علي عبد سلمان
تسعي هذه القراءة لتحليل ظاهرة (العاطفة) في سلوك الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) من خلال رسائله التي امتلأت بالعاطفة العذبة، والروحانية الحانية والإحساس الصادق.
هذه العاطفة التي مثلت ثلثي مجمل رسائله إلى (عائلته، أصدقائه، مريديه، جماهير الأمة) تتميّز بـ:
١_ اللغة الأدبية الراقية.
٢_ رهافة الإحساس.
٣_ الصدق في توصيف المشاعر.
وهذه عناصر التميز في أي نص أدبي، لكن لما كانت صادرة من مرجع وقائد مسيرة، كانت بمثابة المادة الجاهزة للطعن والنقد، فهو أقرب إلي (الشاعر) و(المتصوف) منه إلي المرجع القوي!
وإليك نماذج من رسائله:
النموذج (أ):
«قرة العين الفاضل الكامل العلامة السيد أحمد الاشكوري، دامت بركاته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد تسلمت رسالتكم العزيزة، وفرحت بها، لأنها ذكرتني بما لم أنسه ولا أنساه، ذكرتني بكم وببقية الأحبة والأعزاء، ولا تزال أيها الأحبة صوركم في قلبي، وذكرياتكم ملء نفسي، رعاكم الله بعينه التي لا تنام..» وج١: ٢٤٤.
النموذج (ب) إلى العلماء:
«ملاذنا الأكبر وسيدنا الأفخم الذي تركزت في طبائع الإمامة والكمال، وانبعثت من ساحته المقدسة إشعاعات الهداية والتوجيه، وتألقت في تاريخه المجيد أضواء الجهاد في ميادين العقيدة وفي مجالات التحرر والعمل.
فديتكم بروحي ووقيتكم أي مولاي العظيم، بنفسي ما أفدح مصابكم وما أعظم فاجعتكم التي أشاعت في قلوبنا جميعاً اللوعات المرة، وأودعت في أرواحنا الآلام الممضة..» ج١: ٢١٣.
النموذج (ج) إلى الجماهير:
والتي كتبها نيابة عن جماعة العلماء بتاريخ ٢٣ جمادي الأولي ١٣٧٨هـ.
«أيتها الجماهير المسلمة..
أيتها الجماهير الكادحة..
أيها الشعب العراقي المجاهد..
فهيا أيتها الجماهير المؤمنة بربها، المخلصة لدينها، الواثقة بزعيمها إلي رفع راية الإسلام بقيادة الزعيم الأوحد والالتفات حوله تحت هذه الراية المقدسة، راية السماء التي رفعها أجدادكم في ظل قيادة مخلصة، فقفزوا قفزتهم التاريخية الجبارة..» ج١: ٣١١.
والرسائل التي كتبها كنداءات أخيرة قبيل الاعتقال من منزله المطوق المحاصر، أشد نماذج العاطفة القيادية للجماهير، يقول في ٢٠ رجب ١٣٩٩هـ:
«أيها الشعب العراقي المسلم إني أخاطبك أيها الشعب الحر الأبي الكريم، وأنا أشد إيماناً بك وبروحك الكبيرة، بتاريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازاً بما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحب والولاء والبنوة للمرجعية، إذ تدفقوا إلي إبيهم يؤكدون ولاءهم للإسلام بنفوس ملؤها الغيرة والحمية والتقوي، يطلبون مني أن أظل إلي جانبهم أو اسيهم وأعيش آلامهم عن قرب لأنها آلامي» ج٤: ١٩٣.
نموذج (د) إلى الأصدقاء:
رسالة منه (قدس سره) إلي السيد حسين صفي الدين، الذي عاش معه الصداقة في زيارته للبنان عام، ج٢: ٢٤٤، ٢٤٥.
«بنفسي عواطفك وروحك وقلبك الذي فتحته أنت لي، فكان اروع في نفسي من كنوز الدنيا مجتمعة لو فتحت أمامي، لأني وجدت في هذا القلب العلوي (الصفي) الذي فتح لي ذراعيه فدخلته آمنا مطمئناً، وأقمت فيه سعيداً هانئاً، وجدت فيه معاني الروح والعاطفة والحب والوفاء، ما يرتفع ويسمو علي الدنيا وكنوزها جميعاً».
تعميق المشهد
وعندما أريد أن اختصر عليك قراءة هذا المنهج عند الشهيد الصدر (قدس سره)، فيكفي أن تقرأ حالته العاطفية حين سمع بنبأ شهادة الشيخ البصري وصحبه (ره)، فقد «كان السيد يبكي بكاء مراً، ويقول: "يا ليتني مت قبلكم يا أبنائي، يا أعزائي"، وكاد أن يغشي عليه..»، وكان يخاطب الشيخ محمد رضا النعماني: «والله لو أن البعثيين خيروني بين إعدام أولادي الخمسة وبين هؤلاء لاخترتُ إعدام أولادي وضحيت بهم، إن الإسلام بحاجة إلى هؤلاء لا إلى أولادي» ج٣: ٨١.
مرجع عاطفي!
هذا الجو العاطفي جعل البعض_ كما احتملنا في البداية_ ممن لا يرغب في استمرار تأثيره داخل الحوزة أن يتحدث عن الصدر أنه: (عاطفي لا يصلح للمرجعية، والقيادة والمرجعية يجب أن تكون للأشداء الأقوياء فقط، أما للعاطفيين الذي ترق قلوبهم أو تدمع عيونهم لهذا أو ذاك، فلا). ج٣: ١٣٠.
فلسفة عاطفته (قدس سره)
يمكننا اكتشاف العمق في سلوك العاطفي من خلال قراءة فاحصة لرسائله، نلخصها في:
العاطفة: تعبد بالألم
يقول (ره) مخاطباً السيد عبدالغني الأردبيلي، ج٢: ٢١٨ «بنفسي أنت وأنتم جميعاً، وبعين الله ما تعيشونه من مشاعر وانفعالات، وتأكدوا أيها الأحبة أن هذه المشاعر والانفعالات هي من أعظم ألوان العبادة لله، واي عبادة أعظم من التعبد بالألم من أجل الله وفي سبيل الله»؟.
العاطفة: تعبد بإظهار المحبة
يقول (ره) مخاطباً السيد حسن الموسوي، ج٢: ٢٤٦: «وأحسست بروحكم الكبيرة، وقلبكم المؤمن الشجاع من خلال العواطف التي نسأل المولي سبحانه وتعالي أن يتقبلها بأفضل ما يتقبل به إخلاص الصالحين من عباده».
العاطفة: أسلوب حركي في بعض الساحات
يقول في رسالته للشيخ الكوراني يشرح رأيه في اختيار السيد حسين الصدر خليفة للسيد اسماعيل الصدر (ره) في إمامة الجامع، معددا الخيارات والصور المتاحة أمامه «الصورة الثالثة: أن يقدم شخص يملك الرصيد العاطفي بوصفه امتداداً للفقيد، بحيث يستطيع بهذا الإعتبار أن يبقى صورة المركز، ونحتفظ، بسبب ذلك بالأرضية التي نستطيع من خلال الاحتفاظ، بها تعبئة القوي لجعلها تمارس دورها المطلوب في خدمة الإسلام والحوزة». ج٢: ١٥٠.
العاطفة عند الصدر مقرونة بعقلانية دائما
يقول في نفس تلك الرسالة: «كنت أعيش الجانب العاطفي من المصاب، وأعيش العقلي معه معاً».
مما يعني أن العاطفة مظهر من مظاهر توازن الشخصية الإنسانية، أمّا حمل العاطفة على الجانب السلبي، فهو إشارة إلى وجود خلل في داخل الإنسان، وهذا ما أراد السيد الصدر أن يفهمه للسيد محمود الخطيب في (أنه لا يرضى أن يقال عنه إنه عاطفي، لأن الكلمة تحمل مدلولاً سلبياً) ج٣: ١٣٠.
من المؤسف أن يستفيد الخصم من ظاهرة نورانية في الطرف الآخر من جانبها المظلم.
العاطفة بوابة الأبوة
يجيب الشهيد الصدر عن الإشكال على منهجه العاطفي: «ماذا يريد هؤلاء مني، هل يريدون أن أتعامل مع الناس بجفاء وخشونة؟ هل يريدون أن لا أمنحهم حبي؟ إذ كيف يمكن للأب أن يربي أبناءه بقلب لا يحبهم؟ أليس هؤلاء هم الذين سيحملون راية الإسلام ويدافعون عن كرامة القرآن؟ إذا كنا لا نَسَع الناس بأموالنا فلماذا لا نسعهم بأخلاقنا وقلوبنا وعواطفنا»؟. ج٣: ١٣٠.
ذكاء عاطفي؟!
وقد نقل الشيخ أحمد أبو زيد أن هناك من حمل هذه العاطفة على (الذكاء العاطفي) الذي يتميز به الشهيد الصدر (قدس سره).
ويبدو لي أن هذه السمة إحدى سمات العاطفة عنده (ره) إذا قبلنا تعريف كولمان Goleman بأن الذكاء العاطفي هو: (القدرة على التعرف على شعورنا الشخصي وشعور الآخرين، وذلك لتخفيز أنفسنا، ولإدارة عاطفتنا بشكل سليم في علاقتنا مع الآخرين): لأنّ هذا السنخ من الذكاء أقرب إلى فن العلاقة مع الآخرين وكيفية توجيه أو تحفيز أو التأثير في الآخرين، بينما ما نجده من عاطفة (الصدر) تجاوز الفن الإجتماعي إلى العاطفة المتدفقة بوصف (الأبوية، العبادية، الحركية،..)، والذكاء العاطفي _بالتعريف السابق_ لا يشمل إلا القسم الأخير مما ذكرت.
أمّا من أورد الإشكال فإنه كان يقابل بين العاطفة و(قوة الشخصية) والعاطفة و (العقلانية)، لا أنه يري فيه غير.
https://telegram.me/buratha