بشير الوندي
-----------
مدخل
-----------
التشدد في أية فكرة هو تهور في استخدام وسائل العنف ناتج عن اليأس في الحصول على نتائج بأساليب تقليدية , وهو من جانب آخر حرق جسور التواصل مع المختلف والابقاء على لغة واحدة معه هي لغة العنف , ومن هنا فإن التشدد يعطي نتائج سريعة في الفرض الاجباري لفكرة معينة , او في الغاء فكرة معادية , وهو امر لفت انتباه دوائر الاستخبارات التي سعت لإستخدامه دون ان تدري ان السحر ينقلب على الساحر ويحرق اذياله .
-----------------------------------
تنبه المستشرقين للتشدد
-----------------------------------
مما لاشك فيه فإن التشدد الديني هو الابرز في مجاله على اعتبار انه يتجسد في صيغة قدسية بتنفيذ اوامر الله , فيكون كل من يعاديه هو كافر يحارب الله وانبياءه وينساق الى الشيطان .
وقد حدثنا تأريخ الاديان الى بشاعة الجرائم التي ارتكبت بإسم التشدد الديني سواء المسيحي في اوروبا , او عبر التاريخ الاسلامي الزاخر بمراحل هائلة من افكار التشدد , كقضية خلق القرآن وقضية تكفير المذاهب فيما بينها .
و برز رجال دين اسلاميين شددوا على توسيع دائرة الحرام وتضييق دائرة الحلال سواء في العبادات او في العقائد ووصل الامر لانتشار الفتاوى التكفيرية وجرى استغلالها في تشويه الفتوحات الاسلامية وتحويلها الى سبي وقتل وتشريد واغتصاب وغيرها من المظالم .
كما ساهم الحكام ابتداءاً من العصر الاموي فصاعداً الى بروز الكثير من الحركات الاسلامية المتشددة التي ترى كل منها انها هي الفرقة الناجية ومادونها في جهنم وعدم انتظار الحكم الالهي بها يوم القيامة وانما التسريع بقتل المخالفين بحد السيوف .
وامتلأ التراث الاسلامي بآلاف الصفحات التي تبيح القتل على اتفه الاسباب , وهو تراث جرى تداوله وتقديسه والاعتناء به دون اية محاولة لتشذيبه , فكان ان وصلت لنا منه آلاف المخطوطات التي تتيح لكل من يريد ان يضفي على عقده صبغة دينية قدسية تبرر افعاله الغارقة في دماء الابرياء .
ومع اهتمام المستشرقين بالتراث الاسلامي وترجمته في اوروبا , اكتشفت اجهزة الاستخبارات الاوروبية التابعة للدول الامبراطورية – وبالأخص البريطانية – منذ منتصف القرن الثامن عشر , ان التشدد الاسلامي الاعمى هو قوة لابد من الاحاطة بها وحد اضافرها لتكون القوة التي يتم بها تثبيت اركان امبراطوريتهم , وضرب الامبراطوريات المنافسة الاخرى .
------------------------------
لعبة الانكليز والوهابية
------------------------------
كان العدو الرئيسي للامبراطورية البريطانية في الشرق الاوسط والجزيرة العربية هي الامبراطورية العثمانية ذات الصبغة الاسلامية , فكان لابد لعناصر الاستخبارات البريطانية من البحث عن ضد نوعي اسلامي تكفيري متشدد وتسليحه ودعمه وجعله سكيناً في خاصرة الدولة العثمانية , فوجدوا ضالتهم في افكار وكتب ابن تيمية ورافع رايتها محمد عبد الوهاب , فكان الدعم البريطاني بالاموال والسلاح والخبرات والجواسيس للفكر الوهابي من اجل السيطرة على اقدس مقدسات المسلمين في مكة المكرمة لسحب الشرعية من الدولة العثمانية .
فجلبت محمد بن عبد الوهاب وجعلته المرجع الديني لقوة بدوية غاشمة اسمها جيش الاخوان وقرنته بجيش محمد بن سعود ليقودهم قائد انكليزي برفقة ضباط استخبارات بريطانيين ليؤسسوا الدولة السعودية وعاصمتها الدرعية , ثم ليتوسعوا وليتولى الوهابيون كامل الجزيرة العربية وتأسيس المملكة العربية السعودية .
لقد كانت تلك الفائدة الجمة والسريعة والفعالة الاولى التي تم استخدام الفكر الديني المتشدد من قبل دوائر الاستخبارات العالمية للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية وتحطيم الاعداء .
-----------------------
حماقة السوفيت
-----------------------
مع استلام الامريكان لإرث بريطانيا العظمى في الجزيرة والشرق الاوسط اثر الحرب العالمية الثانية , حافظوا على علاقات متينة مع السعودية والحركة الوهابية التي بدت لهم انها مليئة بالمنافع ولامضار بها على مصالحهم .
فكان الاستخدام الثاني الابرز للفكر الاسلامي المتشدد الوهابي - والذي صار هو المرجع الروحي لكافة الحركات المتشددة حتى يومنا هذا – في الحرب الباردة ضد السوفيت .
فمع اواخر العقد الثامن من القرن العشرين ارتكب السوفييت التواقين للوصول الى المياه الدافئة في الخليج وبحر العرب , ارتكبوا حماقة التدخل السوفيتي في افغانستان عام 1979 , فكانت تلك هي اللحظة الحاسمة للامريكان لإعادة لعبة البريطانيين مع الوهابية , حيث استعانوا مرة اخرى بالضد الاسلامي المتشدد بدعم من (امريكا المؤمنة ) في مواجهة (الشيوعية الكافرة) , وليبدأ مسلسل التطوع لحفظ بيضة الاسلام وهبت الوهابية والحركات الاسلامية المتشددة لقتال الروس الكفار في افغانستان , وليبدأ الدعم الامريكي المخابراتي بأموال سعودية لتحريض المتشددين في الزحف لدعم اخوانهم المجاهدين في افغانستان المحتلة , وكانت مكاتب التطوع التابعة لعبد الله عزام المتحالف مع بن لادن منتشرة في مساجد المسلمين في امريكا تدعوا للالتحاق بركب المجاهدين , وكانت السجون الامنية في الدول العربية تفتح بضغط امريكي لاطلاق سراح المتشددين بغية تسهيل سفرهم الى افغانستان.
------------------------------
بين الخيلاء والصدمة
------------------------------
ادى الدعم الامريكي المعنوي ومن ثم العسكري للحركات الاسلامية ومنهم قاعدة بن لادن– لاسيما بصواريخ ستينغر – الى هزيمة السوفيت ومن ثم سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه , الا ان الامر كان مختلفاً عن تجربة البريطانيين مع الوهابيين , فقد قويت شوكة (المجاهدين العرب الافغان) وملئهم خيلاء النصر وظنوا انهم قادرون على قيادة دولهم التي ارسلتهم , غير آبهين برضا او رفض الامريكان , وهو امر استشعرت الدول العربية الدكتاتورية الخطر منه رافضة عودة ابنائها المنتصرون .
ومع حماقة دخول صدام للكويت عام 1990ودخول القوات الامريكية (الكافرة هذه المرة )الى الاراضي السعودية (المقدسة) للتهيئة لطرد قوات الجيش العراقي من الكويت , استفاق المتشددون من العرب الافغان الى ان صديق الامس هو العدو .
--------------------------------
المارد يخرج من القمقم
--------------------------------
ولم تمر سوى بضعة سنوات حتى بدأ الامريكان بحصاد مازرعوه في تفجيرات لسفاراتهم في كينيا وتنزانيا عام 1998 وتفجير المدمرة كول في اليمن عام 2000, وليتوج الامر بتفجيرات نيويورك في 11 سبتمبر عام 2001, لينقلب السحر على الساحر , وليرد الامريكان بتحطيم حكم طالبان وتشريد تنظيم القاعدة الذي سلحوه , ثم احتلال العراق في 2003 .
ومرة اخرى يرتكب الامريكان حماقة ترك حدود العراق سائبة لينزل الارهابيون المتشددون من العرب الافغان من جبال تيرا بورا الوعرة الى سهول وصحراء العراق , بذريعة ان مقاتلتهم في العراق اسهل , وليتسبب الامر بإنتشار الارهاب والفكر المتشدد في العراق على يد الزرقاوي واتباعه .
ثم لتتوالى الامور بتأسيس داعش وانتشاره في سوريا والعراق , لترتكب الاستخبارات الغربية ذات الحماقة بغضِّ بصرها عن دعوات الالتحاق للجهاد في سوريا والعراق على امل التخلص من المتشددين لديهم ودفعهم ليقتلوا بعيداً عنها , لينقلب السحر مرة ثانية على الساحر , ويطال الارهاب اوروبا بالتفجيرات والانتحاريين والذئاب المنفردة الى يومنا هذا .
-----------------------
استنتاج جوهري
-----------------------
نستنتج من هذا ان التشدد الديني هو صنيعة مخابراتية , ومن لم يكن كذلك فإنه يستخدم كأداة من قبل المخابرات الدولية , وانه بإستثناء التجربة البريطانية مع الوهابية السعودية , فان كل التجارب اللاحقة كانت بمثابة من يربي في بيته وحشاً سرعان ماينقلب عليه , بل ان تجربة الحرب السورية منذ 2011 اثبتت ان الفصائل المتشددة كانت تتصارع على النفوذ بالنيابة عن الدول الداعمة لها .
ان من ينظر الى خريطة الفصائل المتشددة يجد انها فصائل مدعومة من دول تحركها اجهزة استخبارات لتصفية الحسابات , وهو مايفسر الامكانات التسليحية والمالية والاعلامية الضخمة لتلك الحركات والفصائل , كما ان الافكار المتشددة تتلاقى وتنتقل وتتوسع لتصبح عالمية الاهداف وتجذب اليها الكثير من الشباب الذين يعيشون الاحباط والظلم والفساد الحكومي والبطالة .
------------
خلاصة
------------
ان الاستنتاج الاخير هو ان الغرب ينبش بإستمرار في تراثنا الديني ويختار منه مايحقق مصالحه من خلال الدعوات التكفيرية , الا ان كافة المؤسسات الدينية الاسلامية الشامخة لم تتنبه الى الان الى اهمية تشذيب التراث الديني الاسلامي من الدعوات الشاذة التي تبيح القتل لأتفه الاسباب , والله الموفق
https://telegram.me/buratha