في محاولة للبحث عن أسرار التنمية ومقوماتها، لم أجد أفضل من التجربة الكورية الجنوبية أداة للبحث معياريا..
فالبحث عن إجابةٍ دقيقة مقنعة عن عن سر النمو الاقتصادي السريع، الذي حققته كوريا خلال ربع قرن، وعن العوامل الخفية وراء النهضة الاقتصادية والاجتماعية الكورية، يتعين أن يكون بصيغة أسئلة حوارية، عن العناصر الأساسية والعوامل التي اعتمدها الكوريون في حرق المراحل والآليات، التي أتبعت في التنمية، وكيف ساهمت هذه العوامل المادية منها والتقنية في تعجيل عملية البناء والتنمية وبنوعية جيدة، وبدون أضرار أو حدوث فشل على مستوى الأهداف الإستراتيجية، رغم التحديات الكبيرة وقلة الاحتياطات، ويتعين أن تكون المشاريع العملاقة في مستوى نظر الباحث، حيث من يقرأ تاريخ كوريا قبل خمسين سنة، يجد أن هذه المنجزات تعد أحلام خيالية بمقاييس الفعل ، فكيف أصبحت أهدافا؟ ثم بلغوها وأصبحت منجزات تدر مليارات الدولارات..وهل ينفعنا في بلدنا العراق التعرف على التجربة الكورية في التنمية، وكيف؟
لأن لتجربة الناجحة بتفوق بشهادة القياسات العالمية ،قد استطاعت أن تنقل هذا البلد الصغير في مساحته والفقير في موارده الطبيعية وخلال فترة اقل من ثلاثين سنة بعد نهاية الحرب الأهلية المدمرة (1950-1953) ليصبح بلدا صناعيا وذو اقتصاد متين يحتل المرتبة الحادية عشر في قائمة الدول المصدرة في العالم والثانية عشر في قائمة الدول المستوردة !! ، علنا نهتدي فنُفعل نفس العوامل والعناصر وقد نختصر الزمن كثيراً.
ولقد إتضح أن القيادة أو الحكومة عندما تُنُتخب بدقة، فتكون شعاراتها ومنهجيتها العملية متطابقة في المصداقية، ومتبادلة مع رعاياها في الإخلاص والعدالة، وتتبنى العلمية والحداثة المتسابقة مع الزمن في برامجها، يقابلها اندفاع جماهيري عملي منتظم طوعي.
كما وجدنا أن الاهتمام بالتعليم كان في مقدمة تلك العوامل، ونسبة الأمية هناك تقرب من الصفر، ونسبة الذين يدخلون الجامعة تصل 80% ، وصاحب هذا التوجه التربوي والتوعوي اختيارات نوعية في المناهج .
وبلا ريب فإن هذا العامل والذي سبقه يشكلان منظومة فاعلة وقوية، في دفع عجلة التنمية نحو الأمام، لأن العلم أساس لكل بناء، وتوفر القيادة القوية الرشيدة الحكيمة، يعني سلامة التوجه وتحقق الثقة والطمأنينة لدى أبناء الشعب، فتنعكس ايجابا بدرجة عالية في كل الممارسات الاقتصادية والاجتماعية، ومثل هكذا توجه علمي وقيادات صادقة، تفرز الإدارات المباشرة المتخصصة والنزيهة، والبعيدة عن الشبهات فضلاً عن بعدها اللا متناهي عن الفساد.
هذه الأساسيات ذات التأثير البالغ المباشر في نجاح أي مهمة، تأتي نتيجة مكونات ذات جذور أعمق وتأثير أشمل، تمتد الى مدى ثقة الشعب بقدراته، حيث أن توفر هذه الثقة بدرجة عالية، يعتبر شرطا مسبقا في تحقيق المنجز، ويسبق الاشتراطات المادية في عملية التنمية.
أن المنجزات التي حققها الشعب الكوري ما كانت لتكون، لولا تصميم الشعب وثقته بأنه قادر على بناء مشاريع عملاقة فيها إعجاز، خصوصا في ظروف كوريا آنذاك، وثمة قصص عملية تحكي عن مفهوم أو مصطلح الثقة في الضمير الكوري..فهذه الثقة نابعة من ثقافة كورية خاصة، لها جذور تاريخية مرتبطة بعوامل طبيعية بيئية ومعتقدات دينية، تآزرت معا في تكوين شخصية الإنسان الكوري، فأصبحت شخصية تتصف بالتحدي والإصرار والصبر والتعاون، والابتعاد عن ما يفرق أو يخلق المشاكل التي تتميز بها الطبيعة البشرية، والكوريون يعملون بثبات على تنمية الثقة بالنفس، وسنوا لهذا الغرض تشريعات، وبنوا مؤسسات للحفاظ على روح التعاون والإخلاص وبناء الانسان جسديا وروحيا، وعندهم خدمة عسكرية إلزامية لمدة ثلاث سنوات، للبناء الروحي والجسدي، وهناك دورات تدريبية دائمة لكل الاعمار والمستويات، وحتى كبار الموظفين يخضعون لبرنامج تدريب لا يقل عن ثمانين ساعة تدريب في السنة في تطوير مهاراتهم.
إن النظر في أسس تكوين عامل الثقة ، وقراءة تأثيراته تنبئنا بأنه هو وراء تحقيق المعجزات وهو العامل الخفي الذي نبحث عنه.
أن فلسفة مصطلح أو مفهوم الثقة، له من المفردات العملية الكثير، التي تعكس إصرار الإنسان على بلوغ الأهداف السامية وتحقيق النجاحات المتتالية، ويعكس الاستثمار الأمثل لإنسانية المرء لخلق روحية الثقة التي توصله إلى مرامه مهما صعب، فلا حكمة القانون ولا قوة السلطة تجبر العامل على أن يعمل عشرين ساعة في اليوم، أو أن يضع نفسه رهينة على صحة فكرة معينة لتحقيق غاية ما بحيث يوصي إذا لم يكن هذا صحيح فيجب أن يُقتل!
وثمة قصص ككثيرة يحكيها كبار السن والمعمرون الكوريون، عن التضحية والفداء من أجل بناء بلدهم، وعن كيف كانوا يكتفون بالقليل من المأكل والملبس في سبيل بناء غداً أفضل.
بهذه السياسات والأساسيات والممارسات المترتبة عليها، أصبح العمل والإنتاج ثقافة عامة، بحيث عمل الكوريون رجالا ونساء في بداية النهضة عشرين ساعة يوميا وفق برنامج متقن، فقد كان لهم في كل يوم تدريب جسدي وتدريب فكري ثقافي ومهني متخصص في مجال عمل الشخص ألمتدرب، ناهيك عن الترابط بين القطاعات، فلا يمكن تحقيق تطور في قطاع دون أخر، والفروقات التي تحصل لا تكون إلا في نسب الإنجاز وهو فارق قليل .
ولقد وعى الكوريون أهمية ودور البني التحتية، وبناء الشركات المساهمة والقروض والمساعدات الدولية ،في بداية النهضة وتم استثمرها بشكل حكيم، سيما وأن كوريا تفتقر إلى المقومات المادية من مواد أولية ونقد اجنبي.
إن التجربة الكورية في تفعيل موضوع ثقة الشعب بقدراته، تقدم نموذجا فريدا في أن يُجمع أبناء مجتمع واحد على بلوغ الحياة الكريمة فعلاً لا قولاً، وهي تجربة صالحة ومفيدة جدا لآخرين خرجوا من ركام تجارب مريرة، مثلما فعلنا نحن طيلة قرابة قرن من الزمان أضعناها تحت ظل تجربة حكم رسخ فينا قناعة مخجلة مؤداها أن "العراقيين ما تصير لهم جارة"..!
https://telegram.me/buratha