة الكتب والدوريات الشيعية ونشرها. ويعود ذلك الى ثلاثة عوامل رئيسة:
الأول: النظام السياسي اللبناني بعد العام 1934، والذي يكفل حرية التعبير والتمذهب، بما لايتوافر في أية دولة عربية أخرى، باستثناء العراق بعد العام 2003.
الثاني: تحسن الوضع المالي والمعيشي للطائفة بفعل الأموال التي باتت تصل الى الشيعة من أبنائهم المهاجرين الى افريقيا وامريكا اللاتينية.
الثالث: المشاريع التعليمية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية للسيد موسى الصدر وحزب الدعوة وحزب الله، والذي أوجد نهضة شاملة متسارعة لشيعة لبنان خلال الستين عاماً الأخيرة.
https://telegram.me/buratha