عدد سكان الوطن العربي نحو 400 مليون نسمة أي ما يفوق عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول العربية ولا سيما الصغيرة منها تمتلك ثروات تستطيع بناء قارات وليس بناء دول.
ووسط هذه البيئة التي تتسم بالضخامة والثراء لم تظهر ولا قناة إعلامية مستقلة واحدة تخدم وتراهن على حجم وإمكانيات هذا الجمهور العريض، فالقنوات البارزة والمؤثرة هي قنوات رسمية تعبر عن سياسات دول مثل قناة الجزيرة التي يملكها الشيخ حمد بن جبر بن جاسم آل ثاني وزير خارجية قطر السابق، وقناة العربية التي يملكها الأمير المليونير الوليد بن طلال، وكل منهما يعتبر الإعلام مسألة استثمارية في حدود الأطر التي تحددها السياسة الخارجية لبلده.
والسؤال المطروح هنا عن مستقبل مثل هذه القنوات في ظل المتغيرات السريعة التي يمر بها العالم العربي؟ وسأركز في تحليلي هنا على قناة الجزيرة باعتبارها أكثر القنوات تأثيراً ونفوذاً، وحتى لا أتهم بالتجني على أحد فسأعتمد في تحليلي على قراءة وقائع موضوعية حدثت في الزمان والمكان وليس بوسع أي كان إنكارها، فالكل سيتفق معي على صحة الوقائع، أما الاستنتاج من الوقائع فهو فهمي وقراءتي أنا للوقائع وقد نختلف في هذا الجانب. فإلى التحليل التالي:
برزت في السنوات الأخير عدة حقائق منها استقالة بعض الصحفيين من قناة الجزيرة، احتجاجاً على خلفية استغلال أدائهم المهني من قبل القيادة القطرية، ومن هؤلاء الصحفي يسري فودة الذي اتهم صراحة الشيخ حمد بن جبر بن جاسم وزير الخارجية القطري السابق بمحاولة رشوته وإغرائه بمنصب أكبر في القناة إن هو قبل بتوظيف رسالته الصحفية في الإيقاع ببعض رموز تنظيم القاعدة المطلوبين للولايات المتحدة، لكن يسري تمسك بمهنيته ورفض كل تلك الإغراءات، فما كان من إدارة القناة إلا أن طلبت منه أن يحاول إجراء مقابلة صحفية مع رمزي بني الشيبة العضو البارز في تنظيم القاعدة وأحد مدبري هجوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م.
وبما أن ابن الشيبة كان يدرك مهنية يسري ويثق فيها فقد وافق على إجراء المقابلة في أحد مخابئه في باكستان، إلا أن ما لم يدركه يسري فودة وبني الشيبة أن الأول كان مراقباً من قبل جهاز الاستخبارات الأمريكية بالتعاون مع الحكومة القطرية، وبعد أيام قلائل من إجراء المقابلة تم اعتقال بني الشيبة في باكستان بإيعاز من الحكومة الأمريكية.
رفض يسري فودة أن يكون محل استغلال من قبل الحكومة القطرية رغم إرادته وأداة في حربها على الإرهاب خدمة لأهداف الولايات المتحدة الأمريكية فقدم استقالته، ولو أن يسري لم يقدم استقالته لربما لقي حتفه على يد تنظيم القاعدة باعتباره متواطئاً مع الولايات المتحدة الأمريكية.
السياسة لا أخلاق لها ولا يهم الحكومة القطرية حياة يسري وغيره من مذيعي وصحفيي قناة الجزيرة، المهم فقط هو أن تحقق أهدافها وأن تنال رضا البيت ال
وهذه هي الواقعة الأولى التي توضح بجلاء أن قناة الجزيرة ليست قناة إعلامية فقط كما هو ظاهر للجماهير، وإنما قناة ذات مهمة مزدوجة إعلامية استخباراتية في الوقت نفسه.
ولم تكن واقعة استغلال يسري فودة والمغامرة بحياته حالة فريدة من نوعها فقد تكررت نفس القصة من قبل القيادة القطرية مع الصحفي المعروف غسان بن جدو، فقد طلبت منه إدارة القناة إجراء مقابلة مع القيادي في كتائب عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة حماس أحمد الجعبري، وبما أن الجعبري وقيادة تنظيمه لا يساورهم شك في مهنية بن جدو فقد وافقوا على إجراء المقابلة في معاقل ومخابئ كتائب القسام عام 2008، ويبدوا أن معدات التصوير التلفزيونية التي رافقت بن جدو إلى كتائب القسام قد زُودت بكاميرات ولواقط خفية رسمت صور وإحداثيات للمكان، غير الصورة التي رسمتها معداته التصويرية والتي حرص الجعبري وزملائه على حصر التصوير بما يخدم اعتباراتهم الأمنية، وكانت النتيجة أن سربت هذه المعلومات إلى جهاز الموساد الإسرائيلي الذي استخدمها في اغتيال الجعبري، فما كان من بن جدو إلا أن قدم استقالته.
لم يدر بخلد بن جدو يوماً ما أن القيادة القطرية ستجعل منه مخبراً وعضواً في جهاز الموساد الإسرائيلي لاستهداف قيادات حماس.
وهذه هي الواقعة الثانية التي تعزز الدور والوظيفة الاستخباراتية لقناة الجزيرة إلى جانب وظيفتها الإعلامية الظاهرة، وتبقى مسألة مركز أبحاث الجزيرة الذي يحرص على ضم أفضل الكفاءات العربية وتوظيفها لخدمة أغراض الاستخباراتية مسألة أخرى لا مجال لتغطيتها في هذه العجالة.
وإلى جانب هاتين الواقعتين سابقتي الذكر هناك الكثير من الوقائع التي تبرهن على عدم مهنية القناة ومذيعيها في أدائهم لرسالتهم الإعلامية، منها على سبيل المثال لا الحصر، سلسلة المقابلات الطويلة التي أجرتها القناة مع الصحفي المصري المشهور محمد حسنين هيكل، ولكن العلاقة مع هيكل ما لبثت أن قُطعت بمجرد أن خاطب هيكل المذيع محمد كريشان بقوله: إن القناة تحرّض الشعوب العربية على الثورة في حين أن هذه الشعوب لم تنضج بعد وليست مؤهلة للديمقراطية، وهي وجهة نظر لا تبرر مثل هذه الحدة في التعاطي مع صحفي بحجم هيكل.
ومنها تغطية القناة لملابسات الحكم بالسجن مدى الحياة على لصحفي القطري محمد بن الذيب الذي اتهم في حيثيات الحكم بمحاولة قلب نظام الحكم القطري في قصيدة هزيلة ذات أربعة أبيات، حيث تجاهلت القناة تغطية وقائع المحاكمة، وقامت في الوقت نفسه بتغطية مظاهرة مدفوعة من قبل السلطة القطرية في الدوحة تطالب الحكومة القطرية باتخاذ إجراءات للحد من تلوث المناخ العالمي، وكأن الإنتاج الصناعي القطري يناهز حجم الإنتاج الصناعي الصيني أو الأمريكي، والمضحك في تلك المظاهرة التي غطتها القناة تزامناً مع محاكمة بن الذيب بهدف التغطية عليها بإظهار الديمقراطية القطرية، أن منظميها وافدون عرب بعضهم سوريون ولبنانيون، وكأن هؤلاء البؤساء الذين دفعهم شظف العيش إلى ترك بلادهم والذهاب إلى قطر للعمل في أشق وأدنى المهن لا يهمهم سوى قضية المناخ العالمي.
ومنها أداء مذيعي ومذيعات قناة الجزيرة قاطبة ودون تمييز إبان ثورة 30 يونيو 3013م في مصر، فقد كان منهج القناة الذي جُسد عبر جميع صحفييها يقوم على الآت
1- استقطاب كل أطراف الصراع إلى المقابلات والحوارات لإظهار الحيادية.
2- إعطاء مساحة زمنية أكبر للمدافعين والمتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين والخصم من المساحة الزمنية لمنافسيهم.
3- طرح أسئلة متلاحقة على الناقدين للجماعة لإرباكهم وصرفهم عن طرح حقائق تدين الجماعة.
4- الإقحام والتغييب كالتركيز على إقحام صورة عمرو موسى في معظم المشاهد التي رافقت أحداث ثورة 30 يونيو، للإيحاء بأن ثورة 30 يونيو هي ثورة الفلول. وتغييب رموز حركة تمرد مثل محمود بدر ورفاقه فلم يظهر منهم أحد على شاشة القناة، رغم أنهم هم من صنعوا الحدث، وما حدث بعد ذلك بما فيها تدخل الجيش لم يكن أكثر من تداعيات.
5- الاستخفاف بعقول الجماهير بالتشكيك في وقائع ثابتة عبر تقارير مركزية منها على سبيل المثال تقسيم ميدان التحرير إلى مربعات مترية، والافتراض أنه يقف في المتر الواحد أربعة أشخاص، والاستنتاج من هذا أن عدد من خرجوا في 30 يونيو لا يتجاوز عددهم مئات الآلاف، في الوقت نفسه الذي كانت فيه الصور الجوية توضح أن المظاهرات قد عمت كل ميادين ومحافظات مصر وليس ميدان التحرير وحده.
ومنها التشكيك في حادثة قذف أحد الفتيان من قبل عناصر الجماعة من على سطح أحد المنازل، بالقول بأنها صورة تمثيلية، وهو آمر غير منطقي البتة فالصور التي سجلت هذه الواقعة لم تكن محصورة وإنما أظهرت البناية التي قُذف منها ذلك الشاب والشوارع الجانبية وهي مكتظة بالحشود.
ولا يعقل أن هذا التكرار الذي كان بمثابة لازمة وقاسم مشترك بين جميع صحفيي القناة قد حدث صدفة، فلا بد أنه نتاج لتوجيه مركزي.
وعليه أعتقد أن القناة قد فقدت مصداقيتها لدى النخبة الواعية في العالم العربي فهذه النخبة تدرك أن رسالة القناة هي رسالة الحكومة القطرية وهذه الرسالة هي على النحو التالي:
1-العمل على هدم الأنظمة العربية البالية والمتهاوية والتي لا سبيل إلى إصلاحها، وإظهار الحكومة القطرية بمظهر الداعم للثورات العربية.
2-العمل على إيجاد بدائل أسوأ من تلك الأنظمة لإيصال رسالة إلى الشعوب العربية في الخليج بأن التغيير لن يأتي إلا بما هو أسوأ، وأن على هذه الشعوب الحفاظ على الوضع القائم.
ورغم ذلك أعتقد انه لا زال بوسع هذه القناة الاستمرار كقناة فاعلة ومؤثرة لدى الغالبية الأمية والمؤدلجة ونصف المتعلمة، وهم الكثيرة في علمنا العربي بحكم تفشي الجهل والأمية، فهؤلاء هم جمهورها ورهانها، ولكن هؤلاء بدورهم سينفضون عنها إذا ما تحرك الشعب القطري للمطالبة بحريته. حينها تكون هذه القناة قد وصلت إلى نهايتها.
10/5/13101
https://telegram.me/buratha