بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
توطئة:يتشكل الوعي في ذهنية الأفراد والمجتمعات كموقف وجودي وإنساني عبر تراكم معرفي تبعاً لمعايير أخلاقية وعقلية تتشكل كنتاج لحركة المجتمع، مما يعبر عن خواص الأمة وكينونتها، ولعل المرتكز الاساسي هو التطور التكاملي للوعي الجمعي يكمن في التناسب الطردي مع حدود المعايير، فكلما أرتفعت مستويات الوعي كلما إرتفعت المعايير وصولاً إلى التكامل المطلق وهو مستحيل في عالم الوجود، لان التقدم المعرفي سيوازيه تنامي المعايير وهكذا.هذا المنهج مهم جداً في تطوير أشكال متنوعة من الوعي الفردي والجمعي، وبالتالي سيكون مهماً في حركة الأمة وصيرورتها. فبينما تلبس الامة عباءة تاريخها المثقل بالحوادث، يفسر بعض مؤرخيها هذا النكوص بالتفسير السلبي لحركة التاريخ. غير ان الواقع لا يتعلق كلياَ بتفسير حركة التاريخ بقدر تعلقة بالتاريخ ذاته.فالمسلمين الأوائل في بداية تاريخهم لم يكن مطلوباً منهم إلا الشهادة بان (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وهذا الامر قضية تشريعية تتعلق بمستويات الوعي الفردي والجمعي للمجتمع الاسلامي في بدايات حركته نحو التكامل الواعي. فالكثير من المسلمين ماتوا وقتها وهم لا يملكون في سجلهم التاريخي إلا هذا الموقف، وهو موقف واعي يتناسب وحدود ذهنية الأمة بما تملكة من وعي عقائدي وتشريعي في حدود تلك المرحلة، وهو اقصى ما كان يمثل تكليفاً شرعياً للأفراد في ذلك العصر.البعد الفكري:إذا آمنا بالتراكم الإيجابي في تشكيل المعرفة فإن ذلك أن نحجز رؤيتنا المعرفية في قوالب محددة لأن قيمة المعرفة تكمن في شموليتها وإحاطتها بمجمل العلاقات التكوينية والوجودية والتشريعية على السواء. وهذا يعني أن نحرر الفكر من قيود الرجال، فالخضوع الكلي لأفكار وطروحات عدد محصور من الرجال أو (السلف) يضعف المنظور القيمي والمفاهيمي للقرآن.فحين قام عدد من الصحابة بتبني موقف سياسي قبال الموقف التشريعي فإنهم أسسوا لمنهج يقوم على إتباع الرجال لا يختلف عن الرؤية الماضوية لاتباع الفكر السلفي في كل العصور والتي أشار إليها القرآن الكريم: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾. (1)فالاسلام ككل الرسالات الالهية يؤسس لواقع حضاري ذو رؤية مستقبلية لا تقبل بالجمود أو الإنكفاء، فمثلا تكمن القيمة الحقيقية للشريعة الاسلامية بإعتبارها محررة للعقل الإنساني لإرتباطها بالله، ومع ذلك فكونها قيم ومعايير إليهة لا يعني جمودها في موقف محدد بل هي تتعامل مع الإنسان في كل ظروفه وحركاته، وبالتالي يصبح من المهم بل من المنطقي ان يكون الفقيه عالماً بعدد كبير من المعارف والعلوم، مما يتيح له رؤية حيوية للقضايا على إختلاف اشكالها وتباين أعراضها، ومن هنا فإن الإجتهاد الحقيقي الذي يخضع للمعايير الهية يشكل وعياً موضوعياً وعقلانيا بحقيقة الشريعة وغائيتها.وعي الامة وصناعة المستقبل:ليست الأمة مجرد جمع عددي للأفراد بقدر ما هي تراكم معرفي للعقول والانفس والامزجة والعادات والأعراف، وهي تمثل مساحة واسعة في الوجود الإنساني، فالعلماء والعباقرة والحكماء يصطفون إلى جانب البسطاء وأشباه المتعلمين في تشكيل ذلك التباين الكمّي في مستويات الوعي، هذا التباين يحدد ملامح الامة وقدرتها على تحقيق صيرورتها في التفاعل مع حركة التاريخ، ولعل من مميزات الامة الاسلامية هو مستويات وعيها بالقضية التاريخية من خلال منظور علاقتها بالمثل العليا، فكلما أدركت الامة قيمة علاقتها بامثل العليا كلما تمكنت من وضع ملامح حركتها المستقبلية.من الإشكاليات القديمة والمعاصرة هي محاولة حصر مفهوم الامة بالمنظور القبلي العشائري، إذ ان الموقف الحضاري للامة يقع خارج الإطار القبلي، وقد إرتكب العديد من المؤرخين المسلمين وغيرهم خطأ جسيما بتقسيم المساحة التاريخية للتاريخ الاسلامي إلى حقب قومية، ظهرت ملامحها مباشرة منذ النصف الاول للقرن الاول الهجري. فتم تقسيم التاريخ إلى مرحلة أو حقبة أموية وأخرى عباسية وغيرها، وقد أثرت هذه النزعة في التأسيس للفكر القومي العربي الذي لا يمكن أن يشكل رؤية أيديولوجية لعناصر التقدم.فالتحضر عملية واعية لا يمكن للفكر القومي أن يقودها أو أن يشكل إطارها الايديولوجي، ونحن نلاحظ كيف ان كل الدول التي تبنت الفكر القومي بقيت تراوح في مسار مغلق وإنها من أجل تعويض فشلها خاضت حروباً في الداخل والخارج دون أن تتمكن من فرض هيمنتها القومية. مما يعني أن الموقف القومي يتخذ مسارا معاكساً لحركة التاريخ، فدول الخليج التي صارت غنية بالبترول حديثاً لم تتمكن من تقديم عناصر حضارية معاصرة بل بقيت في ملامح عصر البداوة، إذ إن الإستغراق في الفكر العشائري بل العائلي بقي عائقا أمام التقدم، لان التقدم لا يعني بناء منشئأت حديثة وثراء مادي بل التقدم يلاحظ من هي العقول وراء هذه الثروات وكل هذه العقول مستوردة من الخارج. التقدم يعني الفكر والفلسفة والعلوم المحضة وهذه لا توفرها النظرية القومية. هنا نلاحظ الرؤية القرآنية الداعية إلى التمازج الحضاري الذي هو عنوان التقدم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ . (2) فالقيم الحضارية لاتعني الخضوع للآخر ولكن التعاطي الموضوعي والعقلي للجوانب الايجابية في كل حضارة مما يشكل زخماً في الوعي الجمعي يسير نحو التقدم متجاوزاً المثل السلبية والقيم المنحطة التي قد تتصف بها بعض الحضارات أو أغلبها.من هنا تصبح صيرورة الامة متعلقة بمستويات وعيها بتاريخها وهو تاريخ مرتبط بالتعالي لان العلاقة بين الأمة والله هي بالاصل علاقة تعبدية وهذه العلاقة لاتنحصر بالبعد القومي ولا بالأيديولوجيا المادية، فالشمولية الاسلامية تتجاوز هذه الرؤية العشائرية الضيقة أو المادية الوضعية التي لا تستوعب الجانب الروحي الأكثر إتساعاً.صناعة الأزمة:كي ندرك معنى أن تعيش الامة أزمة معاصرة يجب ان ندرك أن التخبط الحالي للدول التي تتبنى المنظور الاسلامي هو ليس نتاج لأزمة التطور التكنولوجي في الغرب ومحاولة الدول الأخرى اللحاق بها، ولا هي أزمة سوء فهم هؤلاء للتكنلوجيا، لان الغرب نفسه يعيش سلسلة من الأزمات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو يحاول الإنفلات من إطار الازمات بخلق أزمات مضادة خارج حدوده. وهذا يعني انه لا يمكن للحضارة الغربية أن تقود الامم لانها هي الأخرى تعاني من أزمة إنقطاعها عن التعالي وإبتعادها عن المثل العليا.فحروب الولايات المتحدة في كوريا وفيتنام وأمريكا اللاتينية وأفغانستان والعراق تعبر عن تلاشي حقيقي للقيم الإنسانية مما يعني أن الايديولجية الغربية لا تملك معايير السلطة الكونية وبالتالي هي تتصرف بذات الأسلوب القبلي البدوي حين يصبح العناد والثأر اهم عناصر السلطة.وهذا يعني أن الأزمة التي يعاني منها الفكر الغربي هي أزمة العلاقة بين الأنموذج وإلانسان، فالإعلام الغربي يبحث عن هذا الإنموذج من خلال الإنسان السوبرمان دون ان يتمكن من أن يحققه على أرض الواقع فيلجأ للعنف والقتل والتدمير، معتبراً القوة إنموذجاً يسعى لتحقيقه، وهو يتجاهل أن القوة ليست محصورة في الفكر الغربي بل أن أي إنسان يمكن أن يمتلك هذه القوة وعندها ستختل المعادلة، فبعد قنبلتي هيروشيما وناغازاكي حاولت الولايات المتحدة الأحتفاظ بالتقدم العلمي لكنها فشلت في ضوء التطور اللامتناهي للمعرفة، ثم حاولت حصر القوة في الغرب، ففشلت لان الشرق حصل عليها، وعندما ظهرت الجمهورية الاسلامية كقوة نووية وفكرية معاصرة أصابت الفكر الغربي هستيريا الهيمنة وحاولت منع إيران من التقدم العلمي. فالفكر الغربي يعاني من قضية الأنموذج التي طرحها الفكر الديني ممثلا بالانبياء والرسل والأوصياء والأئمة وهؤلاء كلهم نماذج ذات قيم معرفية عليا وتصلح ان تكون قيادات كونية يفتقر الفكر الغربي لها.في الخاتمة لابد لهذه الأمة أن تستعيد وعيها بتاريخها وبالمثل العليا، لابد لها أن تثق بالغيب وأن حركة التاريخ تسير نحو غاياتها، فالامة حين تعي صيرورتها فإنها تتجاوز الأزمة لتحقق ذاتها عبر العقل والتنامي المعرفي في علاقتها بالخالق........................1- الزخرف: 22.2- الحجرات: 13.
أ.د. وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukالمملكة المتحدة - لندن28 نيسان 2013م
https://telegram.me/buratha