* نائب أردني
عند الحديث عن الديمقراطية لا بد من التركيز على العلاقة التي تربط المحكوم بالحاكم، وما ينتج عنها من أشكال ملموسة وفاعلة للأخذ بها منهجا للحكم
و في ضوء الأوضاع التي تعيشها الأنظمة الحاكمة، لا بد من الحديث عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الديمقراطية في التطبيق، حيث يجب توافر المكونات الأساسية لتطبيقها و أهمها: حقوق المواطن الأساسية التي تحدث عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ و أهمها الحقوق الاجتماعية كحق العمل و التعليم و الصحة والرعاية الاجتماعية وممارسته لهذه الحقوق تجعله مشاركا فعلا في وضع القرارات التي تمسه على مختلف المستويات. أما المكون الأخر من مكونات الديمقراطية فهو التعددية السياسية حيث تعطى القوى السياسية حقها في التعبير عن وجودها بالمشاركة في الانتخابات و يفترض منح الفرص أمام تعدد الاتجاهات السياسية التي يختار المواطن من بينها من يمثله.
إن من المستحيل أن يملك حزب واحد الرؤية الكاملة لتحقيق التقدم وإسعاد المواطنين في غالبيتهم العظمى, وإن سيطرة الرأي الواحد تؤدي الى الجمود و افتقار القدرة على الإبدا. إن تعدد الاتجاهات السياسية واختلاف وجهات نظرها حول مسائل العمل الوطني، من العوامل الأساسية التي تمكنها على الابتكار و التجديد، والاقتراب من الصواب أكثر. أما الأساس الآخر لتطبيق الديمقراطية فهو تداول السلطة؛ إذ لا معنى للتعددية السياسية إذا لم يُتح للاتجاه السياسي الذي يحظى بتأييد الأغلبية أن يتولى السلطة لينفذ البرنامج الذي نال تأييد المواطنين عليه. والمميزة الكبرى للديمقراطية هي توفير الأدوات الشرعية لتداول السلطة بعيدا عن الانقلابات والتصفيات. وهذه الأدوات تجعل من الشعب الحكم بين الاتجاهات السياسية المتعددة.
إن مفهوم الديمقراطية لا يتعلق بعلاقة الحاكم بالمحكوم فقط، بل يعني علاقة المواطنين في كل شكل تنظيمي يجمع عددا منهم، ومن هنا تبرز أهمية ممارسة القوى المعارضة للديمقراطية. فالأحزاب السياسية والمنظمات الشعبية والنقابات هي المدارس التي يتدرب فيها المواطن على ممارسة حقوقه و أداء واجباته بأسلوب ديمقراطي. وتتحمل الأحزاب التي تتصدى لقيادة الجماهير مسؤولية كبرى في إشاعة الديمقراطية في حياة المجتمع، ونشر الوعي السياسي بين الناس. و الممارسة الديمقراطية يجب أن تحتل مكانا بارزا في النشاط التثقيفي لتسييس الجماهير. وعلى الأحزاب أن تمارس الديمقراطية داخلها، و بين بعضها البعض ولا بد هنا من التأكيد على مصداقية الأحزاب في تعاملها الديمقراطي مع نفسها و مع القوى الأخرى، و مع الجماهير التي يجب أن تشعر أن الأحزاب تطالب بالديمقراطية لها. وأن تقنعها بأن الديمقراطية قضية الجميع و ليست قضية أحزاب وقوى معارضة تريد أن تصل الى الحكم فحسب.
تكوَّن بعض الأحزاب في البلاد العربية على أسس طائفية و عشائرية. وتشكيل الأحزاب في لبنان دليل صارخ على طبيعة هذه الأحزاب التي تكونت على جذور طائفية و مذهبية، على الرغم من الأسماء ذات الصفات التقدمية و القومية التي أطلقها مؤسسوها عليها. والأحزاب في الدول العربية الأخرى التي تتجاوز المذهبية والعشائرية، وتطرح نفسها من منظور سياسي، سرعان ما تكتشف أن عضوية أعضائها تأتي من العشائر والطوائف في المجتمع الذي تناضل فيه، وهذا ما يجعل المهام النضالية للحزب غاية في الصعوبة.
وإذا ارتفعت نضالات الأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية ضد العشائرية والطائفية، فإنها يمكن أن تحقق نجاحا في ترسيخ الديمقراطية وتخليص الوطن من عوامل الانقسامات والتشرذم التي تتمثل في الطائفية و المذهبية و العشائرية.
كما نشأت بعض الأحزاب و توحدت في شخص قائدها، بحيث أصبح قوله لا يُرد، و تمثل مشيئته إرادة الحزب، و بخاصة إذا وصل الحزب للحكم، فتصبح كلمة زعيم الحزب هي كلمة القطر الذي يحكمه، و كأنما اختزل الحزب و المواطنون جميعا في شخص القائد. و غالبا ما تتحول ظاهرة الزعيم الأوحد الى بطش الأجهزة الأمنية بحجة الدفاع عن الزعيم و الوطن و الحزب.
إن الوطن لا يحتاج إلى قائد إلى الأبد، بل الى حكومة مركزية قوية ورئيس دولة منتخب ليحكم بالعدل دون تمييز بين المواطنين.
ولعل المعارضة بتعدديتها واشتراكها معا في الدفاع عن الديمقراطية، أن تعطي للجماهير صورة عن تلاقي التعددية ، والحفاظ على تيار جبهوي واسع. وهذا هو جزء من الممارسة الديمقراطية التي يجب تطبيقها و شرحها للجماهير، وبيان أنها تعني إمكان تغير الحكومات دون أن تنهار الدولة، وأن هذا التغيير من شأنه أن يرفع مستوى أداء الجهاز الحكومي المركزي ويضعه في خدمة غالبية المواطنين.
إن الأحزاب و الحركات الوطنية التي نشطت في النصف الثاني من القرن العشرين، حققت فيها حركة التحرر العربي انتصارات وهزائم و تغييرات متعددة. وقد شاب نضالها من العوامل الذاتية بحيث عجزت عن التعامل مع الواقع الموضوعي تعاملا مؤثرا.
وإن أهم قصور رافق هذه القوى هو تدني المحتوى الديمقراطي لتوجهات مجمل القوى التقدمية العربية، وافتقارها لممارسة الديمقراطية. و إن من غير المعقول أن يمارس حزب ما في تعامله مع أحزاب وقوى أخرى الديمقراطية، ولا يمارسها في حياته الداخلية. فهل يمكن أن تنظر الجماهير الى هذا الحزب نظرة مصداقية، وهو لا يمارس الديمقراطية في داخله ؟.
إن الأحزاب التي تناضل لتغيير الوضع القائم و إصلاحه في الدولة ، بحاجة ماسة الى تنظيم قوي متماسك و مرتبط بقاعدة شعبية تتعاطف معه و تسانده. و إن التزام عضو الحزب بقرارات الحزب ، إذا لم يقابله حق العضو في اختيار القيادة، هو إهدار لحق العضو في حرية الرأي و الاختيار لهذا، يجب أن تتشكل القيادات الحزبية بمختلف مستوياتها، عن طريق الانتخاب بحرية مطلقة و بسرية تامة، وليس بالتصويت العلني على قائمة معدًة سلفا. وأن يكون الانتخاب دوريا تجديدا لشباب الحزب و خوفا من خطر القيادات الأبدية التي لا يتخلص منها الحزب إلا بالموت. على أن يكون هذا التجديد من خلال الشرعية التي تستند على دستور الحزب و نظامه الداخلي اللذين يوضحان حقوق وواجبات العضو.
إن الحزب هو القاعدة و ليس القيادات. والأحزاب الحقيقية هي التي تتجاوز مؤسسيها، وتجدد قياداتها، مع الاستمرار في دعم عضويتها، واستمرار نفوذها بين الجماهير لتزداد كوادرها، و تبرز من بينها عناصر قيادية قادرة على تحريك الجماهير، مع التغيير المستمر الذي هو سمة الواقع الاجتماعي و الفكري البشري.
وهذا كله لا يأتي إلا بديمقراطية التنظيم، ونظام ودستور الحزب القابل للتعديل والتطوير بأسلوب ديمقراطي يعبر دائما عن أداء ومشاعر الأعضاء.
لا يمكن للحزب أن ينمو و يتزايد نفوذه ، إلا إذا كان يسمح بوجود منابر داخله تبرز الآراء المتعددة . وهنا يجب أن نميز بين وحدة الإرادة الحزبية و تعدد الاتجاهات. فالحزب جهاز يعمل بين الجماهير لإجراء تغييرات في المجتمع و الدولة. ولا يمكن أن يلعب هذا الدور إذا أظهر للجماهير أنه مسرح للمناكفات الداخلية والخلافات السياسية حول القضايا التي يناضل لتعبئة الجماهير من أجل تحقيقها.
و إن الطريق الأمثل لتداول المراكز القيادية في الأحزاب هو إجراء الانتخابات الدورية لانتخاب القيادات على أساس القدرات النضالية و الفكرية و السياسية. وبهذا يصبح الحزب أكبر من أي قائد و يتخلص من العشائرية و الولاء الشخصي. وبدون ممارسة الديمقراطية يكون الحزب دائما مهددا بالانقسام و التشرذم. ويمكن أن يصبح الصراع دمويا لحسم الخلاف في الرأي بين رفاق النضال.
لقد مارس معظم الأحزاب العقائدية النضال السرِّي لضرورات أَمنية، مما حال دون ممارسة الديمقراطية داخل الحزب .
و قد عشتُ طويلا تجربة النضال السرِّي، وما تفرضه من قيود تحول دون عقد مؤتمرات الحزب، وعزل المنظمات الحزبية عن بعضها البعض، حتى إذا وقع أحدها بيد الأجهزة المخابراتية والأمنية، لا يؤدي سقوطه الى ضرب الحزب كله.
غير أن تجربتي في العمل السرِّي خلقت في نفسي قناعات بأن القضايا التي تفرضها ظروف السرِّية يمكن معالجتها بروح ديمقراطية، كممارسة أسلوب التشاور حين يتعذر الاجتماع، و الاستمرار في التثقيف الديمقراطي. وإن عرض مقتضيات السرية على أنها الأصل ، ترسخ معاني الشك في الغير والتخوف من كل من لم يمارس العمل السري. وإذا خرج الحزب من السرِّية الى العلنية مباشرة ، فإنه يعجز عن التخلص من الرواسب السابقة، ويتقبل أعضاؤه بسهولة الإنفراد بالحكم، الاعتماد المبالغ فيه على أجهزة الأمن وخشية كل تحرك جماهيري لا ينظمه أو يسيطر عليه الحزب!
لقد تعاملت الأحزاب والقوى السياسية مع مبدأ الديمقراطية فيما بينها تعاملا سيئا ومفجعا و دمويا. فقد سقط بقتالها مع بعضها العديدون. كما سقط من أعضاء الحزب نفسه بعد الاستيلاء على السلطة العديدون. كما أسرفت تلك القوى في اتهام بعضها وألصقت بها تهم الخيانة و العمالة وخدمة العدو .
وحين نسترجع العقود الماضية من الزمن التي مرت يصيبنا العجب لاستمرار بعض الجماهير الالتفاف على بعض الأحزاب وهي تطالب هذه الجماهير اليوم بالنضال من أجل الديمقراطية. إن الوقت ليس للتباكي على ما مضى، ولا توزيع المسؤوليات على فصيل دون غيره، فالكل مسؤول، الجميع ساهم في تضيع فترة زمنية نضالية عزيزة. وقد آن الأوان لاستخلاص الدروس، والضرورة الملحة لممارسة التعامل الديمقراطي بين الفصائل وفي داخلها جميعها قومية ويسارية وإسلامية دون تمييز أو إقصاء .
11/5/131018
ــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha