الشيخ عبد الحافظ البغدادي
المشهور إن دور الرجل يتوزع على مسؤوليات عديدة مختلفة في الحياة، ودور المرأة لا ينقص عن دائرة الرجل في تعدد المسؤوليات الشرعية والإنسانية والاقتصادية في الحدود التي يجيزها الشرع والعقل والعلم....... ولكن هناك دور تفضل فيه المرأة على الرجل .. وهو أخطر شيء في حياة المجتمع الإسلامي، ألا وهو تنشئة الجيل وفق الرؤى الإسلامية وإعداده إعدادا مؤهلا كي يديم الحياة، ويساهم في تطويره نحو الأحسن ، لذلك أكد الرسول{ص} على حسن التبعل .. قال :" اختاروا لنطفكم فان العرق دساس "..تاريخنا يقول : إن المرأة في المجتمع الإسلامي أدت دورا رائعا بفضل إيمانها بالعقيدة الإلهية التي صاغت منها شخصيات حملت رسالات هامة للبشرية .. فكل الأنبياء لهم أمهات طاهرات حملن رجالا تأدبوا بآدابهن فانعكست تلك التربية على شخصيتهم ... وهناك نساء لهن دور في صياغة مواقف وقفها رجال وأولاد وأبناء غيروا وجه التاريخ ... لذلك لا بد أن نبين المرأة الأسوة والمرأة التي تنجب حثالة ومضرة للمجتمع ...بعد واقعة الطف جعلت السلطة الأموية عيون على الإمام زين العابدين {ع} وكان احدهم متقربا جدا للإمام .. ولكنه لم يلاحظ أي عمل أو قول من الإمام يمكن أن يزعزع النظام الأمني للدولة .. فكان يرفع التقارير الايجابية عنه ، فأرسل عليه المسؤول المكلف باضبارة المراقبة وهدده بالطرد من الوظيفة .. عاش الرجل معاناة ، ثم جاء للإمام واعترف له بالأمر .. وقال: " أنا في حيرة بين قطع سبب رزقي ، وبين أن أخون ضميري ..! فقال له الإمام{ع}: " لو فعلتها أمك لفعلت "...! إذن دور الأم ينعكس سابا وإيجابا على الأبناء والأزواج أحيانا بلا نقاش ..يقول أبو محمد الشيباني : كان بـالبصرة رجل له عامل يشتغل فلاح ويحرث الأرض كانت له امرأة جميلة، فوقعت في نفس صاحب الأرض التاجر، نظر إليها فأعجب بها، فأرسل على زوجها ، وقال: الْقط لنا من الرطب، وافعل كذا، واذهب به إلى آل فلان، وإلى بيت فلان، حتى يخلو له الجو، يقول: فلما مضى الزوج، جاء إليها في البيت فقال للزوجة: أغلقي باب القصر، فأغلقته، فقال لها: أغلقي كل باب، ففعلت، فقال لها: هل أغلقتِ جميع الأبواب، قالت: نعم إلا باباً واحد لم أغلقه قال: لِمَ لم تغليقه؟ قالت: لا أستطيع، قال لها: أي بابٍ؟ فقالت له: الباب الذي بيننا وبين الله عز وجل، فبكى ثم قام يتصبب عرقاً وانصرف ولم يواقع الخطيئة. إذن هناك من النساء ممن تختلف عن المقلدة للموضة وكيفية التكلم ، لأنها تكون سهلة الانقياد .وكانت نساء الطف اللاتي شاركن الحسين بثورته ، من ارفع النساء وأشرفهن تاريخا المرأة التي اشتركت في كربلاء بلغن القمة في ذلك الدور، وتألقن في آفاق الإنسانية لتخلد بخلود الموقف، أصبحت نساء الطف بعد هذه الملحمة المثل النسوي الذي جسد المبادئ الإسلامية. فانتصرت المرأة في كربلاء أكثر من مرة.. مرة للحق باعتبار أن موقف الإمام الحسين {ع} كان موقفاً عادلا.. ومرة للإنسانية، لأن رسالة الحسين {ع}كانت من أجل الإنسانية..ومع أن المرأة الثورية مارست دوراً رائداً في واقعة الطف وملحمة الخلود كربلاء، إلا أن التاريخ لم يذكر على صفحاته ذلك الدور وحجمه واقعه الحقيقي ... وتعمد الباحثون إهمال الدور النسائي ، وكأنها عنصر هامشي في هذه المعركة الكبرى واعتبرها اغلب الخطباء مادة لإثارة الدمعة وتأثير المصيبة . لذلك غاب عنا كثير من الأدوار النسائية ، وسلطنا الضوء على الدور الرجولي المقرون بالمعركة والشهادة والدم ، هذه حصيلة معركة كربلاء كما وردتنا من التاريخ الموروث .. وبشكل واضح من خلال تربيتنا التي تعلمناها إن الأدوار للرجال فقط .. باعتبار {" إن المرأة لو كتب دورها بشكله المغروز في قلبها وحسب نيتها "} لغلب دور النساء على دور الرجال ، فلم يفلت من هذه المشكلة حتى كتاب الشيعة الذين كتبوا عن معركة كربلاء ، لو طالعت التاريخ تجد إن استدرار الدمعة يأتي دائما من قبل الجانب الضعيف النساء والأطفال .. لذلك تخطى التاريخ دور النساء ليس في كربلاء بل في كل مواقفها المشرفة وخصصها للبكاء والحزن وشق الجيب ...هذا الأمر إذا كان له شيء من الحقيقة فلا يعني انه الحقيقة كلها .. الله تعالى خير من ذكر ادوار النساء في القران ، ولم يعطي الدور المطلق للرجل ، وهناك مواقف نسائية تفوقت بها النساء على الرجال .. مثلا قضية الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي ، هذا الرجل تم اقتياده من قبل زياد بن أبيه وحين وصل منطقة عين الوردة بأطراف دمشق ، كتب المكلف بالقافلة إلى معاوية يخبره بوصولهم، فرد عليه الجواب بصورة توحي انه كان متخوف من النتائج الإعلامية ضد دولته في قتل حجر، كتب إلى المكلف بالقافلة أن يتبرؤوا من علي بن علي بن أبي طالب {ع} ويسبوه وإلا القتل .. المهم موقف حجر قال للسياف اقتل ولدي أولاَ.ّ! وهذا موقف كبير يشبه موقف إبراهيم الخليل {ع} في نتائجه .. ثم صلى وقدم نفسه للشهادة ..لا أريد إن أقارن بين حجر بن عدي وبين إبراهيم الخليل {ع} لأنهما من معدن واحد ، لكنه كانسان له قلب وحب لولده ، وبالمقابل له دين وعقيدة ، هنا تظهر المعادن الإنسانية .. هنا يخلد المرء أو يهين نفسه ، فكان حبه لدينه وعقيدته ومولاه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب {ع} اكبر وأثمن من حب نفسه وولده .. استهان بحب الولد والنفس وتقدم برجله للموت .. هذه المواقف الرجولية قلما تجدها في معادن الذكور .. ولا يمكن مقارنتها مع من يظهر عورته ليخلص نفسه .. آو يترك رسول الله {ص} في ساحة الوغى يلاقي حتفه ويهرب من القتال ..!!!! صفية بنت عبد المطلب : هناك نسوة لهن دور حتى في القتال اشرف من دور الرجال .. في معركة الخندق ، ضيقت الأنفاس على المسلمين ، فجعل رسول الله {ص} في حصن بين حسان بن ثابت ..وكانت ضمن النساء صفية بنت عبد المطلب ، حدثنا التاريخ عن بطولتها وجهادها ، فهي من سليل عبد المطلب ابنته وأخت حمزة وعبد الله وأبي طالب فهي سيدة عظيمة من سادات بني هاشم ..... ذكر ابن هشام في سيرته :.. « كان رسول الله (ص) ، إذا خرج لقتال عدوه ، اصطحب إحدى نسائه معه ،في غزوة ( الخندق ) رفع أزواجه ونساءه في حصن حسان بن ثابت ، وكان من أحصن بيوت المدينة . فمر رجل يهودي وجعل يطوف بالبيت ، وقد حاربت بنو قريظة المسلمين ، وقطعت ما بينها وبين رسول الله (ص) والمسلمون في نحور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا إلى ذلك الحصن إِن أتاه آت . فقالت صفية : يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، واني والله ما آمنه إن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله (ص) وأصحابه ، فأنزل أليه فاقتله . فقال حسان : يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب ! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا .فلما سمعت صفية كلام حسان ، قامت فأخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إلى ذلك اليهودي فضربته في العمود فقتلته . ثم رجعت إلى الحصن فقالت : يا حسان انزل أليه فاسلبه فإِنه لم يمنعني من سلبه إِلا أنه رجل : فقال لها حسان: « ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب » . تقول بعض المرويات : إن صفية لما قتلت اليهودي ، قالت لحسان :« قم فأطرح رأسه على اليهود وهم أسفل الحصن » . فقال : والله ما أستطيع ذلك . قالت : فقمت فرميت رأسه على اليهود ، فأدهش ذلك اليهود وقالوا : « لقد علمنا أن محمداً {ص} لم يترك أهله خلواً ليس معهم أحد فتفرقوا خائفين » . يتبين انه عين لمجموعة مهيأة للانقضاض وزرع الخلخلة في الجيش .. وهذه الراوية تشهد لصفية بنت عبد المطلب بالشجاعة الفائقة والإقدام على نصرة الإسلام . يقول الراوي دفاعا عن حسان ... هذا الموقف لم ينقص من قدر حسان بن ثابت شاعر الرسول الأعظم (ص) ولم يكن خاملاً ...حسان بن ثابت ليس رجل حرب ... وليس بمقدوره مقارعة الفرسان ... بل إن جهاده في سبيل إِعلاء كلمة الحق ونشر راية الإسلام كان بشعره ولسانه وبيانه ... لا بسيفه ورمحه وسنانه . ثم يختتم قوله .. " أجل إِن شاعر الرسول « حسان بن ثابت » وإن كان جباناً في القتال ، لكن له مواقفه الجليلة ، حيث يصنع اللسان ما يعجز عنه السنان . ... نعم في المهرجانات وإلقاء المدائح وقبض المال يتقدم هؤلاء جميع المجاهدين ..وهذه المرأة ظلمها التاريخ ولم يعطيها دورا في معركة احد .. لان لو أعطاها دور تكون النتيجة كارثة على الأمة الإسلامية حيث هرب الرجال والصحابة والمهاجرون والأنصار. ولكن لها موقف رائع عظيم ، يقول الرواة: شهدت صفية ( عمة الرسول ) غزوة ( أحد ) ولما انهزم المسلمون قامت وبيدها رمح تضرب في وجوه الناس وتقول :انهزمتم عن رسول الله ؟! فلما رآها رسول الله (ص) قال لابنها الزبير بن العوام : ألقها فأرجعها حتى لا ترى ما حل بأخيها حمزة بن عبد المطلب . فلقيها الزبير فقال لها : يا أماه .إِن رسول الله (ص) يأمرك أن ترجعي ، فقالت : ولمَ ؟.. فقد بلغني أنه مثل بأخي « حمزة » وذلك في الله قليل ، والله . لاحتسبن ولأصبرن إنشاء الله تعالى .فجاء الزبير إلى رسول الله (ص) فأخبره بذلك قال : خل سبيلها . وحين انتهت المعركة جاءت تمشي ودموعها تجري على خدها .. هنا استسلمت للبكاء .عند جسد الحمزة ، فنظرت أليه ، وصلت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له .ثم أمر رسول الله (ص) به فدفن الشهداء فوقفت إلى جوار حفرته ترثيه ..واللّه لا أنساك ماهبت الصبا أي الريح ..كانت صفية شجاعة مقدامة ، عملت جهدها في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين ، لما توفيت في سنة عشرين للهجرة ، ودفنت في البقيع . فجاء الأمويون الجدد وهدموا قبرها كما هدموا قبر أخيها الحمزة ...في مثل هذه البيوت تظهر نسبة كبيرة من المضحيات المجاهدات .. منهن فاطمة بنت أسد بن هاشم , هذه المرأة تعمد التاريخ أن لا يذكر كراماتها إلا القليل .. حافظت على رسول الله (ص) حفاظ اللبوة على أفراخها ..أبدت له الحب والخدمة حتى كان يسميها أماه .. كانت فاطمة بنت أسد إنسانة بكل معاني الكلمة ، تؤثره على أولادها ، وتحنو عليه أكثر من حنو الوالدة على رضيعها .{ هذا كلام ربما لا يشعره إلا الأمهات } لذلك اتخذ بيتها رسول الله للمهمات الكبرى .. لحمايته من قبل زوجها ومن قبلها ، حتى بعد زواجه كان يزورها ويقيل في بيتها..وكانت تلتقي مع رسول الله في جده هاشم ، فهي عمته .. حتى في المدينة حين تأمرت عليه زوجتيه ، خرج من بيته شهرا قضاها في بيت فاطمة .. { وان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه } ... وفي المدينة أعاد لها شيء من جميلها فكان يزورها ويجالسها ويؤنسها .. لأنه يحترمها ويحبها لما كانت وعمه من دور في حفظ حياته ..ليس هذا فقط فهي التي ربت فاطمة الزهراء {ع} في مكة تزورها في بيتها وبالعكس .. هذا كله يعرفه رسول الله .. ولما نزلت الآية { وانذر عشيرتك الأقربين } كان الاجتماع في بيتها ، وهي التي عملت الوليمة للمدعوين من بني هاشم .. لذلك اعتبر رسول الله {ص} فاطمة بنت أسد بمستوى المجاهدات اللاتي قدمن خدمة كبيرة للإسلام من خلال جهادهن ..وقد تبين ذلك منه في وفاتها .. يقول جابر بن عبد الله الأنصاري ، جاء خبر وفاتها إلى رسول الله{ص} في السنة الخامسة للهجرة . فقال : قوموا لدفن أمي فاطمة بنت أسد .. فلنستمع إليه يقول.. بينما نحن جلوس مع رسول الله ،إذا أتاه آت فقال ، يا رسول ألله إن أم علي وجعفر وعقيل قد ماتت ، فقال رسول الله قوموا إلى أمي فقمنا ،وكأن على رءوسنا الطير فلما انتهينا إلى الباب نزع رسول الله قميصه فقال: إذا غسلتموها فأشعروها إياه تحت أكفانها فلما خرجوا بها جعل رسول الله {ص} مرة يحمل الجنازة ومرة يتقدم ومرة يتأخر حتى انتهينا إلى القبر فنزل وتمرغ فيه اى تمرغ في اللحد القبر، ثم خرج فقال : أدخلوها باسم الله وعلى اسم الله فلما دفنوها قام فقال :جزاك الله من أم وربيبة خيرا ، فنعم ألام ونعم الربيبة كنت لي ، فقلت له يا رسول الله لقد صنعت شيئين ما رأيناك صنعت مثلهما قط فقال النبي {ص } ما هما ؟ قلنا نزعك قميصك ونومك في اللحد ،قال: أما قميصي فأريد ألا تمسها النار أبدا ، إن شاء الله تعالى ،وأما نومي في اللحد فأردت أن يوسع الله عليها في قبرها ثم قال :{ أن هذه المرأة كانت بمنزلة أمي التي ولدتني ، إن أبا طالب كان يصنع الصنيع أي الطعام وتكون له المأدبة ، فكان يجمعنا على طعامه فكانت هده المرأة تفضل منه كله نصيباً تعود به إلي ... كلمة كبيرة حين يقول :" هذه المرأة بمنزلة أمي التي ولدتني " لذلك أنجبت أبناء وبنات وأحفاد كانوا قدوة للإسلام حملوا رسالة جدهم ودافعوا عنها بالدم والمال .. ومن أولئك الأبطال حفيدتها زينب بنت علي {ع} ... حاول الأمويون بكل إمكانياتهم ولعبهم الإعلامية أن يشوهوا موقفين في ثورة أبي عبد الله {ع} ..الموقف الأولى: الإعلام المضاد الذي وجهته عبر أجهزتهم الإعلامية من خلال حملة كتابها الذين كتبوا عن الثورة الحسينية وخلقوا مبررات عدم شرعيتها ، ولكنهم لم يفلحوا لان إرادة الله كانت أن يعيش الحسين {ع} في ضمائر الثوار خاصة والناس عامة من خلال شهادته .. لذلك استخدموا طريق العنف والقتل والإبادة والإرهاب لسنين عديدة ولكن إرادة الله كانت أقوى من الإرهاب والقتل والفتنة ..الموقف الثاني :.. محاولة إذلال النساء الأسيرات ، وتوجيه رسالة من خلالهن لكل من تحدثه نفسه ان يخرج على حكم الظالمين " يني أمية" وأمثالهم .. ولكن الذي حدث العكس ، فقد دخلت الثورة الحسينية إلى التاريخ من خلال السبايا ، وبقيت كلماتهن سياطاَ تلهب ظهور أعداء آل بيت رسول الله {ص} وعرتهم وكذبت أباطيلهم ، وانقلب السحر على الساحر , ولا زالت الجماهير إلى اليوم تستمد شعاراتها الثورية من الإمام زين العابدين والعقيلة زينب {ع} ومن تراث كربلاء .. فكلما ضاقت حبال الغدر والظلم أن يركنوا الثوار الحسينيين السائرين على خطى أبي عبد الله{ع} نسمع هتافات شباب وشيوخ ونساء " إن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة" وحين نلوي جيدنا صوب الشام التي تحتفل بوصول السبايا ، نسمع صوت امرأة يدوي بين جدران قصر الاموين " والله.... لا تمحو ذكرنا ولا تميت أمدنا ولا يرخض عنك عارها وشنارها " والرخض معناه التسهيل والضعف والاضمحلال ...........لننتقل مباشرة إلى الأجواء المأساوية والثورية في مجلس الطاغية يزيد .... عن الإمام زين العابدين{ع} قال « لما أدخلونا على يزيد بن معاوية أتونا بحبال وربطونا ، كان الحبل بعنقي وبكتف زينب وسكينة والبنيات ، وساقونا وكلما قصرنا عن المشي ضربونا ، حتى أوقفونا بين يدي يزيد ، فتقدمت إليه، وقلت له : ما ظنك برسول الله لو يرانا على هذه الصفة » ؟! فأمر بالحبال فقطعت ... ثم أدخلت النساء ..فكان يسأل عن كل واحدة ليتشفى عن أولئك الذين أخزاهم سيف أبيها أمير المؤمنين {ع} يوم بدر وحنين ..ومن الحوادث التي يذكرها التاريخ يبين فيها سوء خلق وتربية ذلك الأمير الفاسق ، انه كان يأتي بالأسيرات لزيادة التأثير النفسي والانتقام من الحسين {ع} من خلالهن ، ولكن هذه السياسة ردت على يزيد حين جابهنه بما لم يتوقع تلك اللبوات المجاهدات بما لا يرضيه أن يسمعه منهن أمام جلسائه ... منها موقف الشامي الذي انطلت عليه الأكاذيب الإعلامية الأموية ..فقال : « يا أمير المؤمنين ! هب لي هذه الجارية ويعني سكينة بنت الحسين {ع} تقول : خفت وارتعدت ، وظننت أن ذلك جائز لهم ، فأخذت بثياب عمتي : زينب ، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون ـ وقلت :« يا عمتاه : أيتمت وأستخدم » ؟بعد والدي الحسين , فقالت زينب : « لا حبا ، ولا كرامة لهذا الفاسق » ، وقالت ـ للشامي ـ :« كذبت ـ والله ـ ولؤمت ، والله ما ذلك لك ولا له ». فغضب يزيد ، وقال : كذبت والله ، إن ذلك لي ! ولو شئت أن أفعل لفعلت. فقالت: كلا ، والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج عن ملتنا ، وتدين بغير ديننا » ! فاستطار يزيد غضباً ، وقال : إياي تستقبلن بهذا ؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك » !! ؟ فقالت : بدين الله ، ودين أبي ، ودين أخي اهتديت أنت وجدك وأبوك .. إن كنت مسلماً قال : كذبت يا عدوة الله !! قالت له : « أنت أمير تشتم ظالماً ، وتقهر بسلطانك .فكأنه استحيى وسكت ، فعاد الشامي فقال : هب لي هذه الجارية ؟ فقال يزيد : « أعزب ! وهب الله لك حتفاً قاضياً » ! أعرفتها..؟ قال :لا قال : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب !! فقال الشامي : الحسين بن فاطمة ابن علي بن أبي طالب ؟! قال : نعم. فقال الشامي : لعنك الله عليك يا يزيد أتقتل عترة نبيك ، وتسبي ذريته ؟ والله ما توهمت إلا أنهم سبي الروم. فقال يزيد : والله لألحقنك بهم. ثم أمر به فضرب عنقه. هذا موقف أدى إلى مشاحنة بين من كان محسوبا على السلطة .. وأي امرأة مسبية تلك التي سحبت البساط من شرعية الحاكم الظالم . تقول له : إلا أن تخرج عن ملتنا وتدين بغير ديننا.. المواقف التي خلدها التاريخ ، ولا زالت صدى كلماته ترن في المسجد الأموي بالشام حين تدخل ترى اثر العقيلة واضحا وهي تدحر الطغاة وترميهم في مزابل الدهر .. حين وضع اللعين رأس الإمام بين يديه ،وأمر بالنساء أن يجلس خلفه ، لئلا ينظرن إلى الرأس ، لكن زينب لما رأت الرأس الشريف هاج بها الحزن ، فنادت ـ بصوت حزين يقرح القلوب ـ : « يا حسيناه ! يا حبيب رسول الله ! يابن مكة ومنى يابن فاطمة الزهراء سيدة النساء .. قال الراوي : فأبكت ـ والله ـ كل من كان حاضراً في المجلس ، ويزيد ساكت ! وعلى اثر هذا النداء أراد أن يقرح قلبها ويعطي صورة للجالسين انه مقتدر على القتل والإذلال ..فدعا بقضيب من حديد وجعل ينكت به ثنايا أبي عبد الله .. فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال : ويحك يا يزيد ! أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة ؟! أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : « أنتما سيدا شباب أهل الجنة ، قتل الله قاتليكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا ». فغضب يزيد وأمر بإخراجه ، فأخرج سحباً. وجعل يزيد يقول :ليت أشياخي ببـدر شهدوا ...جزع الخزرج من وقع الاسل ... لأهلوا و استهلـوا فرحـا .... ثم قالوا يا يزيد لا تشل ... قد قتلنا القرم من ساداتهم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل .. لست من خندف إن لم انتقم ... من بني احمد ما كان فعل .. لعبت هاشم بالملك فلا .. خبر جاء ولا وحي نزل ... شاهدت السيدة زينب{ع} مواقفه وسمعت منه كلمات تعتبر عن الإهانة والاستخفاف بالمقدسات ، وأقبح أشكال الاستهزاء بالمعتقدات الدينية الحاقدة !! والاهم من هذا كله أنه وضع رأس الإمام {ع} أمامه وبدأ يضرب بالعصا على شفتيه وأسنانه ، وهو ـ حينذاك ـ يشرب الخمر !! هنا ظهر دورها الذي أشار له الحسين " لقد شاء الله أن يراهن سبايا" لهذا الموقف جاءت زينب ..!!والتكليف الشرعي فرض عليها أن تكشف الغطاء عن الحقائق المخفية عن الحاضرين في ذلك المجلس لأن المجلس كان يحتوي على شخصيات عسكرية ومدنية ، وعلى شتى طبقات الناس. فقد كان يزيد قد أذن للناس إذناً عاماً للدخول وكان من اكبر الاجتماعات التي عقدت في الأسر .. فمن الطبيعي أن تحضر الجماهير في ذلك اليوم وقد خدعتهم الدعايات الأموية ، فصاروا لا يعرفون الحق من الباطل ، منذ أربعين سنة طيلة أيام حكم معاوية بن أبي سفيان على تلك البلاد. وعلامات الفرح والسرور تبدو عليهم لانتصار السلطة على ثورة عرفتهم أجهزة الدعاية الأموية بصورة مشوهة. والثانية : يبدو إن أهل الشام تعودوا على مشاهدة قوافل الأسرى التي كانت تجلب إلى دمشق بعد الفتوحات.هنا برز دور حفيدة الرسول {ص} أن تنتهز هذه الفرصة ، وتجازف بحياتها في سبيل الله ، وتنفض الغبار عن الحق والحقيقة ، وتعرف الباطل بكل صراحة ووضوح ؟ بالرغم أنها كانت أجل النساء قدرا ومنزلة ، من أن تخطب في مجلس ملوث لا يليق بها ، لأنها سيدة المخدرات والمحجبات ! ولكن الضرورة أباحت لها أن توقظ الضمائر التي عاشت في سبات ، وتعيد الحياة إلى القلوب التي أماتتها الشهوات ، وغمرها الفجور ، لأنها لم تسمع كلمة شريفة من واعظ ، ولا ناصح .. شرح خطبة العقيلة زينب :.... قال الشيخ الطبرسي والصدوق : ابتدأت بأية من القران الكريم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة على محمد واله الطاهرين صدق الله سبحانه ، كذلك يقول : « ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوء أن كذبوا بآيات الله ، وكانوا بها يستهزئون ». أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الإسراء, أن بنا من الله هواناً ، وعليك منه كرامة ، وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ،جذلان مسرورا .. حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة ، وحين صفى لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلا ، لا تطش جهلاً ، أنسيت قول الله تعالى « ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ، ولهم عذاب مهين » ... أمن العدل ـ يابن الطلقاء ـ تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهن أهل ألمناهل والمناقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي وكيف ترتجى مراقبة أبن من لفظ فوه أكباد الشهداء ، ونبت لحمه بدماء السعداء ، فلا يستبطآ في بغضنا أهل البيت من نظر ألينا بالشنأ والشانئان والحقد والإضغان ثم تقول غير مستاثم ولا مستعظم :لأهلـوا واستهلـوا فرحاً ، ثم قالوا يا يزيد لا تشل منحنياً على ثنايا أبي عبد الله تنكثها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة ، تهتف بأشياخك كأنك تناديهم .لتردن وشيكا موردهم ..اللهم خذ بحقنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلل غضبك على من سفك دماءنا ، ونقض ذمارنا ، وقتل حماتنا ، والله ما فريت إلا جلدك ، وما حززت إلا لحمك ، وسترد على رسول الله بما تحملت من دم ذريته ، وانتهكت من حرمته ، وسفكت من دماء عترته ولحمته ، حيث يجمع بهم ويلم شعثهم ، ويأخذ بحقهم ، فلا يستفزنك المهل فانه لا يفرح البدار ولا يخاف فوت الثار وان ربك لبرمصاد .. وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد خصماً ، وبجبرائيل ظهيرا. وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين أن « بئس للظالمين بدلاً » وأيكم شر مكاناً وأضل جندا وان جرت علي الدواهي مخاطبتك فاني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكبر توبيخك ..ولكن العيون عبرا والصدور حرى . ألا فالعجب كل العجب بقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء فلئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد. فكد كيدك ، واسعا سعيك وناصب جهدك والله لا تمحوا ذكرنا ولا تدرك أمدنا وهل رأيك إلا فند ؟ وأيامك إلا عدد ؟ وجمعك إلا بدد ؟ يوم ينادي المنادي : ألا : لعنة الله الظالم العادي.الحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة والرحمة ولآخرنا بالشهادة والمغفرة ونسأله المزيد ،انه رحيم ودود ..... انتهى... فلم يرد جوابا سوى مجيباً لها ـ : يـا صيحة تحمد مـن صوائح .... ما أهون النوح على النوائح ما هي الملفات التي كشفتها زينب في هذه الخطبة وسط هذا المد البشري في المسجد الأموي .. قبل أن نبدأ بشرح بعض كلمات هذه الخطبة نجلب انتباه المستمع الكريم إلى هذا التمهيد : تدبر قليلاً لتتصور أجواء ذلك المجلس الرهيب ، ثم معجزة السيدة زينب الكبرى في موقفها الجريء ! بالله عليك ! أما تتعجب من سيدة أسيرة تخاطب الطاغوت بذلك الخطاب ؟ وتتحداه تحدياً لا تنقضي عجائبه ؟ ولا تهاب الحرس المسلح الذي ينفذ الأوامر بكل سرعة وبدون أي تأمل أو تعقل ؟! ..يقابلها سكوت يزيد أمام ذلك الموقف مع قدرته وإمكاناته ؟ وكأنه عاجز لا يستطيع أن يقول شيئاً أو يفعل شيئاً ! أليس من العجيب أن يزيد وهو طاغوت زمانه ، وفرعون عصره لم يتجرأ أن يرد على السيدة زينب كلامها ، بل شعر بالعجز والضعف عن مقاومتها ويكتفي بقراءة قول الشاعر : « يا صيحة تحمد من صوائح » ! .. فما معنى هذا البيت في هذا المقام ؟! وما المناسبة بين هذا البيت وبين كلمات خطبة السيدة زينب ؟ فهل كان موقف مولاتنا زينب النياحة تلك للحظة أو أنها كشفت تاريخ العائلتين .. هل بكت وتوسلت به حتى ينطبق عليها قول يزيد : « ما أهون النوح على النوائح » ؟ إنها قالت يا ابن الطلقاء ..؟ ولكنه موقف جبان أمام الحقائق حين يجابه بسيرة أهله وسيرة الذي تلطخت يده بقتله .. ولا شك إن يزيد يعرف من هي المتحدثة ، ويعرف مدى جريمته .وشعر بالخيبة حين عرف إن الأسيرة تمتلك حجة وقوة بيان سببت له حرجا في يوم احتفاله بالانتصار... وهذه أول الهزائم النفسية . ولكنه لا بد أن يستمر حتى لو تعاظمت جرائمه في اسر بنات رسول الله {ص} بعد قتل الحسين {ع} .. ولكنه بكل القياسات ما كان يتصور أن سيدة أسيرة سوف تغمسه في بحار الخزي والعار..فلا يستطيع أن يغسل عن نفسه تلك الوصمات إلى يوم القيامة. والنقطة الثانية :.. السر العائلي المخزي لبني أمية طوال 40 سنة انكشف ذلك اليوم وذهبت حالات التستر هباءَ منثورا لان زينب{ع} أخزته بالتاريخ أمام الناس وفي مجلسه فرفعت الستار عن أصله ، وحسبه ونسبه ، وسوابقه ، وتخاطبه بكل تحقير ، وتقرع كلماتها كالبركان الهادر وكأنها مطرقة ترتج تحتها أعصابه ، فيعجز عن كل مقاومة !! .... ولنذهب مع الخطبة ومعانيها وماذا أرادت أن تبينه للناس والتاريخ ....ما المعني بقوله :. لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل ...؟ كان الرد عليه بآية من القران وكانت موفقه في اختيارها تماما ، { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيراَ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين }.. وهي رد على الأبيات التي قالها يزيد : « لعبت هاشم بالملك فلا ...خبر جاء ولا وحي نزل » معنى هذا البيت أن بني هاشم {المقصود منهم هو رسول الله{ص} لعب بالملك بالنبوة والرسالة ، والحال أنه لم ينزل عليه وحي من السماء ، ولا جاءه خبر من عند الله تعالى. هكذا أعلن ما في قلبه ..فتراه ينكر النبوة والقرآن والوحي !! وهو نوع من الكفر والزندقة ... ثم المنتصر دائما يشعر بالتعالي والفخر ويحب أن يلقبوه بعناوين النصر والافتخار والكبرياء .. ولكن السيدة زينب {ع} فندت الفكرة خاطبت الطاغية يزيد باسمه الصريح ، ولم تخاطبه بكلمة : أيها الخليفة أو يا أمير المؤمنين وأمثالهما من كلمات الاحترام .. خاطبته باسمه ، وكأنها تصرح بعدم اعترافها بخلافة ذلك الرجس ، فقالت : « أظننت ـ يا يزيد ـ حين أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، اخذ الأقطار تعني حالة التضييق السياسي والإرهاب النفسي ؟! وتجاوز ممن ليس له أصل وسابقة في الإسلام أن يتحكم في آل بيت رسول الله{ص} وهذه أعظم حالات الضيق حين يكون ممن ليس له أصل يتحكم في أبناء الذوات .. وهو اقرب صورة لبيت رسول الله{ص} وبين أبي سفيان ومعاوية .. هذا معنى أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ...فهم في حالة من الضيق أنهم لا يتمكنون من التحرك بحرية .. فوصلت الحال أن يصبح آل رسول الله{ص} اسارى عند المسلمين .. وهذا أنتج إننا نساق اليوم كالاسارى الذين يأتون بهم من بلد يحرره المسلمون ، ..إن بنا على الله هوانا ، وعليك منه كرامة ..فظننت بعملك هذا إن لا حرمة لنا عند الله ، وأنت صاحب الحظوة عنده وعلو منزلتك عنده ، استولت عليك نشوة الانتصار .. فشمخت بأنفك ، تقال للذي يتكبر من فعل يظن انه على حق فيشمخ بأنفه " ونظرت في عطفك " العطف مجموعة الشمائل التي ينغر بها المرء ، مثل لباسه أو حرسه أو بناء قصره وأمواله وأبناءه.. هذه الأشياء التي تزول يتعالى بها المتكبرون ...هذه المواقف الخاطئة تعطي لمرتكبيها حقا أن يتجاوز على رموز الأمة .. فتجد الوضيع يتطاول على الرفيع ، وهذه من أساسيات الكوارث الاجتماعية .. يقول علي{ع} " أذلني الدهر حتى قالوا علي ومعاوية" قبل أيام نقلت إحدى الفضائيات كلمة من مجلس عزاء لوالد احد المقتولين من قبل إرهابيين في الانبار , قال : " نحن نستطيع أن نرد على أهل الانبار وهم يجولون في العراق كله ..؟ ثم قال : نعم نتمكن ولكننا لن نفعل حتى لو قتلوا أبناءنا لان أخلاقنا وتربيتنا ومذهبا لا يسمح لنا ذلك " ..!! أي موقف عظيم لهذا المذهب الذي يعلم أبناءه عدم الرد حتى على الدم لكل من يحمل جنسية الانبار ..؟؟ وحسبكم هذا التفاوت بيننا .. وكل إناء بالذي فيه ينضح ...« وحين صفى لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا » أي : ومن أسباب فرحك ، وقيامك بالحركات الطائشة التي تدل على شدة سرورك ، أنك رأيت من نفسك ملكاً وسلطاناً قد نجح في خطته التي رسمها لإبادة منافسه ، وأسر نسائه. أعلم أيها المغرور : أن هذه المكانة التي اغتصبتها -الخلافة ـ هي لنا أساساً ، لأن يزيد لم يكن ابن عائلة لها تاريخ مشرف في الإسلام ..كان يحكم باسم رسول الله {ص} وهذه الخلافة لها موارد خاصة ،أهمها أن خلفاء رسول الله أفراد معينون ، منصوص عليهم بالخلافة ، وهم : الإمام علي وأبناءه {ص} ولكن الآن .. صارت تلك القدرة والسلطة بيد يزيد !! بعد هذه المقدمة والتمهيد قالت : فمهلاً مهلاً أي لا تسرع في أفعالك الظاهرة عليك بالفخر والفرح ، لان هذا جهل وغباء .. لا تطش جهلاً » طيش الجهل الغرور وفقدان التوازن .. مثل الرقص في الأفراح دليل عدم الاتزان .. فلان طائش ينط ويقفز من الفرح .. هذا غير الناضج .. لا تأخذك المظاهر يا يزيد ! لا تطش .. بسبب جهلك بالحقائق ، وخلطك بين المفاهيم والقيم ، والاغترار بالظواهر. أنسيت قوله تعالى " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين » ؟!! .. نملي لهم أي نطيل لهم المدة والمجال ونطيل أعمارهم ونجعل الساحة مفتوحة أمامهم « خير لأنفسهم » ، بل : إنما نطيل أعمارهم ومدة سلطتهم وحكومتهم .. لتكون عاقبة أمرهم هي ازدياد الإثم والمعاصي في ملف أعمالهم ، ولهم عذاب مهين ، معنى المهين : ، أي في جهنم ، تعذيباً ممزوجاً مع الإهانة والتحقير. ثم خاطبته وذكرته بأصله السافل ، ونسبه المخزي ، فقالت : « أمن العدل يا بن الطلقاء » إشارة إلى يوم فتح مكة ، فإن رسول الله{ص} لما فتح مكة وصارت تحت سلطته كان بإمكانه أن يقتلهم لما صدرت منهم من مواقف عدائية وحروب طاحنة ومتتالية ضد النبي {ص} والمسلمين لكنه رغم هذا قال لهم : « يا معاشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم ؟ » قالوا : « خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم » فقال « أذهبوا فأنتم الطلقاء »وكان فيهم أبوك معاوية وجدك أبو سفيان. وأنت منهم ومعنى ابن الطلقاء » فالطلقاء جمع طليق وهو الأسير الذي أطلق إساره ، وخلي سبيله. بلا تعويض ولا مقابل فضلا أو استهانةَ به، كان {ص} بإمكانه أن ينتقم منهم ، وخاصة من أبي سفيان الذي كان يؤجج نار الفتن والحروب ، ويثير الناس ضدا لنبي{ص} ويقود الجيوش والعساكر لمحاربة النبي والمسلمين ، كما حدث في يوم بدر وأحد ، وحنين وموقفه قبل الهجرة ..فهو يمكن أن يعمل بقوله تعالى : {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } كان {ص} مخيراً بين ضرب أعناقهم وبين المن والفداء ، فاختار المن وأطلقهم بلا فداء ولا عوض. الظاهر أن السيدة زينب تقصد من كلمة « يابن الطلقاء » واحداً من معنيين لما أصبحت مكة في قبضة الإسلام كأنهم عبيد ، تكون الجملة تذكيراً له بسوء سوابقه المخزية وملف والده وجده ...والمعنى الثاني : تذكر يزيد بالإحسان الذي بذله رسول الله {ص } لأسلافه حين أطلقهم ، فقالت : « أمن العدل » أي : هل هذا جزاء الإحسان مع أسلافك .. أن تتعامل مع حفيدات الرسول هذا التعامل السيئ ؟! ولعلها قصدت المعنيين معاً. ثم تقول : تحذيرك حرائرك وإماءك » يقال : خدر البنت : أي : أقامها وراء الستر وهي الدار والثياب وسوقك بنات رسول الله قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن .. السوق : يقال : ساق الماشية يسوقها سوقاً : حثها على السير من خلف وذلك يعني : الحث على السير من الوراء مع عدم الاحترام. لا يرجى من يزيد العدل والعدالة ، ولكنه لما ادعى الخلافة لنفسه ، كان المفروض منه أن يكون عادلاً.ولهذا خاطبته السيدة زينب بقولها : أمن العدل أن تجعل جواريك والنساء الحرائر الساكنات في قصرك وراء الخدر ، وتسوق بنات الرسالة سبايا ؟ قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن »فبعد أن كن مخدرات مستورات ، لا يرى أحد لهن ظلاً ، وإذا بهن يرين أنفسهن أمام أنظار الرجال الأجانب ، بعد أن كن محجبات .. والأعداء سلبوهن وينقلوهن من بلد إلى بلد تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد يسوقهن الأعداء من كربلاء إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام ، ويمرون بهن على البلاد التي في طريق الشام.وحينما يمر موكبهن على القرى والأرياف ، كان الناس يخرجون للتفرج عليهن ، وأحياناً كانوا يصعدون على سطوح دورهم للتفرج عليهن ، ولهذا قالت السيدة : ويستشرفهن أهل المناقل والمناهل » المناقل ـ جمع منقل ـ وهو الطريق إلى الجبل. والمناهل جمع منهل هو الماء الذي ينزل عنده والمقصود : المنازل التي في طريق المسافرين ، للتزود بالماء أو الاستراحة ويتصفح وجوههن القريب والبعيد » يتصفح : أي يتأمل وجوههن لينظر إلى ملامحهن !! ليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حماتهن حمي » ، عائلة محترمة ، وليس معهن من رجالهن أحد يشرف على شؤونهن ويحرسهن ويحميهن من الأخطار والأشرار ، لأن رجالهن قد قتلوا بأجمعهم ، ولم يبق منهم سوى الإمام زين العابدين علي بن الحسين {ع} كل هذه الجرائم التي صدرت منك ، وبأمرك وكيف ترتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الشهداء ، ونبت لحمه بدماء السعداء؟ أي : كيف نتوقع أن يخاف الله ابن من رمت من فمها أكباد الشهداء الأبرياء ؟ هذه الكلمة إشارة إلى ما حدث في واقعة أحد ، وإلى مقتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وعم رسول الله {ص} حينما جاءت هند أم معاوية وجدة يزيد وشقت بطن سيدنا حمزة ، وأخرجت كبده وأخذت قطعة من كبده ، ووضعتها في فمها وعضتها بأسنانها وحاولت أن تأكلها ، بسبب الحقد المتأجج في صدرها ، فقطعتها بأسنانها فاكتسبت بذلك لقب ( آكلة الأكباد ) !! ويزيد : هو حفيد هكذا امرأة حقودة. وحقده على الدين وارتكابه للجرائم الكبيرة ليس بشيء جديد !! ... درجات الكفر عند أهل مكة :.... من الواضح أن العرب في مكة وغيرها .. كانوا على درجات متفاوتة في نسبة إنكارهم لوجود الله تعالى ، أو اتخاذهم الأصنام آلهة من دونه سبحانه. فهناك من هو جاحد ومنكر مائة بالمائة ، وهناك من هو جاحد 70 % ، وهكذا. آخرون ليس عندهم أهمية للعقيدة سواء بقي كافرا او دخل في دين جديد هو ليس له اهتمام بمستوى المؤمنين ..ومنهم : من هو عازم على الاستمرار في الكفر رغم علمه بالتوحيد ، ومنهم : من كان يعيش حالة الشك في الاستمرار في الكفر أو الشرك. ومنهم : من كان يحيك المؤامرات ضد النبي الكريم بصورة سرية ، ومنهم : من كان يخرج لحرب رسول الله .. بشكل مكشوف. ومنهم : من كان منكراً لله تعالى .. ولكنه يتخذ موقف المحايد تجاه النبي الكريم ، ولا يبذل أي نشاط ضد الإسلام والمسلمين. ولكن الكافر الذي ضرب الرقم القياسي في الكفر والعناد هو أبو سفيان. هذه كلها صفات أبي سفيان ، وقد ورثها حفيده يزيد ، فهو يشترك مع جده في جميع الأوصاف والأحقاد ، وبنفـس النسبة مـع تبدل الظروف ! .. فلقد وقف أبو سفيان في وجه رسول الله {ص} حاربه وأظهر أحقاده. وجاء أبنه معاوية ، وقف في وجه أمير المؤمنين {ع} وحاربه بكل ما لديه من قوة ، وعلى مختلف الأصعدة والمجالات ، الإعلامية والعسكرية وغيرها. .... إن الوثائق التاريخية تقول : « مات معاوية وعلى صدره الصنم » جاء في التاريخ : « مات معاوية على غير ملة الإسلام ».هذا ليس من الشيعة بل من العالم المؤرخ الذهبي في كتاب" سير أعلام النبلاء ج10 ص533 وفي كتاب " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي ج14 ص 181 وكتاب " عبقات الأنوار " ج7 ص 305 ..إن يزيد حينما أمر بقتل ريحانة رسول الله الإمام الحسين ع لم يكن لمجرد أنه كان يرى منه منافساً له في السلطة فقضى عليه ، بل إن ذلك كان من منطلق الكفر والإلحاد ، ولذلك .. فهو لم يكتف بقتل الإمام ، بل أمر بسبي نسائه وأطفاله ، وقام بغير ذلك من الجرائم والجنايات. لذلك كان يزيد يتمنى حضور اولئك الكفار الذين ماتوا يوم بدر واحد .. فيسميهم أشياخ ...وهم عتبة قتله عبيدة بن الحارث وشيبة وابنه الوليد فقد قتلهما الإمام أمير المؤمنين {ع} ..حينما نزور أئمتنا نقول : لعن الله من قتلكم ومن ظلمكم ، ومن سمع بذلك فرضي به ... لماذا نشرك أبناء هذا الجيل بجريمة الماضين ..؟ الجواب لان وحدة الهدف تصب دائما باتجاه واحد ، فيزيد يخاطب أشياخه وهم رميم في لحودهم , كأنه يهنئهم على النتائج الانتقامية التي سطرها الذين يحملون نفس الهدف .. وهذا دليل مادي على كفره إشارة إلى الأبيات التي أنشدها يزيد : وهو من صنف من يتجاهر في كفره .. وقد بينت العقيلة {ع} للناس إن أجدادك الذين تدعوهم إنما خرجوا من مكة إلى المدينة لقتال الرسول {ص} والمسلمين .. هذه الخطبة أحدثت ردة فعل لدى عدد كبير من الشاميين ممن لا يهتمون ولا يكترثون للقتيل ولا للأسيرات ،ولكنها عطفت على المصيبة الجديدة التي قام بها الطاغية النكرة حين ضرب ثغر الحسين {ع} فقالت : منحنياً على ثنايا أبي عبد الله تنكثها بمخصرتك .وهذا الثغر كان موضع تقبيل رسول الله{ص} ، والثنية مقدمة الأسنان وموضع التقبيل ، والله القلم ليعجز عن التعبير عن شرح هذه المقطوعة من الخطبة !! وذلك لهول المصيبة ، فكيف تجرأ الطاغية يزيد على أن يضرب تلك الثنايا المقدسة ، التي كانت موضعاً لتقبيل رسول الله .. مئات المرات .. وفعل يزيد ذلك بمرأى من عائلة الإمام الحسين ونسائه وبناته ؟! ولم يكتف يزيد بالضرب مرةً واحدة أو مرتين ، بل مرات متعددة ، وهو في ذلك الحال في أوج الفرح والانتعاش !! ولم يكن الضرب على الأسنان الأمامية فقط ، بل كان يضرب على شفتيه ووجهه الشريف ، ويفرق بين شفتيه بعصاه ليضرب على أسنانه ! قد يكون الفرح شديداً فيتدفق الدم إلى الوجه فيحمر ، وبذلك تظهر آثار الفرح على ملامحه ، فيقال : إلتمع السرور بوجهه. هكذا كانت فرحة يزيد حين ضرب إمامنا الحسين {ع} متشفيا برسول الله وأبيه وأمه عليهم السلام ....فكان ضرب يزيد تلك الثنايا سبباً لهيجان العواطف و الأحزان من جديد ، وفجر دموع العائلة الكريمة ، فاستولى عليهن البكاء والنحيب والصراخ ، وخاصة أن بنتين من بنات الإمام الحسين {ع} جعلتا تتطاولان ( أي : تقفان على رؤوس أصابع رجليهما ) لتنظرا إلى الرأس الشريف ، من وراء كراسي الجالسين ، فلما نظرتا إلى يزيد وهو يضرب الرأس الشريف ، صرخن بالبكاء والعويل ، ولاذتا بعمتهما السيدة زينب ، وقالتا : يا عمتاه ! إن يزيد يَضرب ثنايا أبينا ، فقولي له : لا يفعل ذلك ؟! فقامت السيدة زينب {ع} ولطمت على وجهها ونادت : « واحسيناه يا حبيب رسول الله ، ! يابن مكّة ومِنى يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء...
https://telegram.me/buratha