جاسم الصافي
( لا يهمني متى وأين سأموت . لكن يهمني أن يبقى الثوار منتصبين
، يملئون الأرض ضجيجا ،
كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق
أجساد البائسين والفقراء والمظلومين )
أرنستوتشي جيفارا
أن ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات ، هو نوع الإدراك الذي يوجه الإنسان نحو التمرد والاعتراض لينتج طاقة من الخلق والإبداع ، والتمرد هو طبيعة بشرية موجودة في الجميع حيث تقترن بشعور المرء ان له الحق فيما يريد او ان يعيش كيفما يريد , من هنا يتحرك التمرد بقيم مبهمة وضبابية تحجب مقدرته على فهم وتفسير شعوره بالاحتجاج ، لذا يحتاج إلى تبرير ولغة يفهمها الأخرين وهذا هو دور المعرفة حيث تشكل سلطة يتسلح بها المثقف ، ان المعرفة هي من يحول الاعتراض من عناد فردي إلى معارضة حقيقية تنسجم في تطلعاتها مع افراد اخرون داخل المجتمع لتوحد الشعور والفكر بعيد عن الفوضى التي من العادة ان تسيطر على تجمهرات الجماهير ، وبهذا تكون المعرفة سلطة منظمة توزع المسؤولية والحرص بين الجميع , لكن اغلب الناس يتركون هذه الشعور ليتعفن في أعماق ذواتهم كونه شعور يتطلب التضحية من اجل تحقيق طموحه جسديا وماديا ، وهو ما جاء في أسطورة سيزيف للكاتب هوميروس حيث يتجرد فيها الإنسان من ضوضاء الأوهام وخداع البقاء ليبقى يعيش غربة المألوف الذي يخضعه إلى تساؤلات كثيرة أهمها هل للحياة من معنى وهل من جدوى لمعرفة هذا المعنى وإذا ما توصل الى معنى العدمية هل سيكون الحل موجودا في دواخلنا لفوضى هذا الوجود وعذاب البقاء المستمر ؟ كل هذه التساؤلات تمر على الإنسان وهي لحظة تنير دربه بالبحث من جديد عن حلول تغير مصيره , يذكر كاموا في كتاب التمرد حقيقة مهمة وهي ( أن المنتحرين هم وحدهم الواثقين من معنى الحياة ) وأن العالم ليس بالكثافة التي نعيشها ولا بالجدية التي نرتدي قناعها , بل تحتاج منا التصالح معها الى حد معقول , التمرد هو ( أللا ) التي تؤكد أن هناك حدود لما يجري , يجب بعدها أن يتوقف كل شيء ويتحول الاعتراض إلى فعل حقيقي وليس شعوره بعدم الرضا عن واقعه المتكرر ورتابة عيشه , بل يقابل هذا الشعور والهواجس اشتعال في فتيل روحه المتمردة التي تنتظم في خطاب نقدي يهدم مفاهيم الرضوخ المعتاد عليها مع الآخرين ، وكلما توسعة أفاقه الذهنية ازدادت معه حالات الكشف والشك والتبرير التي تنتقل به من فضاء الفكر الى عالم الواقع ( العمل المعارض ) وهو خطاب احتجاجي يحاول ان يحاكي امكانيات التغير لما حوله .
هنا يأتي سؤالا مهم وهو هل يستطيع العقل من القيام بثورة وهل من الممكن لتلك الأفكار تغير الواقع ؟ .. هذا السؤال يعني تاريخ التجربة الانسانية وهي تتناسب مع البيئة والممكن ، مع العلم ان العقل قوة مكبوتة بعيدة عن أي تمرد بل هو يحاول ان يحافظ على المكتسبات التي تجعله يتمتع بالاستقرار النسبي اما الفعل الحقيقي فهو للأفكار الوجدانية ، كونه الجانب التنظيري منفصل عن الثورة كليا , وقد عمل ابن رشد في محاولة منه لإضفاء النظام على الواقع التجريبي وتحرير المجتمع من القوى اللا عقلية والعشوائية التي تتحكم فيه من خلال ترجمة ذلك الى لغة سياسية واجتماعية ، وكان هذا اقرب الى المثالية الهيجلية التي جاءت لتحرير الفكر في مجتمع عاجز عن التحرر على المستوى الواقع بعد أن تحكمت به الضرورات المصيرية ، إذ تجاوز التنظير بهذا الحد الفاصل بين الفكر والواقع بل وجعله ينبثق في الواقع ، ان ما جاء به ابن رشد وهيجل هو تخطي حد التنظيم التنظير إلى التنظيم التطبيق ، وهي منظومة في قانون التاريخ الطبيعي , اذ ان الأفكار حين تكون ثورة هذا يعني أنها لا تبحث عن تنظيم أو استقرار بل تتحرك نحو فوضى من اجل طموح التمرد ، إما حين يتجرد الإنسان من ضوضاء الأوهام وخدع المرحلة وغربة المألوف يحقق انتظام الفوضة لمرحلة خلاقة ..
ومن المعلوم أن الأسطورة كانت دوما النظرية الثورية لتثوير المجتمع التي ارتبطت مع حلقات التجربة الانسانية ، وقد ربط كامو عبثية الأسطورة بواقع الإنسان المعاصر معتبرا أن التمرد ضرورة يتجاوز بها ( سيزيف) واقعه المؤلم بعد أن رفض العيش في حكم الإله وهو حكما أزليا ( مقدر ) ليصبح واعيا بمصيره ... فيراقب تلك الصخرة التي تنحدر به وخلال بضع ثوان نحو العالم السفلي... فعليه إعادة الكرة في رفع طموحه نحو القمة ، أن كامو يؤكد أن الإنسان هو من يتحمل مسؤولية إنقاذ مصيره , لذا يلجأ إلى التمرد , رافض الهبوط نحوا الأسفل والانغماس في وحل الواقع المأساوي ، فالتمرد نافذته الوحيدة ليشعر بإنسانيته والخلاص من حتمية المصير ، وكما يقول (زوربا ) اليوناني الذي يعلل كراهيته للمثقف الذي امتلك عدسات مكبرة من المعرفة هولت له مخاطر الوجود حتى صار يرى الماء الذي طالما شربه ملوثا فيمتنع عن شربه والموت من العطشى ، أن هذا الكشف الذي يضعه الكاتب بشكل ساخر هو ما يرسل الإنسان الى التمرد عاجلا أم أجلا وهنا يأتي هذا السؤال كيف يستثمر الإنسان طاقة تمرده هذه لتغيير الواقع ؟ هل يرجع الى كهف العزلة وينفصل عن مظاهر الوجود ، ليطارد بعدها خياله وأمانيه التي بنت له عالم موازي لما هدم من اثر مآسي الواقع فيكون ( إنسان داجن ) أم انه يستثمر هذه الطاقة ويحولها الى جنون فنان وخالق , ان هذا الموقف هو انحدار بمصير الإنسان نحو اليأس الذي ينكره كامو ويعتبره استسلام للواقع نوع من العدمية أو الانتحار ، لهذا فهو يريد من الإنسان ان يتمرد على واقعه باستمرار ، وهذا ما يذكرنا بقصة ذلك الشيخ ، الذي سئل :
- من هو معلمك الأول ؟ .. فقال
- الخنفساء..
وأكمل قوله .. كنت في غرفتي والسراج موقد فجاءت خنفساء وهمت بتسلقه فتركتها لأرى ما تفعل فوضعت رجليها على الزجاجة فسقطت ثم عادة فسقطت واستمرت تجرب وتسقط حتى عددت لها سبعمائة مرة . ثم تركتها وخرجت في شأن لي وعدت فرأيتها تجلس على برج السراج !!
هذا هو التمرد الذي يعتبره كامو حالة إنسانية يجب ان يلجئ إليها الجميع بعد أن فقدوا الأمل في حل مأساتهم بالانتظار الذي يتلف كل شيء , بعد أن سدة الصخرة ( المصير ) الطريق إمام الطموح ، وبالرغم من هذا يبقى لإنسان يحاول ويحاول حتى يمنح للفراغ ألوانا , كالفراشات التي ترمي بنفسها الى مصير ذلك النور المجهول , ان هذا هو عبثية تمرد كامو الذي يمثل عبثية حكم الإله تجاه مصير الإنسان المعاصر الملغم بالحتميات القهرية
https://telegram.me/buratha