عاد صندوق النقد الدولي إلى الواجهة، يلعب دوراً أكبر من السابق حيال الدول العربية غير النفطية. هو الذي كان لنصائحه وشروطه نصيب من المسؤولية خلال العقد الماضي عن إفقار أرياف تونس ودمشق والاسكندرية وصنعاء وغيرها... فسياسة الصندوق تعطي دائما الأولوية لخفض الدعم، وللتجارة العالمية، على حساب الأطراف والأرياف. فلماذا يصر الحكام العرب إذاً، من الدول غير النفطية، الجدد منهم وبعض القدامى، على إعطاء هذا الدور لتلك المؤسسة؟
استباق انتفاضة الشارع
يتدخل الصندوق بناء على طلب من حكومة بلد بعينه، لمساعدته من خلال قروض لا تتعدى مدتها عادة الثلاث سنوات. وهي قروض مرهونة بشروط تتعهد الحكومة بتنفيذها. عقد الصندوق مؤخرا اتفاقات مع دول عربية عدة غير نفطية، منها الأردن (2 مليار دولار) في آب/أغسطس 2012 والمغرب (مليار 6,2) في الفترة نفسها ، وتونس (1,8 مليار) السنة الماضية، وأخيراً مصر في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، (عشية «الإعلان الدستوري»)، بالإضافة إلى العراق وموريتانيا واليمن ولبنان. من الملاحظ انه حيثما طبقت شروط الاتفاق مع الصندوق، حصلت تحركات اجتماعية ومطلبية في الشارع، أهمها ما وقع مؤخراً في الأردن والعراق وتونس، وقبلها في العام 2007 في مصر، وكذلك في أيام حكم السادات. وهذا الاعتبار ليس غريباً عن الإعلان الدستوري لمحمد مرسي في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، الذي يبدو كأنه خطوة استباقية لاحتواء حركة التململ الآتية حتما إلى الشارع المصري حين سيبدأ تطبيق الاتفاق المعقود مع الصندوق.
وهو ما يطرح جملة من الأسئلة من قبيل: هل ينتفض الشارع حتماً كلما تدخل الصندوق الدولي؟ ولماذا بالأساس ينتفض الشارع مع أن الصندوق لا يتدخل إلا بناء على طلب من الحكومات، وللمساعدة من خلال توفير قروض بالعملة الصعبة بفوائد متدنية؟ وأخيراً، هل اختلفت الأمور وتغيرت العلاقات بين الصندوق والأنظمة الجديدة بالمقارنة مع الأنظمة القديمة؟ بمعنى آخر، هل راجع الصندوق سياسته الكارثية وعدل من الشروط التي اعتمدها في أميركا اللاتينية مثلاً بين 1990 و2005، وهل لدى الحكام العرب الجدد مشاريع اقتصادية نهضوية مميزة عن مشاريع مبارك وبن علي؟
التدهور الاقتصادي الكبير
تدهورت الأوضاع الاقتصادية كثيراً في الدول العربية غير النفطية في الآونة الأخيرة، وذلك نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008 التي أدت إلى ارتفاع سريع في العجز التجاري، مضافاً إليه انخفاض المداخيل السياحية على أثر الثورات العربية، إذ انخفض الدخل السياحي في بلد كمصر إلى ثلث ما كان عليه قبل انتفاضة 25 يناير. وليس لهذا التدهور الاقتصادي مثيل في السابق، فالعجز في ميزانية الدولة المصرية وصل إلى 11 في المئة من الدخل القومي، بينما وصل إلى حوالي 7 في المئة في كل من الأردن وتونس والمغرب. ترافق عجز الميزانية الحكومية مع ازدياد في عجز الميزان التجاري بالنسبة للدخل القومي وهو يتراوح بين 7 و15 في المئة، وهي من أعلى النسب في العالم.
هذا التردي في الأوضاع الاقتصادية، مضافاً إليه هروب الكثير من الرساميل، فاقم الطلب على السيولة من قبل الحكومات، إذ أصبحت مصر مثلا بحاجة إلى 15 مليار دولار خلال السنتين المقبلتين لسد العجز الحكومي، أي حوالي أربعة أضعاف ما كان يطلبه حكم مبارك. أما الأردن فلا يملك حاليا مخزوناً من العملة الصعبة يتجاوز قيمة أربعة أشهر من الاستيراد، بينما لا يتعدى هذا المخزون في مصر الثلاثة أشهر. هذا الطلب الإضافي على الرساميل/السيولة لا يمكن تأمينه من الادخار الداخلي لعدم توفره فيها، كما هي الحال في أكثر البلدان الفقيرة، مما يجبر الحكومات على اللجوء للرأسمال الاجنبي والصندوق الدولي. وقد عاد هذا الأخير إلى النشاط بعدما ضعف دوره كثيراً، كطرف يفترض به أن يحافظ على الاستقرار الاقتصادي.
ولم يرافق هذا التدهور السريع للأوضاع الاقتصادية مع تحسن في صورة الأنظمة من ناحية الكفاءة والجدية في حل الأمور، وتطبيق إصلاحات بنيوية كما يسميها صندوق النقد الدولي. ويشير نائب رئيس الصندوق، دافيد ليبتون، في خطاب له في كلية لندن في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر من السنة الحالية، إلى رأي حسين آغا وروبرت مالي، («اثنين من أبرز علماء الشرق الأوسط» على ما قال)، اللذين أكدا «أن التاريخ لا يسير إلى الأمام في الشرق الاوسط بل ينزلق إلى الجانبين»، و«أن الحكومات المنتخبة الجديدة تفتقر إلى التوجه فيما يتعلق بالإصلاح السياسي والاقتصادي، ويعزز التحزب الديني هذا الجمود».
وتلقي هذه المعطيات الضوء على نمط وحجم تدخل صندوق النقد الدولي والشروط التي يفرضها. يقدر الصندوق حاجة الدول العربية الخمس المذكورة آنفا ب 33 مليار دولار إضافي من الرساميل الخارجية لعام 2013 فقط، نصفها سيتأمن من خلال قروض يمنحها الصندوق والنصف الآخر سيتوفر من دول الخليج على شكل قروض وودائع لسنوات قليلة وبفوائد متدنية. وهذا ما أعطى لقطر وللمملكة العربية السعودية أهمية استثنائية، تتجاوز من بعيد ما عهدتاه سابقا. والقروض الخليجية نفسها مرهونة بتحقيق الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي، وهي عبارة عن رزمة من القوانين الليبرالية والمبادئ الواجب تطبيقها، والتي «تسمح للسوق بأن يفعل فعله» (بحسب وجهة النظر الليبرالية)، ويحقق توازنه من خلال العرض والطلب من دون تدخل الحكومات. والشروط تتعلق بمصاريف الحكومة من جهة وبمداخيلها من جهة اخرى.
المصاريف
المطلوب من كل الحكومات تخفيض مصاريفها من خلال رفع الدعم عن الطاقة، أي البنزين والغاز، وعن المواد الأولية الغذائية. فيجب على الحكومات التخلي عن تلك المصاريف التي بلغت 212 مليار دولار عام 2011 في المنطقة العربية، أي حوالي 7 في المئة من الدخل القومي لتلك المنطقة (8 في المئة في مصر والأردن)، والتي يشكِّل دعم الطاقة فيها لوحدها حوالي 80 في المئة من مجموع الدعم. فوقف الدعم سيؤدي حتما إلى انخفاض العجز في ميزانية الحكومات، وإلى «عقلنة» تلك القطاعات، لأن «الاختصاصيين» في صندوق النقد الدولي، وهم جميعا ليبراليون في الاقتصاد، مقتنعون بعدم جدوى تدخل الحكومات في الشأن الاقتصادي وبأن القطاع الخاص أكثر فعالية من القطاع العام. لا يخفى بالطبع على هؤلاء ان رفع هذا الدعم سيؤدي بالضرورة إلى مشاكل اجتماعية وسياسية تضعف الأنظمة نفسها. لذا ينصح الصندوق الحكومات المستدينة بالتخفيض من حدة توتر الشارع من خلال عدد من التدابير: أولاً القيام بحملة اعلامية للتوعية توضح أهداف الحكومة من رفع الدعم، وثانياً، مساعدة الأكثر فقراً مباشرة، كما تفعل المؤسسات الخيرية. لكن يبدو أن القدرة على الإقناع لدى الحكومات الأردنية والتونسية والعراقية كانت ضعيفة حتى الآن.
المداخيل
الشق الثاني من الشروط الليبرالية يتمثل برفع مداخيل الحكومة من خلال رفع الضرائب المباشرة، وخاصة غير المباشرة. فإذا كانت الضريبة الأولى عادلة إذ تطال ذوي الدخل والأرباح العاليين، فإن توسيع قاعدة الضرائب غير المباشرة من خلال فرض ضرائب على القيمة المضافة لكل المواد أقل عدالة، مع انه أكثر «فعالية». وهو يؤدي بالضرورة إلى انخفاض المستوى المعيشي والقيمة الشرائية للطبقة الوسطى.
النتيجة
ما الذي تتوخاه الدول المستدينة من كل القروض والشروط؟ في البداية، فإن تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي يعد شرطا أساسيا للحصول على قروض من دول أخرى، كما حصل في لبنان والارجنتين واليونان الخ... فالدول النفطية ستقرض مصر 10 مليار دولار خلال 2013 و2014، كما أقرضت قطر تونس مليار دولار. ومن ثمّ، تتوقع هذه الحكومات أنه من خلال رفع المداخيل وتخفيض المصاريف، سيتحقق انخفاض في العجز الأولي للميزانية الحكومية. ومن المفترض مثلاً أن ينخفض هذا العجز في مصر خلال السنوات الثلاث المقبلة حتى يختفي كليا بعد ذلك. تجدر الملاحظة هنا ان تخفيض العجز الأولي سيترافق مع ارتفاع الديون، وبالتالي ارتفاع العجز المالي (نتيجة ارتفاع الفوائد المدفوعة)، وستصبح تلك الأنظمة مرهونة ولفترة طويلة لصندوق النقد الدولي ولدول الخليج. وتفسير ذلك أن الديون، سواء كانت خليجية أو من الصندوق، هي قصيرة ومتوسطة المدى، ولا تسمح باستثمارات طويلة المدى. بينما الدول العربية غير النفطية هي بأمسّ الحاجة لتلك الاستثمارات طويلة المدى. مردود تلك القروض هو إذاً أقل من فوائدها بشكل عام، وهي بالتالي حلول قصيرة النظر والمدى.
المثال التركي
يرد صندوق النقد الدولي على تلك الانتقادات بقوله انه إذا استطاعت الحكومات أن تخفض الدعم والمساعدات وتعطي القطاع الخاص دوراً كبيراً على حساب الحكومات، وإذا تمكنت ان تركز على تحسين وضع البلاد في التجارة العالمية، فسيؤدي ذلك حتما إلى ديناميكية ايجابية، إذ يتحسن ميزانها التجاري وتأتي الرساميل الاجنبية للاستثمار. ويستشهد نائب رئيس الصندوق الدولي بالدولة التركية الحالية التي استطاعت ان تخفض العجز الحكومي من خلال «التخصص والتخصيص». إلا انه في الوقت نفسه ينسى ان يذكر ان ذلك تمَّ على حساب ارتفاع البطالة، ودين القطاع الخاص، وعجز الميزانية التجارية، وان المعجزة التركية المبنية على النمو الاستهلاكي، مؤقتة، حصلت بفضل تطبيق الحكومات السابقة لأردوغان وصايا الصندوق الدولي. وهذا التطبيق نفسه أدى، ولسخرية القدر، إلى إسقاطها.
خلاصة الأمر، تحتاج الأنظمة العربية غير النفطية لكثير من الرساميل، أكثر بكثير من السابق، لكي تتمكن من الموازاة بين مداخيلها ومصاريفها. والحصول عليها مرهون بصندوق النقد الدولي وبتطبيق سياسات اقتصادية ليبرالية، وهذه بدورها هي شرط أساسي للحصول على قروض من دول الخليج. يتبين من كل ما ذكر ان حجر الزاوية لكل تلك السـياسـة الاقتصادية مرهون برفع الدعم عن الطاقة بشـكل أسـاسـي وكذلك عـن المواد الغذائية.
وكلما ارتفعت أسعار الطاقة والنفط ارتفعت الديون وازداد الرهان على الصندوق وعلى دول الخليج. هذه الحلول تبقى مؤقتة، تزيد من سيطرة الصندوق والدول النفطية على الدول غير النفطية، وتبقي الأنظمة في وضع هش جداً نتيجة الصعوبات الكبرى التي ستواجهها عند تنفيذ الشروط المطلوبة منها. وإذا انتصرت فعلاً الديموقراطية فسيفتح ذلك صراعاً من نوع آخر رأيناه في التسعينيات في أميركا اللاتينية، ورأينا بوادره في مصر خلال الأسابيع القليلة الفائتة، فحواه عدم ثبات السلطات والحكومات لفترات طويلة.
https://telegram.me/buratha