ترتبط مياه الرافدين بالوجدان العراقي ارتباطا وثيقا الى درجة يستحيل معها لأي مواطن عراقي، منذ فجر التاريخ حتى وقت قريب، تخيل البلاد بدون النهرين العظيمين. لذلك فإن وقع التكهنات الاخيرة القاضية بامكانية جفاف النهرين قبل منتصف القرن الحالي كان محيّرا، بل واستفزازيا في بعض اوجهه، للعقل العراقي المطمئن الى غزارة الوجود التلقائي للمياه في الروافد والسواقي والانهار والبحيرات والاهوار وغيرها، والمشغول باولويات اخرى ولّدتها سنوات الحروب وفقدان الامن والهجمات الارهابية، والحريات السياسية المكتسبة والفوضى العارمة بعد ان اظهر سقوط النظام السابق حجم الخراب الداخلي المتراكم الذي كانت تخفيه القسوة والتعسف والظلم.
ان التكهنات المتشائمة بشأن امكانية جفاف النهرين التي يتداولها الاعلام استندت الى دراسات ومعاينات قد لاتكون مكتملة ولكنها ليست بالضرورة خادعة، مما يعني انها يجب ان تؤخذ بمنتهى الجدية باعتبارها سيناريو محتمل في ظل تغيرات مناخية غير معروفة، ومسرح سياسي اقليمي مفتوح على احتمالات عديدة، ومفاجئات نابعة عن تعثر التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
فالمياه الوفيرة كانت العامل الرئيسي لازدهار حضارة العراق، وهي محدد اساسي لتكوينه المعاصر ولمستوى معيشة سكانه، ولم يتكيف سكان العراق قديما وحديثا على التعايش مع حالة جفاف طويلة، وقد كان جفاف الاعوام الماضية (2007 – 2010) قاسيا بسبب طول فترة الشحة، والتي تزامنت مع درجات حرارة فاقت الـ (50) درجة مئوية صيفا مما ضاعف الحاجة الى مياه اوفر.
ولقد اظهرت احصائيات الجهاز المركز للاحصاء في وزارة التخطيط بأن الفقر يتفشى في الريف العراقي بصورة اكثر من المدن، وبما ان الريف يعتمد اساسا على الزراعة المروية، فان وفرة المياه (او شحتها) ترتبط بحالة الفقر ارتباطا وثيقا، فضلا عن كون الموارد المائية ثروة وطنية كبرى يجب حمايتها، وتطوير وسائل ادارتها، وتأمين حصول السكان عليها حاضرا ومستقبلا، ويتحتم ايلائها اولوية قصوى واستخدامها على افضل وجه، وخلق شروط ادارتها الضامنة لتدفقها المستمر وعدالة توزيعها على مناطق العرا ق كافة.
لماذا تدهور الوضع المائي في العراق؟
لقد تدهور الوضع المائي لسببين: اولهما خارجي وهو ذو شقين يتعلق احدهما بسيطرة دول الجوار على منابع المياه عن طريق بناء السدود والخزانات، والآخر هو العامل الطبيعي الذي انتج حالات جفاف متلاحقة وطويلة وهي قد تكون احدى تجليات التغير المناخي الذي كثر الحديث عنه،
اما السبب الثاني فهو سوء ادارة الموارد المائية بسبب الحروب المتلاحقة، وكذلك استخدام المياه كوسيلة في تلك الحروب. فقد لجأ الدكتاتور المقبور، بالاضافة للبطش العسكري والارهاب السياسي ضد السكان، وذلك باتخاذ قرارات سياسية وعسكرية بتجفيف منطقة الاهوار بغرض افقار السكان وتهجيرهم من اماكنهم الاصلية، مما ادى الى تحطيم الخصائص البيئية للمنطقة، وانتشار التملح، والتغدق، وتغيير نوعية الغطاء النباتي، وقلة انتاجية الارض، وتردي نوعية المياه في شط العرب، وتلويث قنوات البصرة الشهيرة، وغيرها من مظاهر تلك الكارثة التي تعصف بسكان الجنوب منذ اكثر من عقدين من الزمان.
ان الملف المائي العراقي ملف شائك، وهو يصبح اكثر تعقيدا مع مرور الزمن. فلم يعد ممكنا حصول العراق على ماكان يحصل عليه من الموارد المائية قبل عام 1970، لأن ذلك لن يحصل الا بازالة السدود التي انشأتها دول الجوار، وهو امر مستحيل، ولذلك لم يتبق للعراق الا طريق التفاوض الذي يمكن ان يفضي الى التوصل الى قسمة عادلة لمياه الرافدين اذا توفرت الارادة السياسية وحسن النية، بحيث يحصل العراق على حصلة منصفة من الموارد المائية.
اما الوسيلة الثانية فهي تطبيق مقاربة جديدة وجذرية لادارة المياه والشروع بالمراجعة الشاملة للموازنة المائية في العراق في ضوء المعطيات المناخية والهيدرولوجية السائدة الآن، واعادة النظر بالمشاريع المائية المصممة والمنفذة وفق معطيات قديمة، وخاصة مشاريع الاستصلاح، والمنشآت الكبيرة، وبما يعيد الاعتبار للبيئة العراقية ويضمن حماية التنوع البيولوجي، وبخاصة الاستمرار في انعاش الأهوار العراقية، وتدوير المياه المستخدمة، وغير ذلك مما يجب ان يكون جزءا اساسيا من سعي العراق الى التكيف مع التغير المناخي وذلك بهدف تحييد اثاره المميتة على القطاعين المائي والزراعي.
فبالاضافة الى الضرورة القصوى لتحقيق اتفاقية عادلة للمياه المشتركة مع دول الجوار فإن الادارة الناجحة للموارد المائية في العراق تتحقق في السعي لحفظ حقوق المواطنين كافة من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب في الحصول على المياه بنفس النوعية والكمية للاستخدامات المختلفة، وهذا يتطلب وجود اليات وقوانين تضمن هذه الحقوق، اضافة الى وضع اتجاهات استغلال وادارة المياه وفق افق تخطيطي طويل الامد، وتمكين الوزارات القطاعية المعنية من أنجاز دورها بشكل تكاملي ومنسق وفق منهجية وطنية واضحة.
من الضروري ايضا ان تعيد المؤسسات والوزارات التي تعنى بقطاع المياه، ادارة او استخداما، ان تعيد النظر بخططها السنوية وتلجأ الى اكثر الوسائل كفاءة في الحفاظ على الموارد المائية وحمايتها من التلوث، والابتعاد عن الطرق التقليدية بالارواء واللجوء الى الانظمة الاروائية المغلقة والزراعة الحافظة.
وبالاضافة الى ذلك يجب ابتكار آليات ووسائل يمكنها ان تمثل الضمانة الاساسية للاستخدام الامثل للمياه، ومنها على سبيل المثال تأسيس مجلس وطني للمياه يقوم بالاشراف على اصلاح القطاع المائي ويقديم الدعم والمشورة للحكومة ويحدد اتجاهات التنمية والاستثمار والادارة الستراتيجية للموارد المائية، ضمن افق زمني طويل كأن يكون منتصف القرن الحالي.
من المفترض ان يتمتع المجلس المذكور بسلطات قادرة على ضمان تنمية قطاع المياه بما يتناسب مع المصلحة العليا للعراق على المدى الستراتيجي البعيد، وتطبيق برنامج تنمية متكامل للقطاع المائي، اي ان ترصد له ميزانية مناسبة يمكنه بها تمويل المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي، يعمل من خلالها مع الوزارات المعنية لتنفيذ الاهداف الوطنية في القطاع المائي، ويبعده عن ثقل المهام التشغيلية اليومية او الموسمية التي تنفذها وزارة الموارد المائية ووزارة البلديات والاشغال العامة وأمانة العاصمة او وزارة الزراعة وغيرها من المؤسسات العامة المعنية.
اولويات المجلس الوطني للمياه:
لابد للمجلس الوطني للمياه ان يكون داعما لا معرقلا لعمل الوزارات، ويجب ان لايكون حلقة بيروقراطية اضافية تسهم في التلكؤ في انجاز المشاريع، أو فرض الوصاية عليها، الا اذا ثبت تعارض تلك المشاريع مع المصلحة الوطنية العليا. واذا ما اريد تحديد اولويات المجلس الوطني فيمكن ادراج مايلي في سلم الاولويات:
الاشراف على، والقيام باصلاح القطاع المائي وفق المصلحة الوطنية على المدى الاستراتيجي.
ضمان تنمية القطاع المائي بما يضمن العدالة بين جميع مناطق العراق وعبر الاجيال ووفق مبدأ مركزية ادارة الموارد المائية ولامركزية ادارة المؤسسات التنفيذية المعنية بتقديم خدمات المياه سواء للزراعة او الشرب او المرافق الصحية والبلدية وغيرها.
تحديد اسس التفاوض مع الدول المتشاطئة والحفاظ على الحقوق العادلة للعراق بمياه الرافدين.
تحديد اتجاهات الاستثمار والتطوير في القطاع المائي عبر العقود القادمة وفق مقتضيات المصلحة الوطنية وبما يحفظ التنوع الاحيائي ويعزز الاراضي الرطبة والاهوار.
تحديد شروط استغلال المياه بصورة مستديمة وبما يضمن اكبر فائدة اقتصادية ممكنة مع المحافظة على المورد.
تطوير كفاءة وانتاجية قطاعات المياه والفلاحة ومياه الشرب والمرافق الصحية والسياحية والمسطحات المائية .
دعم الوزارات والمؤسسات التي تنشط في استخدامات المياه للاغراض المختلفة ونشر اسس التنمية المستديمة.
نشر الوعي البيئي واحترام الخصائص الطبيعية للموارد المائية في الاوساط التعليمية والمجتمعية ومنع التلويث المتعمد.
دعم مؤسسات البحث العلمي لتطوير اقتصاديات الماء وتشجيع انخراط ممثلي المجتمع المدني في القرارات المتعلقة باستخدام الموارد المائية.
10.معالجة اثار التغير المناخي على قطاع الموارد المائية وتشجيع البرامج والمشاريع الهادفة الى التكيف مع الشروط الجديدة التي يفرضها الاحترار المناخي.
جريدة الصباح البغدادية 2/5/2013
http://alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=457
30/5/1307
https://telegram.me/buratha