احمد خالد الكعبي
سأهدي هذا البحث الى كل الذين لا يريدون بل الذين لا يضمرون الرغبة بالعودة الى الماضي .
v مقدمة :
لا شك في أن عدم الرجوع الى المربع الاول هو أكثر الخيارات رغبة لدى معظم الشعوب الخارجة من حكم أستبدادي طويل ، قول بعض السذج وبعض المغرضين أن الحكم الصدامي أفضل … لماذ لا يعود … يصب في هذا المجال، بلا شك ان التحول من أمة يصنعها طاغية الى أمة تصنع نفسها ومستقبلها مسألة في غاية الصعوبة ، ولكن صدمة ما بعد التغيير أمر جوهري للغاية ، وكما صدمت بغداد المرتكزة على هدوء المقابر الذي فرضه النظام المقبور صدمت قبلها بكثير أثينا النائمة في حضن الفلسفة الدافيء .. من الثابت ان أي أمة لا تتحمل آلم العلاج وتصر على اخذ المخدر الوقتي ، دائما هي أمة لا تستحق الحياة .
v أولا : الانكسار الاثيني الاول .
عبر سلسة طويلة من الحروب بين اثينا واسبرطة سميت بحروب البلوبونيز انتهى الصراع الذي بدا حتميا لاختلاف فلسفة المدينتين في الحياة بانتصار أسبرطة التي وكما معروف هي بنت الحرب والروح العسكرية وقامت على ازدياد ثروة الدولة، وتوسيع نفوذها الواقعي والمعنوي على ما جاورها من المدن اليونانية .
وأرتأت أسبرطة بعد النصر أن تتحول إلى دولة عسكرية ، أي أن يحكمها العسكر، وأن تكون ذات أهداف توسعية دائمة ، وأن تكون الحرب هي وسيلة الكسب والردع ، فضلاً عن تعظيم العمل العسكري في المجتمع الأسبرطي ، حتى أصبح الجندي في أعلى درجات السلم الإجتماعي.
ونشأ عن ذلك ظهور نظام الحاميات ، إذ عملت حكومة أسبرطة على إرسال كتائب مسلحة الى عدد من المدن اليونانية التي احتلتها، وكتائب أخرى ترابط في المدن المتحالفة (أو الخاضعة بشكل غير ظاهر) لها .
بالضرورة لم يكن الانكسار الاثيني أمام الجيش الاسبرطي خاليا من بعده الرمزي … فالانكسار الحقيقي كان في انكسار أثينا الفلسفية امام اسبرطة العسكرية ، نعم هذا هو البعد الحقيقي للانكسار .. وهنا أنقل نص ما يقوله الدكتور غانم محمد صالح في كتابه المنهجي ( الفكر القديم والوسيط ) في الصفحه 31 : ((حطمت حروب البلوبونيز المجتمع الاثيني الذي كان يدعي التكامل والمثاليات ، وبدأ شباب أثينا يتسائل عن جدوى الفلسفات والمثاليات التي تعلموها ، وعن جدوى المفاهيم الديمقراطية والعدالة التي نشأؤا في ظلها . لقد ترك أنتصار أسبرطة على اثينا اثره الواضح والذي يتلخص في أن القوة المادية أجدى بكثير من البلاغة والكلام ، وان معيار النجاح هو الواقع ، ومن ثم بدأ الشباب يبحث عن ذلك النجاح بأيسر السبل الممكنة حتى ولو ضحى في سبيل ذلك بمعاني الاخلاق والعدالة والمثاليات)).
هذه ردة فعل عامة أما ردة الفعل الخاصة فقد جاءت من لاهوت اثينا … الفلسفة … ومن أحد أباء الفلسفة الاغريقية ، من أفلاطون الذي دعا وبشكل مباشر في كتابه الشهير ( الجمهورية ) الى بناء مجتمع قادر على انتاج دولة قوية عبر عسكرة المجتمع والغاء الخصوصية الفردية وتنصيب – الامير الفيلسوف – وسيطرة الدولة بشكل مطلق( وهذا ما أختلف فيه أرسطو مع استاذه افلاطون ورأى أن الخصوصية الفردية هي الركيزة الاصح لبناء الامم ) ، وربما أن سبب مخالفة أرسطو لاستاذه في هذا المجال هو الفارق الزمني بين هزيمة أثينا ولمعان نجم أرسطو أما افلاطون فقد عايش الازمة بشكل مباشر كونه عاصر الفترة الاخيرة من حروب البلوبونيز . وهناك أمر لافت جدا بخصوص ردة الفعل الافلاطونية على الهزيمة وهو أن أفلاطون أعتبر الديمقراطية هي سبب الهزيمة – كما يشير الدكتور غانم محمد صالح في نفس المصدر المشار اليه آنفا في الصفحة 47 ( هامش رقم 1 ) .
وقبل هذا كله وبخصوص ردة الفعل الاثينية بسبب الهزيمة امام اسبرطة لابد من الاشارة الى أن النخبة السياسية في اثينا لجأت مباشرة الى الحكم الفردي الطاغوتي عبر حكومة الطغاة الثلاثين .
يقول الدكتور خالص جلبي في كتابه – مخطط الانحدار وإعادة البناء – :
يذكر القرآن قصة أول صراع مسلح دموي، حدث بين ولدي آدم أثناء نزاع حدث بينهما، لجأ الطرف الأول فيه إلى التهديد بالقتل لينفذه لاحقاً (أسلوب لأقتلنك)، في حين أن الطرف الثاني امتنع عن حل مشاكله بهذه الطريقة، مقابلاً أسلوب (لقتل) بأسلوب جديد مدهش هو (التخلي عن القوة من طرف واحد)، فكان تكتيكاً عجيباً ومبشراً للجنس البشري للمستقبل في كيفية حل مشاكله وبطريقة أكثر جذرية …. ويبدو أن أداة القتل في هذا العهد السحيق لم تكن لتتجاوز هراوة أو حجراً.
المرحلة الثانية : دخلت الأسلحة الباترة والقاطعة والثاقبة، وبدأ الإنسان يفكر في كيفية التخلص من خصمه بنفي (التعددية) وعدم الاعتراف بالاختلاف ، من خلال تطوير أدوات (لأقتلنك)، وبدأت يد الإنسان في التفاعل مع الطبيعة في إنتاج السلاح، كما تشكلت المجتمعات المنظمة التي بدأت في تشكيل الجيوش (الذكورية)، ومن الملفت للنظر أن ولادة الحضارة كانت مشوهة، لأن مرض الحرب دخل في تركيب الحضارة فيما يشبه الخطأ (الكروموسومي) وتطلب هذا بالتالي رحلة مروعة عبر التاريخ قبل الوصول إلى الاعتراف بأن هذا (مرض).
إذن ومع نمو الحضارات الأولى بدأت (دورة الحرب) تأخذ نظماً تاريخياً، وإيقاعاً مكرراً عبر الزمن بدون توقف.
ثانيا : محاولات معاصرة لاستنساخ الانكسار الاثيني والايمان بالنموذج الاسبرطي.
عالم اليوم والمعادلة الموهومة : الامن أم الحرية … الحرية أم الامن …؟.
يصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه المنقذ للامة الروسية ، ولكن السؤال الاهم هو:
v المنقذ من ماذا … ؟
هل بوتين ينقذ روسيا من الاستبداد الذي رزحت تحته الامة الروسية مئات السنين …؟؟
ام هو منقذها من الفوضى التي اعقبت أنهيار الاتحاد السوفيتي نهاية الثمانينيات …؟؟
مما ينقذها وهل هناك ثمن وجداني يجب ان يدفع ..؟!!
الرئيس الفنزويلي المتوفي هوغو شافيز نجح بتعديل دستور بلاده ونصب نفسه زعيما اوحد تحت عنوان بحاجة الى الكثير من التفكيك والمراجعة ، هو مواجهة الامبريالية … ؟
يا ترى هل يتم مواجهة ظلم المركزية الغربية ومصلحيتها المتوحشة عبر أفراغ الامة من ذاتها بواسطة التسلط والزعيم المشخصن ، عبر هذا ، أم عبر بناء ذات الامة وهي بالتأكيد عملية غاية في التعقيد وبحاجه للكثير من التراكمية والعمل المبدئي العابر للمصلحة الشخصية او الحزبية المنفصلة عن الصالح العام .
الولايات المتحدة عقب احداث 11 أيلول عاشت صراع المثل العليا الدستورية مع استعمال القوة وحسر مساحة الحرية الفردية وبالتالي نهوض الفكر القومي المخلوط بالثقرطة على يد المحافظين الجدد ..
أن الثقافة التي يجب ان تعتنقها الامم الحية هي ثقافة حفر الانهار بدل ثقافة انتظار الامطار … ثقافة انتظار الاشياء تولد الكسل والتلاشي وهذا ينسحب على مسألة العودة للمربع الاول … انتظار دكتاتور ” يوحد البلاد ويفرض الامن ” وسؤال بسيط هنا : سيموت الدكتاتور بطريقة او باخرى ، حسنا وماذا بعد … ، هل سننتظر دكتاتورا جديدا ، هنا يقول أفلاطون : القانون هو القيد الذهبي ، ولأكون أكثر دقة أنقل نصا للعالم الحقوقي عبد الرزاق السنهوري يقول فيه : الحكم الصالح لا تتلمسه فلسفة الاغريق في الحكم المطلق للفيلسوف ، ولكن تنشده في مبدأ القانون ..
أعتقد ان القوه الحقيقية هي القوة التي تحمي الحق لا التي تحاربه وأن حاربته فهي ليست سوى وسيلة لقتل الجوهر الانساني ولقد أستعملت القوة لحماية المثل العليا ، ففي معركة بلاتيا اكثر معارك التاريخ القديم حسماً؛ لأنها أنقذت لنا الفكر الفلسفي اليوناني الذي ترعرع فيما بعد في جو الحرية.. وماذا فعلت لنا قوة الامبراطورية الاموية الغاشمة غير أنها استعملت القوة لمحاربة الحق وبالتالي انهارت لانها لم توظف القوة من أجل حماية الحق وهذا طبيعي لانها كانت قوة لا شرعية .
الخاتمه :
v هل نسير نحو النموذج الروسي … ؟
البطل تحتاجه الامم ولكن الفرق بين أمة ميتة واخرى حية هو أن الاولى تحتاجه دوما لانها عاجزة بسبب الخواء الذاتي ، والثانية تحتاجه ولكن على سبيل الاستثناء لا القاعدة ، وهنا تحضرني قصة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله عندما طلب من المسلمين في احدى معارك المسلمين البقاء داخل المدينة لانهم قلة والمدينة محصنة واصروا هم على الخروج والقتال المباشر وقبل الرسول (عليه الصلاة والسلام ) ، ثم وبعد مدة تراجع المسلمون عن رأيهم وطلبوا من الرسول (عليه الصلاة والسلام ) البقاء داخل المدينة فرفض ونزلت الاية الكريمة ( فاذا عزمت فتوكل )، اليس المطلب واضح …
الرسول (عليه الصلاة والسلام ) هنا يريد للامة رأيا ، أي أنه يريد بناء الامة الحقيقية عبر بناء ذاتها ، والرسول (عليه الصلاة والسلام ) هنا هو ممثل ارادة الاهية اي انه مفوض بفعل الذي يراه والذي يراه أنما هو القرار الالهي ( وما ينطق عن الهوى ان هو وحي يوحى ) ، قضية تعطيله (عليه الصلاة والسلام ) لصلاحيته غير المحدوده أمرغاية في العمق ويستحق بالضرورة التأمل لاستلهام الطريق الامثل لبناء العراق الجديد الذي يعيش اليوم مفترق طرق … هل يتخلى عن الديمقراطية مقابل ” الامن ” ، أم يواصل المشي في الطريق الوعرة … ؟ … !
أعتقد أننا نسير الى ما يمكن ان اسميه ” بالنموذج الروسي ” والذي هو عبارة عن ديمقراطية هشة وحكم الرجل القوي ، ممكن جدا ان يكون الزعيم الروحي للكنيسة الارثوذكسية ( مقرها التأريخي في روسيا ) البابا أليكسي الذي توفى ، مخلصا عندما بدأ البحث مع مجموعة من نخبة الامة الروسية عن (منقذ ) لها من الانحدار الذي عاشته عقب الانهيار السوفيتي ، وربما الامم بحاجة الى الحلول الآنية في مسيرتها الحياتية الطويلة ولكن هل هذا هو الحل الاستراتيجي أم هو مجرد تكتيك يتحول شيئا فشيئا الى (استراتيجية فاشلة ) لانها بالضرورة ستبقى حبيسة الآني الوقتي وليس المستقبلي ، وربما أن الداعين الى المركزية الشديدة يكونون حسني النية كون مضمون الدستور العراقي بشأن الفدراليات يذهب الى ما هو اكثر ، ربما الى نوع من انواع الكونفدرالية غير المعلنة
ولقد لاحظت أن النظام الفيدرالي الامريكي يوازنه نظام رئاسي قوي كون رئيس الجمهورية ينتخب بشكل مباشر من الشعب ويتمتع بسلطات واسعة جدا ولهذا هناك محكمة وشرطة وسلطات فيدرالية الى جانب السلطات المحلية للولايات ولكن السلطة الفيدراليّة لا تتدخل الا عند الضرورة بينما النظام السياسي العراقي – على الاقل في جانبه الدستوري – يعتمد السلطة التمثيلية ( الكتلة البرلمانية الاكبر هي التي تختار رئيس الوزراء ) وهنا نحن امام مفارقة تكاد ان تتحول الى مفترق طرق : نظام سياسي يصل حد الكونفدرالية غير الممنشتة رسميا يقابله نظام بالضرورة هو نظام ( لا يميل الى القوة) – النظام التمثيلي – ، واعتقد أن هذه الاشكالية هي لب المعضلة التي بدأ يواجهها النظام السياسي الجديد في العراق .
وفي النهاية أقول : ربما أكون موفقا ان أردد هنا ما قاله صموئيل بيكيت : هكذا امضي في الضياء المخيف ، متلفعا باهابي العتيق ، مشدودا الى طريق الخروج ، ومتجاوزا جميع الطرق ، الى اليمين والى اليسار ، وفكري يلهث وراء هذا وذاك ثم يندفع دائما الى حيث لا يجد شيئا .
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha