وباعتبار ان بني امية كانوا يمثلون حزب السلطة في الفترة الاولى من التاريخ الاسلامي كان لدى الامام علي عليه السلام فرصة ثمينة لعقد صفقة محاصصة ويقتسم الحكم معهم ويجذبهم لصفه لكنه لم يفعل وفي المقابل امر بمصادرة جميع اموالهم التي استولوا عليها دون وجه حق من خزينة الدولة وقد برزت في تلك الفترة قضية كبيرة لدى الراي العام الاسلامي تحت عنوان “قطائع عثمان” وهنا سنسمح العالم الكبير والمؤرخ ابن ابي الحديد ليحدثنا عن تلك القضية ليقول ” القطائع ما يقطعه الإمام لبعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج و يسقط عنه خراجه ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج و قد كان عثمان أقطع كثيرا من بني أمية و غيرهم من أوليائه و أصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة و قد كان عمر أقطع قطائع و لكن لأرباب الغناء في الحرب و الآثار المشهورة في الجهاد فعل ذلك ثمنا عما بذلوه من مهجهم في طاعة الله سبحانه و عثمان أقطع القطائع صلة لرحمه و ميلا إلى أصحابه عن غير عناء في الحرب و لا أثر”(1) .
استئثار بني امية بالحكم واستيلائهم على خزينة الدولة الّب الناس عليهم في كل بلاد المسلمين فحملوا لواء الثورة ضد الظلم الاقتصادي والاجتماعي الذي لحق على يد بني امية في قصة يسرد التاريخ كل احداثها لكننا سنقتصر هنا على مايرتبط بالموضوع الاقتصادي والفساد الحكومي والاداري الذي ادى الى نشوب ثورة المصريين وثورة الكوفيين ضد الوضع الجائر الذ صنعه بنو امية نتيجة استيلائهم على خزينة الدولة الاسلامية.
فبعد مقتل عثمان بن عفان وانتخاب الامة للامام علي عليه السلام اتخذ الامام عزمه على مكافحة الفساد بكل انواعه في الدولة الاسلامية وابتدأ برنامجه الاصلاحي بتطهير البلاد من الفساد واتخذ قرار مصادرة جميع الاموال التي نهبها بنو امية من بيت مال المسلمين وهذه كانت اكبر عملية مصادرة تحدث في الدولة الاسلامية وكان غرضها هو تطهير الدولة من الفساد واعادة الاموال المنهوبة الى خزينة الحكومة.
لقد اعاد الامام علي عليه السلام كل قطائع الخليفة عثمان الى بيت المال وقال في خطبة له ” وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَ مُلِكَ بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ ” (2) وكان بمقدور الامام ان يساوم حزب السلطة على الاموال التي اكتسبها عن طريق الحرام لكنه لم يفعل وسمح لهؤلاء بان يتحولوا الى معارضين الى حكمه ومن اکبر المتآمرین على ولایته وان یصبحوا فيما بعد قتلة ابنه سيد شباب اهل الجنة الحسين عليه السلام وما فعل ذلك لبغض حمله في قلبه عليهم بل لاقامة العدل الالهي.
ولما امر بتوزيع الاموال بين المسلمين ساوى بينهم ولم يقدم احدهم على الآخر، فاحتجوا على مساواتهم بعامة الناس ونقموا عليه انهم من ذوي السابقات في الاسلام وكان عليه ان يقدمهم ويفضلهم بالعطاء من بيت مال المسلمين فاجاب ” وَ لَوْ كَانَ اَلْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا اَلْمَالُ مَالُ اَللَّهِ ثُمَّ قَالَ عليه السلام أَلاَ وَ إِنَّ إِعْطَاءَ اَلْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ وَ هُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ يَضَعُهُ فِي اَلآْخِرَةِ وَ يُكْرِمُهُ فِي اَلنَّاسِ وَ يُهِينُهُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَمْ يَضَعِ اِمْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ لاَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اَللَّهُ شُكْرَهُمْ وَ كَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ ….” (3).
لقد كان الامام علي عليه السلام شديدا في مكافحة الفساد في دولته الى درجة انه كان يضع العيون على ولاته يتحسسون احوالهم فلو بدرت من احدهم بادرة سوء يبرقونها اليه ويخبرونه بها وقد وصل التشدد به الى درجة انه وبخ احد عماله وهو عثمان بن حنيف الأنصاري و كان عامله على البصرة لانه لبى دعوة اثرياء مدينته لموائد الطعام دون الفقراء، هو لم يخالف القانون ولم يأخذ الرشوة مقابل اطلاق سراح سجين او اعفاء احدهم من مال الخمس او الزكاة بل كانت جريمته ان علاقته كانت بالاثرياء دون الفقراء.
وفي مجال توظيف الاشخاص للعمل في الدوائر الحكومية فرض على المدراء الالتزام بمعايير الكفاءة والخبرة وان لايوظفوا الاشخاص على اساس المعروفية والمحسوبية والقرابة فأوصى واليه على مصر مالك الاشتر بما يلي” ثُمَّ اُنْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اِخْتِيَاراً اِخْتِبَاراً وَ لاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ اَلْجَوْرِ وَ اَلْخِيَانَةِ وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ اَلتَّجْرِبَةِ وَ اَلْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ اَلْبُيُوتَاتِ اَلصَّالِحَةِ وَ اَلْقَدَمِ فِي اَلْإِسْلاَمِ اَلْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً وَ أَقَلُّ فِي اَلْمَطَامِعِ إِشْرَافاً إِشْرَاقاً وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ اَلْأُمُورِ نَظَراً ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اِسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ وَ غِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ حتى يقول … وَ تَحَفَّظْ مِنَ اَلْأَعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اِكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ اَلْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وَ أَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ اَلْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ اَلتُّهَمَةِ”(4)
واستعمل الامام اسلوب النصيحة في احيان والتحذير في احيان اخرى للمحافظين والولاة عندما يحس منهم الزيغ او السقوط في الشبهات فلما اخبر عليه السلام ان قاضيه “شريح القاضي” قد اشترى بيتاً بثمانين دينارا استدعاه للمسأءلة ووبخه على فعلته ونصحه ان لايفعل مثل ذلك قبل ان يرجع اليه في قصة طويلة نقتصر فيها على نصيحته اياه ” أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اِشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِهِ اَلنُّسْخَةِ فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ اَلدَّارِ بِالدِّرْهَمِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُ وَ اَلنُّسْخَةُ هَذِهِ: هَذَا مَا اِشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ اِشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ اَلْغُرُورِ مِنْ جَانِبِ اَلْفَانِينَ وَ خِطَّةِ اَلْهَالِكِينَ وَ تَجْمَعُ هَذِهِ اَلدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ اَلْحَدُّ اَلْأَوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي اَلآْفَاتِ وَ اَلْحَدُّ اَلثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي اَلْمُصِيبَاتِ…..” (5)
وفي كتاب آخر نجد الامام علي عليه السلام يحذر عامله الاشعث بن قيس في آذربيجان من التصرف باموال الدولة من دون ان يرجع في ذلك الى لوائح ادارية اوقانونية ” وَ إِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَ لَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَ أَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ (تتصرف) فِي رَعِيَّةٍ وَ لاَ تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَةٍ وَ فِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ أَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ…” (6)
وفي موقع ثالث نجد الامام عليه السلام يحذرمن لم تردعه النصيحة بألم العقاب وكل ذلك قبل وقوع الجريمة فقد بعث بكتاب الى زياد بن ابيه وكان خليفة عامله في البصرة يحذره اشد الحذر من التلاعب باموال الدولة ويقول ” وَ إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ ءِ اَلْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ اَلْوَفْرِ ثَقِيلَ اَلظَّهْرِ ضَئِيلَ اَلْأَمْرِ وَ اَلسَّلاَمُ”
وعندما تقع الخيانة وترتكب الجريمة فإن عقابه سيكون شديدا على المذنب، ولما بلغه خيانة عامله المنذر بن الجارود العبدي وكان ابوه رجلا صالحا فكتب اليه ” أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلاَحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وَ تَسْلُكُ سَبِيلَهُ فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لاَ تَدَعُ لِهَوَاكَ اِنْقِيَاداً وَ لاَ تُبْقِي لآِخِرَتِكَ عَتَاداً تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وَ تَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ وَ لَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَ شِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ وَ مَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي” (7)
عزل الولاة عن مناصبهم ليس بالامر اليسير على قائد الدولة لانهم ربما سيتحولون الى طرف المعارضين لحكمه وقد فعل كثير منهم ذلك لكن الامام عليه السلام لم يساوم على المبادئ بل استمر بمحاربة الفساد في دولته حتى وصل الامر ليعترف القريب والبعيد بعدالته وليؤلف ذلك الاديب المسيحي جورج جرداق “الامام علي صوت العدالة الانسانية” (الامر لم يكن سهلا لكنه كان جديرا بالتضحيات)
بقلم : طاهر القزويني
=================================================
(1) بن ابي الحديد – شرح نهج البلاغة – الجزء الاول الصفحة 1700 – و من كلام له ع فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضي الله عنه
(2) نفس المصدر
(3) بن ابي الحديد – شرح نهج البلاغة – الجزء الثامن – الصفحة 1100 – فصل ( لماعوتب على التسوية في العطاء وتصييره الناس اسوة في العطاء من دون تفضيل
(4) بن ابي الحديد – شرح نهج البلاغة – الجزء السابع عشر – الصفحة 699 – فصل في القضاة ومايلزمهم وذكر بعض نوادرهم
(5) بن ابي الحديد – شرح نهج البلاغة – الجزء الرابع عشر – الصفحة 277 – من كتاب كتبه لشريح بن الحارث قاضيه
(6) بن ابي الحديد – شرح نهج البلاغة – الجزء الرابع عشر – الصفحة 333- من كتاب له الى الاشعث بن قيس
(7) بن ابي الحديد – شرح نهج البلاغة – الجزء الثامن عشر – الصفحة 555 – من كتاب له عليه السلام الى المنذر بن الجارود العبدي
*شفقنا
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha