استوقفني مؤخرا حديث مستشار التعليم العالي د. صلاح النعيمي في حفل تخرج جامعة القادسية حول "كثرة خريجي الجامعات العراقية"، والذي عزا فيه سبب البطالة العالية بينهم الى "وجود الظروف التي مر بها العراق الاقتصادية والأمنية والاجتماعية"، الأمر الذي يشير بوضوح الى أن ظاهرة البطالة بين خريجي الجامعات تعتبر من أبرز التحديات التي تواجه الحكومة، ووزارة التعاليم العالي خاصة، والمجتمع بوجه عام. ومع ان صديقي المستشار لم يتطرق الى اهم الاسباب التي تسهم في ارتفاع معدلات البطالة لخريجي الجامعات وهي قصور مخرجات العملية التعليمية وانعدام المواءمة مع احتياجات سوق العمل، اشار بوضوح الى ان "نسبة الالتحاق للجامعات في الدول الاقليمية تتجاوز 40% اما في العراق فلا تتجاوز 14% وهذا يدل على الحاجة الكبيرة للاحتياج الى الخرجين، ولكن هنالك ظروفأً تعيق هذا الامر". هل يمكن أن تكون هناك حاجة كبيرة للخريجين في الوقت الذي تتزايد فيه اعداد العاطلين عن العمل من الخريجين؟ وهل من الصحيح الاكتفاء بمقارنة نسب الخريجين مع الدول الاقليمية في عصر العولمة الذي يفترض ان العالم اصبح قرية صغيرة؟ اذا كان سبب التوسع في انشاء الجامعات وفي معدل الفرص المتاحة للطلاب للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي هو مجرد لغرض اللحاق بالدول الاقليمية، فأن هذا السبب قاصر، ولا يبرر حجم الاستثمارات الهائل من قبل الحكومة العراقية في هذا المجال، ولسبب معقول وهو لكون هذه الدول الاقليمية تعاني اليوم من ازمة كبيرة في توظيف الخريجين وتواجه تحديات هائلة مما تجعلها تعدل عن التوسع والاتجاه نحو تحسين التعليم ونحو الدولية واعتماد الجودة وتعزيز مفاهيم التعليم التقني بما يتناسب مع حاجة المجتمع وحاجة السوق.
وإذا كان من الضروري التوسع في القبول لسبب او لآخر، ارى انه يجب ان يكون معظمه في التعليم العلمي والتقني وان يرتبط بحاجة السوق وبتحسين مستويات التعليم والتعلم وبدعم مستلزمات الجودة في الجامعات الحالية. لذا من المهم ان يوفر خبراء الوزارة معلومات ودراسات عن حاجة السوق والمجتمع من خريجي الاختصاصات المختلفة كالاطباء والمهندسين والاقتصاديين واللغويين والمحامين والكيمياويين والمؤرخين والزراعيين والتقنيين وغيرهم في السنوات الخمس القادمة وبكيفية التنسيق والموائمة بين محتويات البرامج الاكاديمية وبين إمكانية توظيف الخريجين لكي تتمكن الوزارة والجامعات من اعتماد السياسات الصائبة لمواجه التحديات التي تسهم في ارتفاع معدلات البطالة. لا أريد أن ابحث هنا في أسباب مشكلة البطالة وجذورها من ناحية زيادة العرض مقارنة بالطلب، وتواضع المخارج التعليمية قياساً بمتطلبات السوق، (أدعو القارئ الى مراجعة مقالتي المنشورة على الرابط المذكور في اسفل المقالة اذا رغب في الخوض بهذا الموضوع)، وإنما اريد هنا أن اخوض في موضوع قد يساعد تناوله ايجاد حل لهذا التحدي خاصة، وأن ما نشهده من مشاكل هو نتاج البطالة المقنعة المتفشية بين الخريجين. وبحثي هذا يتعلق بموضوع عنوان المقالة: هل من ضرورة لهذا العدد الكبير من الدراسات الانسانية في الجامعات العراقية؟ قد توفر الاجابة على هذا السؤال ايجاد حالة من التوازن المنشود بين مخرجات المؤسسات التعليمية ومتطلبات سوق العمل. في السنوات الأخيرة تراجعت معدلات الالتحاق في الاختصاصات الإنسانية في الجامعات الامريكية والبريطانية، فعلى سبيل المثال تراجع عدد المنتسبين في اقسام اللغة الانجليزية في امريكا من 7.6% في عام 1970-1971 الى 3.9% في عام 2003-2004. ولم يعد الطلاب يرغبون في اختصاصات مثل التاريخ والأدب ويبدو أنهم يفضلون اختصاصات اكثر إغراءاً مثل إدارة الأعمال والاقتصاد. والأمر يزداد سوءا بمرور الوقت بحيث ان كثير من الاختصاصات الادبية بدأت تختفي في الجامعات الغربية لأنها محكومة بمبدأ العرض والطلب، مؤكدة بعدم اهمية هذه الاختصاصات في المجتمعات المعاصرة. شكلت جامعة هارفرد لجنة لدراسة هذه الظاهرة توصلت الى ضرورة تغيير المناهج بحيث تكون منصة لمواضيع تهم المجتمع ولكي تجيب عن اسئلة مهمة منها مثلاً: كيف يمكن بناء حياة ذات معنى؟ ما رأيك في الحرب؟ أو ما هو معنى الحب؟ وأوصت بضرورة ربط الاقسام لكي تقدم برامج متعددة الاختصاصات تمنح الطلاب شعوراً بالانتماء للمجتمع وقدرة على المساهمة في حل مشاكله. اذكر تجربة العالَم الغربي هذه وأنا أرى تزايد اعداد الطلبة والأقسام في الدراسات الانسانية في جامعاتنا وأتساءل: هل إن زيادة الاعداد تدل على اتجاه معاكس لتجربة الجامعات الغربية؟ بالتأكيد لا! والسبب يكمن في اننا نسوق الطلبة الى هذه الدراسات من دون الاخذ بنظر الاعتبار رغباتهم الشخصية، ولان هؤلاء الطلبة يقبلون على الدراسة الجامعية من دون النظر إلى حاجة السوق لاختصاصاتهم، فذلك محكوم بعوامل اكثر أهمية وهي رغبة العائلة والمجتمع والدولة. في بعض الدول العربية تزداد اعداد الإناث في الدراسات الجامعية ليس بدافع الحصول على وظيفة ملائمة ولكن لان حظوظهم في الزواج من رجال ناجحين تزداد بدرجة كبيرة. لقد تطرقتُ سابقا الى موضوع الدراسات التي لا تجد حظا هذه الايام في سوق العمل واعتبرت دراسات علمية صرفة وأدبية كالتاريخ والجغرافية واللغات الشرقية والفلسفة، والدراسات الاسلامية ضرورية ومهمة إلا ان حاجة سوق العمل لها محدودة ولا تتناسب مع الاعداد الهائلة من الخريجين في هذه الاختصاصات. وما يدل على خطأ سياسة الجامعات في وضع اولوياتها بشأن الكليات والأقسام وأعداد الطلبة المقبولين في الاختصاصات المختلفة هو كثرة الاقسام وتعددها في مواضيع انسانية متشابهة بحيث أني وجدتُ على الاقل خمس اقسام للغة العربية، وستة اقسام لعلوم الدين في جامعة واحدة، وتتكرر مثل هذه الحالة لأقسام عديدة وفي معظم الجامعات العراقية بسبب وجود كليات متمائلة، وهي حالة غريبة لا يوجد مثيلها في جامعات العالم المتطور. هل نحن حقا بحاجة الى هذا العدد الكبير من الاقسام والكليات المتشابهة، وبحاجة الى قيادات ادارية لها؟ وما هي درجة البطالة المقنعة داخل هذه الكليات والاقسام؟ وما هي نسبة تشغيل خريجي كل من هذه الاقسام مقارنة بمثيلاتها في الجامعات الأخرى؟ طبعا ان سياسة تحجيم عدد طلبة الدراسات الانسانية لابد ان تقترن بسياسة تعتمد على تقليل عدد طلبة الفرع الادبي وزيادة نسبة الطلبة في الفرع العلمي من المرحلة الإعدادية، وبعدم قبول طلبة الفرع الادبي في كليات الادارة والاقتصاد والتربية الرياضية والقانون وفروع علم النفس والاقتصاد المنزلي، وفتح اقسام اللغات الاجنبية لخريجي الفرع العلمي. وبينما نجد ان اتجاهات التطور العالمي تسير نحو دمج الكليات والاقسام المتشابه وإنشاء كليات واسعة تسمى بالفاكلتي (Faculty)، تسود الجامعات العراقية حالة تفريخ للكليات والأقسام استنادا لنظام قديم لا يأخذ بنظر الاعتبار صعوبة الادارة الجامعية والاتصالات بين مختلف اجهزة الجامعة. من الضروري اعادة النظر في هيكلية الجامعة بحيث تبنى هذه الهيكلية على اساس اعتبار الاقسام وحدات مالية رئيسية فريدة على صعيد الجامعة وليس على صعيد الكلية وبما يؤدي الى تجميع كل اختصاص في مجموعة ادارية واحدة. تضمن هذه الهيكلية الادارية كفاءة اكبر في ادارة الجامعة والاستفادة القصوى من الاختصاصات الاكاديمية في الجامعة، وتحسين كبير في جودة التدريس، وسيطرة اكبر على الموارد المالية. لقد وجدتُ صعوبة في الحصول على معلومات احصائية كعدد التدريسيين في حقل كاللغة العربية او علوم الدين، او علوم الحياة في احدى الجامعات وذلك لتوزع اصحاب الاختصاص الواحد في كليات مختلفة بحيث تبدو كل كلية وكأنها جامعة مستقلة. كما يمكن ملاحظة وجود اعداد هائلة من التدريسيين وفي عدد كبير من هذه الأقسام، وهو عامل قد يكون ايجابيا كمعيار للجودة من ناحية زيادة نسبة عدد التدريسيين الى عدد الطلبة، إلا انه قد يكون عاملا سلبيا عند قياس معدلات البحث العلمي لكل تدريسي، حيث انه لا يمكن تصور وجود امكانيات مالية ومكتبية ومختبرية لكي يتمكن كل هذا العدد الهائل من ممارسة البحث العلمي بصورة مستمرة، وتؤكد النتائج هذه النسب المتدنية المنشورة لمعدلات البحث العلمي والتي تثير قلق ادارات الجامعات. وما يزيد الطين بلة ان التصنيفات العالمية للجامعات تهمل الى حد كبير البحوث المنشورة باللغة العربية ومهما كانت اهميتها والتي هي صفة ملازمة لنشريات الكليات الإنسانية. أنا متأكد ان واضعي إستراتيجية التعليم العالي قد واجهوا صعوبة بالغة في معرفة عدد الاختصاصات الاكاديمية في كل موضوع، وعدد الخريجين لكل موضوع اختصاص، وهي اعداد مهمة لرسم السياسات الصائبة عندما يكون في الجامعة خمسة اقسام تدرس نفس الاختصاص، وتتداخل هذه الاختصاصات مع اختصاصات اخرى في نفس الجامعة. ان هذه الهيكلية الادارية والأكاديمية تخفي حقيقة وجود عدد هائل من الطلبة الذين يدرسون نفس المواضيع ويتخرجون بنفس الاختصاص والفرق الرئيسي بينهم هو كونهم تخرجوا من كليات مختلفة ولكن من نفس الجامعة، وفي هذا نفي لمفهوم الجامعة. وما يزيد الأمر تعقيدا وغرابة هو وجود الاقسام المسائية التي تخرج اعداد هائلة من الطلبة يحملون نفس الشهادات التي تمنحها الجامعات عادة، بينما يحصلون على تدريب ومهارات اقل من اقرانهم في الدراسات الصباحية. ما على الجامعات إلا التأكيد على نوعية وجودة التعليم وعدد الساعات الدراسية والوحدات ومخارج التعليم ومعدلات القبول بما هو عليه في الدراسات الصباحية وإلا فانه من الضروري تغيير اسم ومستوى الشهادة المسائية لان هذه المساوات في وجود الاختلافات الاكاديمية تؤثر سلباً على سمعة الجامعة والتعليم العالي. خلاصة الموضوع هو لأن حجم الدراسات الانسانية الاولى والعليا لا تتناسب مع حاجة السوق والمجتمع، ولا مع اهميتها للتنمية وتطوير الاقتصاد العراقي، لذا اقترح بتحجيم عدد المقبولين في هذه الدراسات وجعلها تتناسب مع حاجة السوق وبعضها يقتصر على المتفوقين في الدراسة الاعدادية للفرع الادبي والمبدعين الشباب وكذلك بدمج اقسامها العديدة المتشابه في كل جامعة، هذا كله بالتأكيد لن يؤثر على مستوى الثقافة في العراق ولا على عدد المبدعين من الشعراء والأدباء والكتاب، كما سيقلل هذا الفعل من عدد السياسيين واصحاب النفوذ الذين يبحثون عن دراسات عليا تعتمد البحث العلمي المكتبي، والذي هو اسهل نسبيا من البحث المختبري او الصناعي او الطبي للحصول على شهادات الدكتوراه.
من : جريدة المواطن
29/5/131029
https://telegram.me/buratha