عندما نتحدث عن الصناعة النفطية في العراق، نحن نقصد قطاع التصفية والبتروكيمياويات وما ينتج من مشتقات نفطية للوصول الى الهدف المرجو وهو مليون وخمسمائة ألف برميل يومياً من المنتجات وتطوير...
عندما نتحدث عن الصناعة النفطية في العراق، نحن نقصد قطاع التصفية والبتروكيمياويات وما ينتج من مشتقات نفطية للوصول الى الهدف المرجو وهو مليون وخمسمائة ألف برميل يومياً من المنتجات وتطوير صناعة البتروكيمياويات لتصل حد التنافس مع المملكة العربية السعودية، فضلاً عن تطوير المواد اللقيمة للقطاعات الاخرى. لكن للأسف، ان الحديث عن الاستثمار في مجال التصفية عقيم و متأخر، وذلك لسببين رئيسيين:
عقيم: لأن فلسفة الدولة العراقية ابتدأت مشوارها في تطوير هذا القطاع الهام بارتجال بعيد عن الواقع. حيث قامت الحكومة وبرلمانها بتقديم قانون استثمار المصافي (وما تبعه من تعديلات) بخصم 1٪ صعوداً الى 5٪ وكأنها تجرب حظها مع المستثمرين دون النظر الى عنصر الزمن وخسائره الفادحة التي تقدر بعشرات المليارات سنوياً بسبب غياب الطاقة والمواد الاولية اللقيمة للقطاعات الغير مخدومة فضلاً عن اعتماد استيراد المشتقات ومسألة حرق الغاز المصاحب. في حين كان عليها دراسة الحوافز المتعارف عليها عالمياً فيما توفره الدول الصناعية الامنة والخالية من التعقيدات التي اتصفت بها الحالة العراقية، ومن ثم تضيف لهذه الحوافز، باقة حوافز اخرى تعويضاً لعنصر المخاطرة (بسبب الوضع الامني) مع ضمانات عدم عرقلة المشاريع (بسبب السياقات البيروقراطية). علماً ان نسبة الخصم بحسب رأي بعض الخبراء في قطاع التصفية الذين استشرتهم يجب ان تتراوح بين 10٪ الى 13٪ حسب حجم وتصميم المشروع.
متأخر: لأن الحكومة أقدمت على عرض الاستثمارات في القطاع الاستخراجي وخصوصاً فيما يتعلق بالحقول المنتجة والمكتشفة (Brown and Green Fields) دون ربطها بمشاريع المصافي ومشاريع الطاقة والبنى التحتية الاخرى من خلال مشاريع متكاملة (Integrated Projects). علماً ان الاحتياطي المثبت والمخزونات القابلة للاستخراج (موضوعة التعاقد) والتي تجاوزت الـ 85 مليار برميل من الخام فضلاً عن مشروع الغاز المصاحب العملاق، والذي ذهب الى شركة واحدة بالتفاوض المباشر والتي لم ولن يكن همها سوى الاستخراج والانتاج لسد المصاريف وجني الارباح بأسرع وقت ممكن وبأية وسيلة، وهذا ما رسخ السياسة الريعية لبلد يعاني من أزمة حقيقية في عدم تنويع مصادر دخله، فضلاً عن موروث السياقات الادارية ونمطية التفكير في رسم السياسات البالية. والدليل هو ان موازنة عام 2004 التي كانت بحدود 19 مليار دولار قد تضاعفت الى 119 مليار دولار عام 2013، في حين ما زال حجم الواردات النفطية يشكل 95٪ من دخل الموازنة الاتحادية، كما ان المصاريف التشغيلية ما زالت تشكل بحدود 70٪ للأعوام العشر السالفة، علماً ان النسمة السكانية للعراق لم تتضاعف، لكن ما زاد الطين بلة، هو اثقال الموازنة بالعمالة المُقنّعَة، وهذا موضوع آخر ليس هذا مورده.
ما زلت أتذكر توجيهات الرؤساء التنفيذيين للشركات العالمية بين الاعوام 2004-2008 عندما كنت أعمل في إحدى الشركات العالمية الكبرى كمستشار أقدم، وقد كنت حينها أشارك في الاجتماعات المشتركة مع الشركات العالمية الاخرى لمراجعة خطط دخول الشركات الى العراق. كانت التوجيهات لكوادر الشركات واضحة:
وتفسير هذا التوجيه لدوائر تطوير الاعمال والخطط، باختصار، هو:
أولاً: التركيز على القطاع الاستخراجي المربح فقط.
ثانياً: في حال اجبار الشركات على الدخول في أي مشروع له علاقة بالصناعات النفطية والطاقة (تصفية أو بتروكيمياويات أو محطات الكهرباء)، فيجب ان تكون اقتصاديات هذه المشاريع مرتبطة بمشاريع الاستخراج.
حقيقة لقد حاولت جاهداً منذ عام 2008 باقناع أصحاب القرار في وضع منهجية علمية لتطوير الصناعة النفطية من خلال الربط بين قطاع الاستخراج وقطاعات الطاقة الاخرى بما فيها المصافي ومحطات الكهرباء وشبكات الانابيب …الخ ، حيث بعثت برسائل مباشرة ومقالات منشورة في صحف الصباح والزمان والمدى، لكن وزارة النفط ارتأت التوجه نحو تطوير قطاع الاستخراج بمعزل عن باقي القطاعات وذلك لسهولة رسم الصيغ التعاقدية (التي كلفت العراق أكثر من 20 مليار دولار لحد هذه اللحظة بواقع زيادة 700 ألف برميل يومياً)، علماً ان العراق كان بإمكانه فرض أي شرط من خلال صيغ تعاقدية محفزة للشروع بتطوير هكذا مشاريع عملاقة وبالتوازي مع تطوير قطاع الاستخراج، خاصة وان أصغر الحقول التي تعاقد عليها العراق تعتبر عملاقة بالمقاييس العالمية، فضلاً عن كونها منتجة ودون أي مخاطر فنية.
لذا أجد لزاماً على مجلس النواب العراقي ان يُوَلِد قوة ضغط على الشركات العالمية لتستجيب الى اعادة رسم الخارطة من جديد، من خلال اعادة التفاوض هدفاً لاستمرارية تعاقداتها وضمان سلامة مشاريعها لربع قرن (فترة التعاقد)، وأنا متأكد من أن الشركات سترضخ لهذه السياسة، خاصة اذا كان عنصر الضغط مصدره الشعب وليس الجهة التنفيذية المتعاقدة معها. كما لا بد ان نُذَكِر بأن هذه التعاقدات قد قامت دون اشراك المحافظات المنتجة كما يقتضيه الدستور في المادة 112، مما دفع بالمحافظات بالحديث عن البترودولار دون أي مسوغ دستوري، لأن المادة 106 من الدستور كفيلة بتشريع قانون توزيع الواردات الاتحادية (النفطية والغير نفطية). أما فيما يخص التعويضات عن الاضرار التي لحقت بالمحافظات المنتجة، فهذه تحلها تخصيصات الموازنة الاتحادية وتحت باب مستقل دون عنونتها بالبترودولار، لأن الاخيرة تصطدم بالدستور.
على الشعب العراقي ان يشكر الاوضاع السياسية السيئة التي يمر بها الشرق الاوسط، والتي أدت الى رفع اسعار النفط أكثر من أربعة أضعاف مقارنة بعام 2003، وهذا هو السبب الرئيسي في زيادة مدخولات الدولة. لذا، فإنه من السذاجة بمكان ان نتحدث عن مسيرة تطوير مشاريع الطاقة في العراق، وفي الواقع ان تطوير قطاع الاستخراج اليوم ليس له علاقة بالصناعات النفطية والغازية ومحطات الطاقة.
ما زلت اتذكر أيام صغري كيف كان أصحاب المحلات والبقالين يجبرون الزبون على شراء بضائع لا يحتاجونها مع ما يقصده المستهلك من بضاعة بغرض تمشية ما عندهم من مؤن قد تكون عالة أو لا سوق لها، حتى وصل الامر ببيع كتب “خيرلله طلفاح” التي كانت تفرض مع گلوص سگائر سومر.
**) مداخلة حوارية في منتدى شبكة الإقتصاديين العراقيين حول قضية مشروع بناء مصفى نيسان ومذكرة التفاهم مع الشركة السويسرية ساتارم
29/5/140102
https://telegram.me/buratha