د. علي المؤمن ||
يعد المجتمع الشيعي الإيراني تاريخياً، ثالث مجتمع يعتنق التشيع، بعد مجتمعي الحجاز والعراق، وهو في الحال الحاضر الكتلة السكانية الشيعية المنظمة والنوعية الأكبر، وهو حلقة الوصل الفاعلة بين شيعة شرق وشمال آسيا، وخاصة شيعة الهند وباكستان وأفغانستان وآذربيجان والقوقاز، والشيعة العرب، وخاصة شيعة العراق والخليج ولبنان، وبكلمة أخرى؛ فإن المجتمع الشيعي الإيراني هو الجامع المشترك بين الشيعة العجم والشيعة العرب؛ بالنظر لما يضمه من مشتركات إنسانية واجتماعية وثقافية مع الطرفين.
ويتداخل المجتمع الشيعي الإيراني مع المجتمع الشيعي العراقي تداخلاً كبيراً، على المستويات الإنسانية والاجتماعية والثقافية. وينطوي هذا التداخل، المتفرد ربما على مستوى العالم، على مفارقة متعارفة في معادلات علم الاجتماع الديني؛ فالمجتمعان الشيعيان العراقي والإيراني هما الأكثر قرباً من بعضهما، والأكثر تكاملاً وتكافلاً وتبادلاً للحماية والدعم، في المجالات الدينية والسياسية والمالية وغيرها، ولكن؛ في الوقت ذاته، هما الأكثر تنافساً في المجالات نفسها. ويعود هذا التنافس الى كونهما المجتمعان الأكثر أهمية وفاعلية وإنتاجاً على المستوى المذهبي، ويتمتعان بالمؤهلات العلمية الدينية والاجتماعية الدينية المتشابهة التي لاتتوافر في غيرهما من المجتمعات الشيعية. وهذا التنافس ظل ـــ دائماً ــ دافعاً للفاعلية والانتاج الكمي والنوعي من المجتمعين، كما ظل أيضاً عرضة للاستغلال من الخصوم، من أجل ضرب المجتمعين.
ويتميز المجتمع الشيعي الإيراني، منذ العصر البويهي وحتى الآن، بأنه مجتمع الدولة، وقوام الاجتماع السياسي للبلاد، وهو مالايتوافر في أي مجتمع شيعي معاصر آخر. كما تتميز جغرافيا المجتمع الشيعي الإيراني بأنها ـــ منذ العصر الأموي ـــ مأوى للشيعة العرب، وخاصة ذرية رسول الله وأئمة آل البيت، المهاجرين اليها تخلصاً من قمع السلطات الأموية والعباسية والعثمانية وماتلاها من حكومات محلية طائفية، ولذلك؛ يشكل الإيرانيون من أصل عربي، بمن فيهم العلويون (السادة)، نسبة كبيرة جداً من عدد سكان ايران، وفق تجارب فحص الـ DNA.
ولم يشكل المجتمع الإيراني حماية اجتماعية شاملة للشيعة العرب الفارين وحسب؛ بل كان يدعو البارزين من العلويين (السادة) المهاجرين الى التصدي لقيادته الدينية والسياسية، ولذلك؛ كانت الدولة العلوية في طبرستان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، والتي أسسها الإيرانيون بقيادة العلويين المهاجرين، أول دولة شيعية في التاريخ (بعد دولة المختار في العراق)، وتلتها دول أخرى كثيرة. وظلت الدولة الإيرانية منذ العصر البويهي، دولة شيعية بكل تفاصيلها العقدية والسياسية، وبكل ممارستها ومظاهرها. وتكرس ذلك بعد بدء العصر الصفوي، ولايزال، وهو ما جعل المجتمع الإيراني يعيش حالة المواطنة بشكل طبيعي، دون أي تمييز مذهبي، ولايعاني من الفصام الاجتماعي السياسي مع الدولة.
ويتميز المجتمع الشيعي الإيراني بقدرته على الإدارة الحكومية وعلى التخطيط والنفوذ، وهو يستحضر خبرته التراكمية التي تعود الى العصر الذي كان فيه الفرس والرومان يتقاسمان النفوذ في العالم، كما تتغلب فيه صفات الصبر والنفس الطويل والعمق والحكمة والدقة في العمل، والتريث في رد الفعل. وتتمازج هذه الصفات، الخاصة بالمناخ الاجتماعي الإيراني، مع الصفات العامة التي ينزع اليها عموم الشيعة، وفي مقدمتها النزعات العاطفية الشديدة والوجدانية. وهذا السمات الخاصة والعامة بمجموعها، تجعل المتخصصين يعتقدون بأن المجتمع الشيعي الإيراني هو بمثابة العقل المركزي للشيعة، كما أن المجتمع الشيعي العراقي هو القلب المركزي للشيعة.
ويعد المجتمع الشيعي الإيراني ـــ منذ قرون ـــ المصدر الرئيس لتمويل المرجعية والمؤسسة الدينية الشيعية وإعمار المراقد والمزارات، ودعم عموم النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وتلعب بازارات طهران وتبريز ومشهد وإصفهان وتجارها، دوراً رئيساً في هذا المجال، ويساعد على ذلك تشجيع السلطة السياسية في ايران، منذ العصر البويهي، للتجار الإيرانيين، بدعم مؤسسات النظام الاجتماعي الديني الشيعي.
ــــ
https://telegram.me/buratha