أسعد تركي سواري
الجمعة 28 شهر رمضان 1441 ه
الموافق 22 / 5 / 2020 م
المقدمة :
يُعَدُّ السيد الإمام روح الله الموسويّ الخميني (رض) أول مرجعٍ دينيّ يفتي بجواز تقديم الدعم المالي للجهاد الفلسطيني من الحقوق الشرعيَّة كالخمس والزكاة والصدقات وكان ذلك في بداية عقد الستينات من القرن العشرين ، أما بعد انتصار الثورة الإسلاميَّة في إيران فقد حدث تطور إستراتيجي في مستوى الدعم الذي قدمته الجمهورية الإسلامية بقيادة المرجع الديني والولي الفقيه ما أدى إلى الإرتقاء النوعي والكمي في مستوى وأساليب المقاومة الفلسطينيَّة وعلى الصُعُد والمستويات كافَّة ، ولا يخفى إنَّ الروابط الوثيقة بين الشاه والكيان الصهيوني كانت من الركائز الأساس التي أوجَبت ثورة الإمام الخميني (رض) ، إذ عَبَّرَ عن ذلك بقوله (( إنَّ من الأمور التي جعلتنا نقف في مواجهة الشاه ، هي مساعدته لإسرائيل ، وكان ذلك أحد دوافعي لمعارضتي له )) ، ويُعَدّ قيام الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران على أنقاض نظام حليفها الاستراتيجي في المنطقة ، ضربة قاصمة ذات أبعاد وتداعيات استراتيجية متعددة .
أولاً : التكليف الإلهيّ المزدوج :
يَنطَلِقُ الإمام الخمينيّ (رض) في دعمه للقدس وفلسطين المُحتَلَّة من مُنطَلَق الواجب الشرعيّ الإلهي المُلقى على عاتق القيادة الإسلاميَّة بمستوَيَيْن ، فالمستوى الأول يَتَمَثَّل بوجوب الدفاع عن المقدَّسات الإسلاميَّة ، إذْ تُعَدُّ القدس أولى القِبلَتَيْن وثالث الحَرَمَين الشريفَيْن وتحتلُّ مقاماً مُقَدَّساً في العقيدة الإسلاميَّة وفي وجدان الأمَّة ، والمستوى الثاني يَكمن بالوجوب الشرعيّ في نصرة المقاومة الإسلاميَّة وحركات التحرّر الإنساني التي لا تقف موقفاً معادياً للإسلام ، وذلك استجابةً لقوله تعالى : (( وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا )( النساء :75) .
ثانياً : حرب الثمان سنوات ضريبة القدس :
توصف الحرب التي شَنَّها النظام البعثي في العراق برئاسة صدام حسين الضريبةَ الأولى التي دفعتها الجمهوريَّة الإسلاميَّة جَرّاءَ دعمها للمقاومة الفلسطينية ، إذْ لم يَعُد خافياً أنَّ الإدارة الأميركيَّة بوصفها الأمّ الرؤوم للكيان الصهيوني هي التي عرضت خيار الحرب على الرئيس أحمد حسن البكر الذي رفض العرض الأميركي ، لكونه قائداً عسكريَّاً ويعي النتائج الكارثيَّة للحرب ، ما أدّى إلى تنحيته عن مسند الرئاسة ، فدفع هو الآخر ضريبة لرفضه الحرب ، إذْ أنَّ المبعوث الأميركي بعد مغادرته من اجتماع البكر ، التقى بصدام حسين وعرض خيار الحرب عليه ثمناً لدعم الولايات المتحدة في تولّيه رئاسة جمهوريَّة العراق ، وهذا ما أكَّدَته مؤخّراً المذكرات السياسيَّة لجملة من القادة السياسيّين والمبعوثين الدبلوماسيّين ، وذلك ما أشار له الإمام الخميني (رض) بوعي ثاقب وبصيرة نافذة إذْ قال (( إنَّ ما يدعو لبالغ الأسف هو أنَّ القوى الكبرى وفي مقدّمتها أميركا وعِبرَ تغريرها بصدام لشنّ الحرب ضد الجمهوريَّة الإسلاميَّة ، أجبرت الحكومة الإسلامية على الانشغال بالدفاع ، مِمّا دَفَعَ بالكيان الصهيوني لتنفيذ مخطّطاته التوسّعيَّة لإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات )) .
ثالثاً : القدس موطنٌ لوحدة الأمّة والإنسانية :
تُعَدُّ القدس موطناُ تاريخيَّاً للأديان الرئيسة الثلاثة ، الإسلام والمسيحيَّة واليهوديَّة ، وقد سَعَت القوى الدوليَّة الكبرى على مَرّ التاريخ جهدها للحيلولة دون وحدة أبناء الدين الواحد من الأديان الرئيسة ، فضلاً عن توحيد أتباع الديانات فيما بينها ، للسيطرة على مقدّرات وثروات شعوب هذه الديانات ، عِبرَ صنع التناقضات الثنائيَّة على أسُسٍ دينيَّة وطائفيَّة ، للتمترس بإحداهنَّ تجاه الأخرى ، وهذا دَيْدَن الأنظمة السياسيَّة الطاغوتيَّة على مدى التاريخ السياسيّ للبشريَّة ، وقد سُئِل الإمام الخميني (رض) عن مصير اليهود بعد انتصار المقاومة الفلسطينيَّة والقضاء على الصهاينة فأجابهم أنَّ مصير الصهاينة سيكون مثل مصير الشاه أمّا اليهود فهم طائفة دينيَّة تُمارس حياتها مثل بقيَّة الطوائف من دون تعرّض ، فهذا ما كان سائداً في صدر الرسالة الإسلاميَّة ، ويسود اليوم في الجمهوريَّة الإسلاميَّة ، ولذا يمكن القول أنَّ القدس وبما تحتلّ من مكانةٍ تاريخيَّة مُقَدَّسة في وجدان الأمَّتين العربيَّة والإسلاميَّة تُمَثّل الفرصة الاستراتيجيَّة لتحقيق الحلم الإنساني في التعايش السلميّ بين مختلف أتباع الديانات ، وهذا هو الموقف الإسلاميّ الصريح الذي عَبَّرَ عنه الإمام الخمينيّ (رض) تجاه مستقبل العلاقة بين أتباع الأديان الثلاثة في القدس .
رابعاً : موقف الإمام الخمينيّ (رض) تجاه فلسطين قبل انتصار الثورة الإسلاميَّة :
يَنهمك الثائرون بطبيعة الحال في القضايا القوميَّة لأوطانهم بهدف معالجة إشكاليّات وملابسات ومتطلَّبات ثورتهم ضد النظام السياسيّ الذي يواجهونه ، إلاّ أنَّ القائد الرساليّ الذي ينوء بحمل التكليف الإلهيّ في نصرة أبناء الأمَّة والمظلومين في العالم كما هو حال الإمام الخمينيّ (رض) ، لا يُحيدُه التكليف القوميّ عن التكليف الإقليميّ والدوليّ ، طالما كان المُشَرّعُ ذاته ، ولذا صَدح بموقفه الشرعيّ الرساليّ تجاه تحالف الشاه مع الكيان الصهيوني عام 1963 م بقوله : (( إنَّني أعلنُ لقادة الدول الإسلاميَّة والبلدان العربيَّة وغير العربيَّة ، بأنَّ علماء الإسلام ومراجع الدين العظام والشعب الإيرانيّ المُتَدَيّن والجيش الإيرانيّ الشريف ، يُشاركونهم في السرّاء والضرّاء ، وأنَّهم يَشجبون ويستنكرون التحالف مع إسرائيل عدوَّة الإسلام وعدوَّة إيران ، ولقد أعلنت هذا الموقف بمنتهى الصراحة ، وليبادر عملاء إسرائيل لإنهاء حياتي )) ، وحينما قُدِّمَ للإمام الخمينيّ (رض) إستفتاءاً حول جواز دفع الحقوق الشرعيَّة مثل الخمس والزكاة للمقاومة الفلسطينيَّة ، أجاب : (( من المؤكّد أنَّ ذلك أمرٌ مناسب ، بل من الواجب تخصيص جزء كافٍ من الحقوق الشرعيَّة من قبيل الزكوات وسائر الصدقات لهولاء المجاهدين في سبيل الله ، مِمَّن يقاتلون في جبهات التضحيَة والفِداء للقضاء على الصهيونيَّة الكافرة عدوَّة البشرية ، ومِمَّن يتطلَّعون إلى إحياء أمجاد الإسلام واسترجاع عزَّته وشَرَفه وإحياء التاريخ الإسلاميّ المجيد ، وعلى كلّ مسلمٍ مؤمن بالله واليوم الآخر توظيف طاقاته وإمكاناته في هذا السبيل )) .
خامساً : موقف الإمام الخمينيّ (رض) تجاه فلسطين بعد قيام الجمهوريَّة الإسلاميَّة :
تَعَزَّزت القناعة لدى الكيان الصهيوني بجسامة المخاطر الوجوديَّة التي نَجَمَت عن انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران وإقامة الجمهوريَّة الإسلاميَّة بقيادة الوليّ الفقيه الذي لم يألو جهداً في دعم المقاومة الفلسطينية على الرغم من نفيه خارج إيران والمخاطر والصعوبات التي تعرّض لها طوال ثورته ضد الشاه ، وتعزيز تلك القناعة لدى الكيان الصهيوني نجم عن الطرد الفوري للبعثة الدبلوماسية الصهيونية من مقرّ السفارة الإسرائيليَّة في طهران ، وتسليم المبنى للمقاومة الفلسطينيَّة بوصفها سفارة دولة فلسطين ، وبذلك لم يكن انتصار الثورة الإسلاميَّة الإيرانيَّة يُمثّل للكيان الصهيونيّ مُجَرَّد فقدانها للحليف الاستراتيجي الإقليميّ وحسب ، وإنَّما كان بمثابة انبعاث العدو التاريخيّ الاستراتيجي الذي كان مُغَيَّباً في قُمقُمِ التاريخ طوال أربعة عشر قرنٍ ، وأضحى الآن خطراً وجوديَّاً للكيان الصهيوني بذات الإمكانات التي كان يدعَمه بها الحليف الذي أطاحت به الثورة الإسلاميَّة تَوّاً ، وأقامت الجمهوريَّة الإسلاميَّة على أنقاضه .
سادساً : يوم القدس العالميّ في فكر الإمام الخمينيّ :
(( أدعو مسلمي العالم كافَّة إلى إعلان آخر جمعةِ من شهر رمضان المُبارَك يوماً للقدس ، وأنْ يُعَبّروا عِبرَ المراسيم عن تضامن المسلمين العالمي للدفاع عن الحقوق القانونيَّة للشعب الفلسطينيّ المسلم )) بهذه الكلمات القصيرة التي أطلقها الإمام الخمينيّ (رض) بتاريخ 7 / 8 / 1979 م ، أي بعد ستة أشهر فقط من قيام الجمهورية الإسلاميَّة ، انطَلَقت أمواجاً بَشَريَّة هادرة من مُختلف البلدان الإسلاميَّة ، وتزداد عاماً بعد عام ، تلبيةً للنداء الذي عَبَّرَ عن وجدان الأمَّة تجاه قدسها المُقَدَّسة ، وما لَبِثَ تسعة أيام حتى عادَ ليوضّح الإمام الخميني (رض) ، في بيان جديد ، بأنَّ يوم القدس العالميّ هو يوم حياة الإسلام ويوم رسول الله صلوات الله تعالى عليه وآله ، فهو لا يختصُّ بالقدس وحدها ، وإنَّما هو يوم مواجهة المُستَضعَفين للمستكبرين ، وهو اليوم الذي يمتاز به المؤمنون المناصرون للمظلومين عن المنافقين الداعمين للمستكبرين سِرّاً وجهراً ، وهو يوم تأسيس حزب المُستَضعَفين في كلّ أنحاء العالم ، فلا تستهينوا بهذه المسيرات والهتافات ، فقد انتصرت الثورة الإسلاميَّة بنداء الله أكبر وبمثل تلك الهتافات ، ولم تنتصر بالسلاح .
الخاتمة :
تَنبثق أهداف القائد السياسيّ من العقيدة الدينيَّة أو الأيديولوجيَّة السياسية التي يؤمن بها ، فتتجلّى بسلوكه السياسي وبطبيعة ممارسته للسلطة ، ويمكن تَلَمّس الأهداف الرساليّة للإمام الخمينيّ ( رض) انطلاقاَ من العقيدة الإسلاميَّة التي يؤمن بها ، والتي أملَتْ عليه مخاطبة الإنسانيَّة كافَّة للتحرّر والانعتاق من نَيْر الاستعباد والاستكبار العالمي ، إذْ نادى بقوله : (( يا مسلمي العالم و يا أيّها المستضعفون الرازحون تحت نَيْر الظالمين : انهضوا واتحدوا ودافعوا عن إسلامكم ومُقَدّراتكم ، ولا تخشوا صخب الأقوياء فإنَّ هذا القرن هو بإذن الله تعالى قرن انتصار المستَضعَفين على المُستَكبرين ، وانتصار الحقّ على الباطل )) ، السلام على فلسطين الحبيبة وقدسنا السليبة في يومها العالميّ ، والسلام على صاحب يوم القدس الرمضاني ، مَنار الثائرين وملاذ المُستَضعفين إمام الصحوة الإسلاميَّة السيد روح الله الموسويّ الخمينيّ ، والسلام على المقاومين الأحرار الذين ساروا على نهجه الشريف ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
https://telegram.me/buratha