الطف هويتنا الثقافية
لم تكن واقعة الطف مجرد ثورة سياسية في حياة الأمة ذلك انها انطوت على تأسيس المفاهيم وقيم انسانية شمولية الأمر الذي جعلها تمتد عبر العصور لتعبر عن صرخة الانسان واحتجاجه في صراعه المستمر ضد قوى الظلام والقهر، واذا ما كانت ثورة الامام الحسين (ع) قد اطاحت بربوبية العرش السياسي وقدسيته الأرضية وطغيانه بحيث اعطت الرفض والاحتجاج شرعيته، فانها غدت الى جانب ذلك حركة الرفض الأدبية والفنية، الجمالية والمعرفية ضد زيف القيم السائدة والمألوفة بوصفها لوناً من ألوان الظلامية والتخلف والقهر، ذلك ان القهر والاستبداد الثقافي يساهم والى حد بعيد في ترسيخ استبداد السلطة الديكتاتورية او غير الشرعية، ولهذا صارت القيم التي اسسها الدم الحسيني المبارك المرجع الاساس لكافة عمليات الاحتجاج ولا سيما مشاريع التأسيس لهوية خاصة بثقافتنا وقد تم استلهامها احياناً بشكل مباشر واسقاطها على الواقع المعاصر، واحياناً أخرى تم استلهامها بشكل غير مباشر "قيمها ومبادئها" في معالجة المشاكل الراهنة التي يتعرض لها الفرد والمجتمع المعاصر ومن خلال جميع الفنون والآداب بمختلف الأساليب والاتجاهات، حيث تم تجسيدها رمزياً وتجريدياً وواقعياً .. الخ لذلك نستطيع القول ومن خلال الشواهد التي سنأتي على ذكرها ان واقعة الطف العميقة في اثرها قد اصبحت سمة بارزة من سمات هويتنا الثقافية والانسانية ذلك انها غدت حركتنا الفنية والأدبية وبشكل مستمر فكانت الدافع والمحرك أحياناً للابداع وفي أحيان كثيرة كانت المادة والمصدر للعديد من المبدعين في التعبير عن افكارهم الثورية ضد جمود وتخلف واستبداد الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي.
*الطف في الشعر
ديوان ضخم بحجمه وبعدد شعرائه الكبار هو ديوان الطف، فقد رافقت المأساة الحسينية روح الشاعر العراقي عبر العصور فجسدها احياناً بالتوجع بذكرها ووصف احداثها وقد غلب هذا التوجه على الشعراء الرواد ولا سيما في القصيدة العمودية حيث استخدم الشعراء واقعة الطف كنموذج متميز للتضحية في سبيل القيم وذلك لتحريك الضمير الانساني وحثه على السير في شارع القيم وبظل مبادئ الحسين (ع) هذا الى جانب استلهامها في قصائد المناسبات الثورية بوصفها النموذج الأول من نوعه في قدرته على اثارة دم المنتفضين ضد القهر، قهر السلطة او المستعمر وعلى حد سواء.
اما القصيدة الحديثة وبشقيها (الحر والنثر) فقد استلهمت واقعة الطف باسلوب اكثر عمقاً من القصيدة السابقة بحيث لم تتوقف عند الواقعة بوصفها حدثاً تسبر اغواره وتستنهض قيمه باسلوب جمالي ومعرفي مغاير دفعها الى افق آخر أكثر حداثة وتزامناً لروح العصر. ويبقى ان نشير الى أهم الشعراء الذين استلهموا واقعة الطف في قصائدهم امثال الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والدكتور احمد الوائلي والسيد مصطفى جمال الدين ورواد القصيدة الحرة ومنهم بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف ومظفر النواب.
*الطف في القصة
كانت واقعة الطف وخاصة ببعدها الرمزي مادة اساسية للعديد من القصص والقصاصين العراقيين حيث تمكن العديد منهم من استلهام الطقوس الحسينية في عاشوراء واثرها في حياة المجتمع العراقي المعاصر مؤكدين على عمق الايمان بمبادئ الثورة الحسينية وتمثل الشارع العراقي لها في مواجهة واقع الظلم والاستبداد ونخص بالذكر هنا تجارب محمد خضير البارزة وقصص جمعة اللامي وموسى كريدي وتجارب العديد من القصاصين الشباب ومنهم شوقي كريم وحميد المختار.
*الطف في الفن التشكيلي
استطاع الفن التشكيلي العراقي استلهام واقعة الطف بشكل اوسع من الفنون والآداب الأخرى ذلك ان اسلوب الكتل والألوان يتمكن دائماً من المرور على الرقيب بينما تكشف صراحة اللغة القضية التي تريد طرحها القصيدة او القصة، ففي الوقت الذي تمكنت فيه السلطة من قمع القصة والقصيدة الحسينية، الا انها فشلت في قمع اللوحة والمنحوتة لذلك تجد (الرأس الحسيني الكريم) قد اصبح سمة للوحة والمنحوتة العراقية هذا الى جانب استلهام العديد من الفنانين لواقعة الطف كموضوعة سياسية ضد التعسف السياسي المعاصر ومن ابرز الأمثلة على ذلك ملحمة الشهيد للفنان المرحوم (كاظم حيدر) وهي ثلاثون لوحة استخدم فيها اسلوب التجريد وللأسف فان هذه الملحمة قد تم اخفاؤها من قبل النظام العراقي البائد. كذلك نذكر هنا تجارب الفنان فائق حسن وشاكر حسن آل سعيد الى جانب العديد من تجارب الفنانين الشباب.
*الطف في المسرح
ربما كان المسرح اكثر الفنون تعرضا لرقابة السلطة ولا سيما في حال تعامله مع واقعة الطف حيث منعت العديد من العروض والنصوص التي استلهمت واقعة الطف بشكل مباشر، الا اننا ورغم محاولات القمع التي مارستها السلطة نستطيع ذكر أمثلة عديدة على تصدي المسرحي العراقي لواقعة الطف وتجسيدها بشكل معاصر ومنها عرض مساء التأمل للفنان قاسم محمد معداً ومخرجاً، وتجارب الفنان د. عوني كرومي في الاستفادة من التشابيه الحسينية سيما وان رسالة الماجستير التي قدمها في ألمانيا كانت عن مادة هذه التشابيه واثرها الجمالي والمعرفي في صياغة اسلوب متميز لمسرح خاص يمثل هويتنا الوطنية والعقائدية، هذا الى جانب محاولات د. جواد الاسدي وعزيز خيون وكريم رشيد في استلهام قيم الواقعة وبثها عبر عروض تتناول اشكاليات معاصرة.
ان هذه اللمحة السريعة والخاطفة عن منجز الثقافة العراقية فيما يخص واقعة الطف قد لا يفي والى حد بعيد بالغرض الذي استهدفناه في هذه العجالة ذلك ان تمثل الثقافة العراقية لواقعة الطف لم يكن بتقديمها كحدث مباشر، بل قد استلهمها بشكل رمزي يحتاج الى بحث متخصص لتتبع جذوره العميقة والعديدة في ثقافتنا. غير ان هذه الشواهد التي تم ذكرها ورغم اغفالنا ـ غير المتعمد ـ لأسماء وتجارب أخرى تؤكد وبشكل قاطع على ما ذهبنا اليه من ان واقعة الطف تشكل سمة بارزة من سمات هويتنا الثقافية ذلك انها مدرستنا العقائدية والانسانية وبالتالي فهي الأرض التي نقف عليها والمدرسة التي نغترف منها مفاهيمنا حول الحياة والانسان وكذلك فهي السر الجوهري لصيرورة حركتنا الابداعية وفي جميع المجالات.
17/5/131115 تحرير علي عبد سلمان
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha