جاسم الصافي
بحث الإنسان عن الخلود كان مستمرا ، لكن زمن التعقل أوقف هذا التفكير ليستسلم أخير الى القضاء والقدر أو الى الطبيعة المحكمة بقوانين حتمية مثل الموت والفناء ، أما فكرة الخلود بقيت تدغدغ مشاعره بفضاء متورم بالأنانية التي وجهة نحو الفردانية وتفضيل الفرد على المجتمع ، لذا صار هذا الإنسان نصف اله وأحيانا اله كامل يحي ويميت ويمجد ويخلد ، حتى استعاض عن فكرته عن الخلود بفكرة أخرى تدعم أنانيته وتهلل ذاته بقدسية أعقل ، هي الإنسان الأعلى ( السوبر مان ) الذي مازال رغم قدم الفكرة راسخا في مستقبله البعيد أو في أمانيه المعطلة ، ولم يهتم الى أي قيم يمكن أن تغلف إنسان المستقبل هذا ، لان المهم أن يمتلك القوى والسرعة أو بمعنى يكون خارق للطبيعة مثل الله . وهذه النتيجة من أهم الأفكار التي وصل إليه غرور الإنسان وتعصبه ، وهذا التعصب المتشجر من أفكاره الفر دانية قد تجنح بالعقيدة المتطرفة والغلو الفكري والاستبداد السلطوي ، بهدف السيطرة والاستحكام بمقدرات الآخرين وبالتالي إشاعة الكراهية للعنصر وتأسيس النظم الدكتاتورية من اجل العرق أو الدين ، والتعصب فكر يستغلق على الوعي بمحتوى تطرفي ، يطالب من مريديه تنفيذ أوامره ونواهيه من غير نقاش أو جدل ومثل هذا الفكر يمتلك محاور عديدة لا تقتصر على العقائد الدينية أو المذاهب الفكرية ، بل يشمل العلوم بمخلف قراءاتها ، وقد أثبتت التجربة أن ما يحرك التعصب هو حالة الإفراط أو التفريط بقيم وتعاليم اجتماعية ( أي المأثورات ) أن كانت عقائدية ( روحية ) أو فكرية ( مادية ) فهي تنمو سريعا حتى تتجاوز المألوف من دون تريث ، فتفسر وتقدم اجتهادا وقناعات جديدة تكون سبب في انتشار وعيا تعصبيا زائف ، يصبح فيما بعد ووفق الظروف مطلبا جماعيا يتجاوزون به محنة مرحلية كانت هي السبب في ظهوره ، بعدها ينكشف لهذا الفكر المتطرف طموح اكبر من أمانيه التي جاء بها أول الأمر .
ولنتذكر معا الأحداث التي مرت في القرنين الفائتين وما تمخض عنهما من تعصب فكري وانحياز أيدلوجي مثل الماركسي والفاشي والنازي والسلفي التي تطور الصراع فيها الى حرب عالمية ثالثة مستمرة حتى يومنا هذا يسميها الغرب ( الحرب على الإرهاب ) .
أن هذه الأفكار المتطرفة لم تبدأ بشخص مثل هتلر أو ستالين أو موسوليني ولا حتى في أسامة بن لادن وإنما تواجدت في مشجر بدأ مع بدء التاريخ البشري ومره بخديعة المراحل التاريخية متلبسا برداء الدين أو العرق وأخيرا تميز بمرحلة العقل عند نتشه و هيجل و فخته وكما وضحت في أراء هوستن ستيوارت شمبرلين اللذين اعتبرا أن التاريخ هو من صنع الصفوة الممتازة من البشر ، وهذا أيضا ما أشار أليه ابن تيمية وابن القيم اللذين انتزعا من التاريخ فقها نصوصيا حرفيا لابتداع مذهبا غريبا، لا يمتلك قراءة للعمق الإنساني الذي جاء من اجله الإسلام ، وهؤلاء المفكرين أو المجتهدين في تحريك النصوص المذهبية مهما تباعدت أمكنتهم أو أزمنتهم أو حتى ظروفهم الحضارية يؤلفون فضاء عقليا واحدا ، هو التطرف الفكري الذي استمد مزاجه من شخصياتهم ، معتبرين الإصلاح يأتي من النخب أو الطبقية أو الزعامات الدكتاتورية ، إذ يقول ابن حنبل ( من غلب بالسيف حتى صار خليفة ، وسمي أمير المؤمنين ، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الأخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه ، برا كان أو فاجرا ، فهو أمير المؤمنين ) كذلك نجد هذه ألآراء موجودة عند برجسون و سوريل و باريتو لنظرية الزعامة الدكتاتورية ، والتي يبينوا فيها فائدة الوثبة وهي تحدث من اثر القوة المتجمعة في نفس الزعيم ، ومن خلالها تستطيع الطبيعة أن تنقل الإنسان من مستوى الى مستوى ارفع بعد أن تستعين بعامل أخر يسميه سوريل و باريتو ( عامل الأسطورة ) وهو الأوهام التي تشد أزر الإنسان وتهون عليه الشدائد في سبيل تحقيق أحلامه ، وهذا ما يعتقده ابن تيمية الذي استعاض عن تلك الأسطورة بالنص المقدس ، فهو يقول أن الإمامة تقوم على أساسين هما: (القوة والأمانة) وهذا جاء بناء على نصوص قرآنية قد ورد ذكر القوة ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) من هنا نرى ابن تيمية يربط النص بجسور تشابكيه توهم المتلقي بنص عاجز عن تجاوز ألان والبعد النزولي للنص القرآني فجمع صفات الولاية في صفتين هما القوة والأمانة ، رغم أن هذا الرأي يخالف باقي فقهاء أهل السنة الذين يشترطون صفات عديدة في الأمام واعتبر فقهاء السلفية الوهابية ( أن القوة في التغير باطلة ، ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية . وقد يكون الإمام عادلا أو غير عادلا ، ولكن ليس لأحد من أزالته ) ويقول أحمد ابن حنبل في هذا ( أما الفاجر القوي ، فقوته للمسلمين ، و فجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه و ضعفه على المسلمين) وهذه مغازله واضحة للسلطة ، إذ كيف يصبح الظالم والفاسق إماما أو حاكما ، أن مثل هذه الفكر استخدم في أيامنا هذه لإباحة قتل ألبرادعي كونه شارك في مسيرة التغير مع أخوانه الثوار المصرين .
ولنرجع الى السلفية التي ذكرت في القران الكريم بشكل غير محمود ( فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) لهذا نجد كلمة الصالح تأتي تصحح لهذا الذم ولكن معنى السلف الصالح يأتي لغرض أخر وهو الفترة الزمنية المرتبطة بزمن الخلفاء الأربعة لهذا نجد السلفية لها اتجاهان ، هما سلفية نصوصية وسلفية عقلية ، ومن ابرز أئمتهم السلفية النصوصية هو أبو عبد الله احمد بن حنبل الذي كان ظاهرة عباسية حين تصدى لفكر المعتزلة آنذاك وقتها انتشار منهجه وصار الفكر السلفي النصوصي تيار فكري محافظ همه تحصين السنة والحفاظ على النص والموروث من فكر المعتزلة العقلاني وتبلور على أثرها الفكر ألاعتقادي وظهر بعده ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب والسنوسي والأفغاني ومحمد رشيد رضا .
أن الفكر السلفي بعد ابن حنبل تحول إلى نزاع مذهبي ، فبعد أن كان منهاج ليجمع الدين في أمرين هما رفض الشرك ورفض البدع التي طرأت على الدين ، أي حصر العلم والمعرفة بظواهر الكتاب والسنة بالنص الحرفي بمعنى النقل والرواية من غير العقل والدراية ، حتى تحول بعدها الى عقاب وتعصب مذهبي يرون الشرك به في جميع المسلمين ، ولا يقبل في هذا الأمر غير اجتهاداتهم الفقهي ، التي لا تتوازن نصوصها الجزئية مع المقاصد الكلية للتشريع الإسلامي فيقع أنصاره في التشدد والتعصب مع باقي المسلمين وهذا ما يمكن أن نلاحظه في قول ابن القيم عن الأمام احمد بن حنبل من أنه ( أمام أهل السنة على الإطلاق ... وان أئمة الحديث والسنة ، بعده ، هم إتباعه إلى يوم القيامة ) وهذا النص لا يحتاج الى تعليق حول تضارب منهجية الوحدانية التي تدعيه الوهابية ، فمثل هذه النصوص توضح أن المذهب الوهابية يكفر من يشاء ويدخل في الإسلام من يشاء وهو يتقارب بذلك من الفكر الشمولي المتجبر كما في النازية والفاشية الا انه جاء بتجهيز شكلي للنص حتى ينتظم بمذهب لا بفكر عقلي بغني مستجدات العقيدة .
والدعوى الوهابية هي ليست تيارا فكريا بل قوانين وسنن استحكم عليها متشددون ربطوا تصوراتهم عن علم التوحيد بالواقع السياسي والاجتماعي في وقت كانت فيه الجزيرة تعيش صرا عات قبلية و ( أميرية ) جعلت من أفرادها تهبط الى مستوى متدني من الفقر والجهل الذي قادهم الى التوسل والتقرب بما لا يضر ولا ينفع، وجاءت الوهابية التي لم تنصف الفرد من تعدي الأمراء بل كفرتهم وقدست الأمراء ،وهذا ما مدد انتشار الدعوى من بلدة العيينة إلى الدرعية مقر آل سعود حيث تعهد الأخير بالدفاع عن الدعوى ونشرها ، ومن لا يقبل بها يكون السيف هو من يقنعه ، إضافة الى أن هذه الدعوى قد وزعت على الوافدين إلى الحجيج الذين كانوا في حاجة إلى منهجية جمعوية تنبع من قوى الدين وخصوصا أن اغلب هؤلاء المسلمين يعيش الجهل في أوطانهم وبمختلف أشكاله ، فكان هذا من أهم عوامل انتشار الوهابية وخصوصا بعد ما منع سدنة الوهابية ( الأمراء ) حجاج بيت الله من الحج أن لم تنفذ تعاليمهم كما حصل للمصريين أيام محمد علي وكذلك ما حصل للشيعة والمتصوفة حتى وقت قريب .
والمذهب الوهابي انتهجت السلفية النصوصية ليبتدع بذلك مذهبا أن لم يكن دينا جديد ، يمكنه من تسلق النص فيخدم حركته السياسة وتحافظ على سلطة السدنة ( الأميرية ) وتظهرهم بمظهرا شرعيا ، ولمن يتتبع ركائز هذا المذهب يجد انه يعتمد على القياس الشكلي ليضع في قوالب تساوي ألزماني والمكاني من دون أن يحركها اجتهاد أو تفسير يواكب العصر ، مما يحجز النص في عقلية نقليه،فيعود بالنفع على السلطة التي تشرع وتحي وتميت بسيف الله ورسوله والشيخ .... هذه النصوص وأمثلها جامدة تدور حول محور المأثورات فقط وهي تنكر استخدام الرأي والقياس والتأويل والعقلانية وتعتبر مثل هذا الأمور من المنكرات التي تفسد الدين .
أن المرحلة التي مر بها محمد بن عبد الوهاب كانت لتأسيس فكر شمولي بطريقة تقليدية تتوافق مع المحيط البدوي الذي كان يعيشه أهل الجزيرة في تلك الأيام ، فنجد بدايته اعتمدت على التكفير الذي شرعنه الغزو وهو من أعلى قيم البداوة التي يحن أليها فما بالك وقد وزرتها الوهابية بخطاب مقدس ، وكذلك شرعنة حماية الأمراء ( سدنه المذهب الوهابي ) وبناء علاقة أمير العيينة (عثمان بن معمر) وأمير الدرعية ( محمد بن سعود ) التي توجت بعد سلسة طويلة من الصراعات باستيلاء ( عبد العزيز بن سعود ) على الرياض وهو المؤسس الأول للمملكة ، وكان محمد عبد الوهاب مدركا أنه لا يمكنه توليه القيادة على أولئك الأمراء ، لان هذا سيجعله ندا وخصما لهم ويحكم على دعوته بالفشل ، ففضل الاتفاق معهم على مبايعتهم بشرط نصرة مذهبه ، من هنا كانت المملكة وهابية بسدنة سعودية وان كنا نريد ان نسمي الأشياء بأسمائها فالأجدر بنا ان نسمي المملكة العربية السعودية بالمملكة العربية الوهابية
https://telegram.me/buratha