* ماجستير فكر سياسي معاصر – باحث مهتم بالآديولوجيات السياسية المعاصرة
لا يخفى على أحد في هذا الزمن, عظمة شخصية الإمام الحسين عليه السلام, وامتدادها وانتشارها بالبعدين الأفقي _ألزماني_, والعمودي _الذاتي الإنساني. ولا يخفى علينا أيضا أن النهضة الرسالية التي قام بها, وثورته بوجه الظلم والطغيان والفساد في وقته, قد حملت مفاهيم ومضامين غيبية ووجودية.
ولنا أن نسأل: ما الذي حرك السلوك الاستشهادي عند الإمام الحسين عليه السلام؟ هل هو الإيمان المطلق بالغيب, وانتظار الثواب المرجو في الآخرة؟ أم هو الإيمان الراسخ بقضية انتشار مفهوم العدل في الدنيا؟ أم هو مزيج بين هذا وذاك؟
ولعل الرأي الأكثر اعتدالا, هو القائل: بأنها تركيبة سلوكية ولدت من تلاقح عوامل الظلم الاجتماعي, بمبادئ العقيدة الإسلامية, التي جاء بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
إن انطلاق الإمام الحسين عليه السلام؛ إضافة إلى كونه يمثل استجابة لأمر إلهي وواجب شرعي؛ إلا أنه كان يمثل في الوقت نفسه, تأسيسا منهجيا, ومساهمة تكميلية, في بناء صرح العدالة في المجتمعات البشرية؛ هذا الصرح الكبير الذي ساهم في بناء لبناته, آلام وآهات ودماء ودعوات وخطب ومعارك الأنبياء والمصلحين على مر التأريخ.
إذاً, ومن هذا المنطلق, إذا أردنا أن نُخضع الممارسة السياسية للإسلام السياسي الشيعي, فما علينا إلا أن نخضعها لمعيارية العدالة في الممارسة والسلوك السياسي, أي يجب أن يقوم الفعل السياسي في منظومة الفكر السياسي الشيعي الحسيني على مفهوم العدالة..
العدالة بوصفها فضيلةّ من أهم فضائل السلوك الإنساني, تعتبر أيضا معيارا مهما لتقييم الأفراد والمجتمعات على حد سواء؛ فهي باعتبارها موقفا أخلاقيا من ناحية, ولكنها في حقيقتها ومن جانب آخر, تمثل مبدأً عاما, ومقياسا للحكم, على معايير القانون وتطبيقه.
الجهات السلطوية الشيعية المعاصرة في العراق, والتي كانت يوما تحمل لواء النهضة الحسينية _ أو كما يحاولون أن يصدروا أنفسهم؛ مثلت تجربتهم في الحكم, مرحلة التعافي السياسي المرحلي أو الظرفي, بالانتقال من ظرفية الصراع ضد السلطة, إلى ظرفية الصراع على السلطة؛ فقد مكنتهم الأقدار من الوصول إلى نهاية التجربة السياسية (النهضوية), من خلال مسك زمام الحكم في العراق!
الصراع على السلطة في العراق, ومحاولة بعض أحزاب الإسلام السياسي الشيعي تحويل هذا الصراع الى آديولوجيا وجودية خاصة بهم؛ جعلهم يقعون في فخ الجهل؛ وفخ ما يسمى بتزاحم الدوافع الفطرية, أي خضوعهم للدوافع البشرية الغريزية السلبية, والتي تدعو عادة إلى الاستقتال من أجل المكاسب الآنية؛ وهذه الدوافع عادة تكون قائمة على أصول ثلاثة: الحرص, الاستكبار, والحسد.
وإذا أردنا أن نرجع إلى الصفات التمثيلية الحقيقية, لمنهجية النهضة الحسينية, والتي يمكن لها أن تكون فاعلا سياسيا, بعباءة الثورة الحسينية؛ لوجدنا أنها الأبعد هذه الأيام عن رجال حزب السلطة المدعية للإسلام السياسي الشيعي المعاصر في العراق. وإذا أردنا أن نوصف السياسي الذي يتبنى حمل راية التشيع, والذي يُفترض أنه يحاول تجسيد مبادئ الثورة الحسينية, والسير على منهجها؛ فيجب عليه أولا: أن ينجح في رفع إشكال التعارض والنزاع داخل نفسه الإنسانية, وفي تعامله مع خارج جسده البشري . هذه النقطة يمكن أن نطلق عليها مصطلح (التقوى السياسية ). وكما هو معلوم لدينا, أن مهمة التقوى, هي تقييد الفعل البشري ضد الممارسات التي يكون للشيطان دور كبير في إيجادها؛ حيث أن دور الشيطان ينحصر هنا في أنه يريد العودة بالإنسان إلى حالة التعري الأخلاقي؛ وهي الحالة التي يعيش فيها الإنسان بعيدا عن الضوابط والكوابح الأخلاقية, القائمة على ضمير واعي, ويفعل ما يحلو له من دون قيود; وحالات التسيب والفساد الأخلاقي والمالي والإداري, هي أبرز ما يمثل الأخلاقيات السلبية لرجل السياسة. في مقابل هذه الحالة, يوجد مفهوم (التقوى السياسية ), وهي التي حاول الإمام الحسين عليه السلام تجسيدها في نهضته. فحالة (التقوى السياسية) تعني قطع يد الشيطان, وإحلال السلام والطمأنينة والسكينة, في واقع نفس رجل السياسة, من خلال انضباط الفعل السياسي عنده بضوابط أخلاقية؛ والذي ينعكس كعملية إحلال للسلام والطمأنينة على أفراد المجتمع. هذا النوع من ( التقوى السياسية ), يعتبر من أهم أنواع الضبط الباطني؛ ويمكن لنا أن نجد له أصداء في الحياة المدنية المعاصرة. فكل تمدن أو تحضر, يدعو إلى أن يسير الإنسان في حركة الحياة بمكابح داخلية, وضوابط باطنية, بدلا من الضوابط الخارجية المفروضة عليه من الواقعية الاجتماعية النقدية .
القائمين على السلطة في العراق, والذين كانوا في وقت مضى يصدحون عاليا بانتهاجهم لنهج الحق الحسيني, بل وأنهم ممثليه الحقيقيين؛ قد ابتعدوا عن مبادئ الثورة الحسينية, كإلهام حقيقي لأخلاق رجل السلطة؛ بل أنهم اتجهوا في معيارية ممارساتهم السياسية نحو القبلة المكيافللية, والتي كانت قائمة على أساس وجود نوعين من الأخلاق: أخلاق السادة, وأخلاق العبيد؛ أخلاق للحاكمين, وأخلاق للمحكومين. وأن الحاكم من أجل الحفاظ على سلطته ومقامه, يجوز له الكذب والمراوغة, والتعذيب والخيانة, والخداع والتسويف..
الذي حصل ومع الأسف, هو عملية التسلق, على أكتاف المنظومة الثورية, والمعرفية, والدينية, والأخلاقية, والسياسية للثورة الحسينية, وسرقة وهجها المعشش في قلوب الأكثرية البشرية في هذا البلد؛ باعتبارها وسيلة آنية ظرفية, للوصول إلى أهداف ومطامع ومكتسبات شخصية.
البداية المنهجية, لأحزاب المعارضة الشيعية, والتي أمسكت بزمام الحكم بعد سقوط الطاغية؛ كانت قائمة على معايير الإسلام السياسي, المحمدي الشيعي؛ آخذين من الدين السياسي معناه النصي المقدس فقط, تاركين تمثيله من خلال الأعمال والممارسات, التي عادة ما يقوم بها أصحاب الرسالات السماوية حين يصلون إلى الخيوط الأولى للممارسة السلطوية بوجهها الديني.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد, بل إن ممارساتهم بدأت تنحى منحى سلبيا, خرج عن نطاق الأخلاق الإنسانية, فضلا عن المعيارية الإسلامية أو الشيعية. فنجد أن أغلب ممارسات رجال السلطة لهذه الأحزاب , قائمة على كل ما يخالف منهجية الثورة الحسينية, من صدق وإخلاص, وتعاطي واقعي, وإيثار وتضحية; بل وأحلوا محلها ممارسات الكذب, والخداع, والتضليل والاجترار, ونشر الوعي الزائف وغيرها. وما زاد من وقع المصيبة, أن الماسكين بزمام السلطة الآن, هم كانوا يوما من الداعين بالثأر للإمام الحسين , ومن السائرين على نهجه, والداعين إلى تطبيق مبادئه في حكم البشرية.
وأخيرا..هل يحق للشيعي, أن يعتبر هؤلاء ممثلين عنه؟ هل يستطيع أن يعتبرهم مصداق لمنهج الإمام الحسين لنبذ الظلم والطغيان والفساد؟ أم أنهم انكشفوا من خلال حربهم الغير معلنة لثوابت النهضة الحسينية؟! بل وأنهم قد انكشفوا كسراق حقيقيين, امتدوا على قارعة التأريخ, ليسرقوا من هذه المسيرة ثوبها القدسي, ليشتروا به ثمنا بخسا أياما معدودة!.
https://telegram.me/buratha