مقدمة
منذ فترة ليست بالقصيرة كثر الحديث والجدل والمطالبات في الصحف ووسائل الاعلام حول ضرورة حماية الانتاج الصناعي والزراعي ووضع حد لتدفق البضائع والسلع الرديئة والرخيصة وغير المطابقة للمواصفات. وأخيراً صدر قانون التعرفة الجمركية رقم 22 لسنة 2010 والذي فرض رسوماً تراوحت بين الصفر والـ 80% على مجموعة من السلع المستوردة، حيث بلغت النسبة 5% على الرز والسكر و 80% على المشروبات الكحولية والمياه المعدنية و 15% على السيارات الخ. وقد انبرى الكثيرون بالكلام والتعليق وابداء الآراء. فمنهم من هاجم القانون بشدة على اعتبار انه سوف يؤدي الى رفع اسعار السلع في السوق الداخلي وبالتالي يلحق الضرر بالمستهلكين وخاصة ذوي الدخل المحدود والمتوسط. وهناك من ايد بحرارة ( وهم قلة) صدور القانون واعتبره اجراء مستحق منذ زمن طويل من اجل تشجيع ودعم الانتاج الوطني وتحريك عجلة النشاط الاقتصادي ومعالجة حالة الاختلال الهيكلي في الاقتصاد العراقي والبطالة الواسعة. ويبدو ان صوت الآراء المعارضة للقانون والمتمثل بالمصالح التجارية والجماعات السياسية كان اقوى واكثر تأثيراً مما دفع بالحكومة الى تعليق تطبيق القانون الى أجل غير مسمى.
في هذه المقالة سوف نحاول مناقشة العديد من الجوانب المتعلقة بالقانون مثل الحاجة الى صدور قانون يحمي ويشجع الصناعة الوطنية، والآثار الايجابية والسلبية لمثل هذا القانون وكذلك الاجراءات المطلوبة لوضع مثل هذا القانون لكي يكون فعالاً في تحقيق الاهداف المرجوة منه في ضوء واقع الصناعة المتردية في البلد واخيراً الموقف المطلوب أزاء قانون حماية الانتاج الوطني.
خلفية الوضع الحالي للصناعة العراقية
لا شك ان القطاع الصناعي، شأنه شأن بقية القطاعات الاقتصادية الاخرى تعرض لانتكاسات وضربات موجعة عبر العقود الثلاثة الماضية من جراء الحروب العبثية والمتكررة والحصار الاقتصادي الظالم والعدوان الامريكي ومن ثم الاحتلال وأسقاط النظام الاستبدادي الظالم وما اعقبه من تدمير وخراب وسلب ونهب للمصانع والمؤسسات الاقتصادية. ثم جاء قرار سلطة الاحتلال المؤقتة الذي قضى بأسم حرية التجارة بفتح الحدود على مصراعيها لاستيراد كل انواع البضائع والسلع دون ضوابط ورقابة وبدون فرض رسوم جمركية ( بأستثناء ال 5% كرسم اعادة اعمار العراق). وقد ادى ذلك الى اغراق الاسواق العراقية بكل انواع السلع الرديئة والرخيصة مما دفع بمن تبقى من مصانع قادرة على العمل والانتاج الى مواجهة منافسة غير متكافئة بسبب ارتفاع تكاليف انتاجها وأسعارها بالمقارنة مع المنتجات الاجنبية المستوردة وذلك من جراء التضخم النقدي أو بالاحرى ظاهرة الركود التضخمي السائدة وارتفاع اسعار مستلزمات الانتاج وتكاليف النقل وعدم توفر الطاقة الكهربائية اللازمة للأنتاج والوقود وكذلك ارتفاع مستوى الاجور.
وبطبيعة الحال فأن مثل هذا الوضع يتطلب من الحكومة العمل على معالجة جميع المشكلات والمعوقات التي تواجه الانتاج الصناعي وكذلك تقديم مختلف انواع الدعم والرعاية والحماية واعادة تأهيل المصانع والبنية التحتية وتقديم التمويل الميسر وكافة مستلزمات العمل والانتاج.
حاجة الصناعة للحماية والدعم والتشجيع
ونظراً للحالة المزرية التي آلت اليها الصناعة العراقية والناجمة عن العوامل المذكورة أعلاه فقد تدهورت كل عوامل القوة فيها من عوامل فنية وتكنولوجية وأدارية وأنعكس كل ذلك على ارتفاع تكاليف انتاجها الامر الذي جعلها في وضع لا نستطيع منافسة السلع الاجنبية المستوردة من الخارج مما يدفعها الى تحمل خسائر مالية والاضطرار الى اغلاق العديد من المصانع وتسريح العمال. وفي نفس الوقت فأن الصناعات والمنتجات الاجنبية تحصل على مختلف انواع الدعم المالي والفني والخدماتي للمصدرين الى السوق العراقية وخاصة ما تقوم به الحكومة الايرانية من دعم للمصدرين الى السوق العراقي.
وعليه فأذا اريد عودة النشاط الصناعي المحلي فلا بد من معالجة كل اسباب التدهور الذي تعاني منه المصانع المحلية ابتداء من تأهيل ما يمكن تأهيله من مصانع وتأهيل البنية التحتية وتقديم التمويل الميسر والقروض لاستيراد المكائن والمعدات والمساهمة في تدريب العاملين وتوفير مختلف الخدمات وفي مقدمتها الكهرباء اضافة الى توفير الحماية والدعم للمنتجات العراقية لكي تستطيع مواجهة المنافسة الاجنبية غير المتكافئة للأنتاج المحلي.
تأثير الحماية على الانتاج الوطني:
بموجب الاطار النظري الاقتصادي للحماية فأن الرسوم الجمركية هي بمثابة ضريبة تفرض على المنتجات الاجنبية المستوردة والمنافسة للأنتاج المحلي وذلك تحقيقاً لمجموعة من الاهداف والتي تشمل : توفير مورد مالي لخزينة الدولة، وتقليص استهلاك بعض السلع لاسباب صحية أو اجتماعية، وحماية الأنتاج المحلي من تأثير المنافسة الاجنبية غير المتكافئة. وبقدر تعلق الامر بحماية الانتاج المحلي وتشجيعه على النمو والتطور وتحقيق مستويات مقبولة من الارباح فأن الرسوم المفروضة على المنتجات المستوردة تؤدي الى أرتفاع اسعار هذه السلع وكذلك السلع المنتجة محلياً في السوق الداخلي بمقدار الضريبة المفروضة، الامر الذي يمكن المنتج المحلي الذي يعاني عادة من تكاليف انتاجية مرتفعة ان يستطيع تغطية هذه التكاليف المرتفعة وتحقيق ارباح تمكنه من الاستمرار في الانتاج والتوسع واستغلال طاقاته الانتاجية القائمة. وعليه فأن تأثير فرض الرسوم على المستوردات يؤدي الى ارتفاع اسعار المنتجات المتمتعة بالحماية في السوق الداخلية ويمكّنها من تصريف انتاجها. واذا ما استطاعت الصناعات المحلية من استغلال فترة الحماية لتطوير انتاجها وتخفيض تكاليفها الانتاجية فأنها تستطيع بعد ذلك الاستمرار في العمل حتى بعد البدء بتخفيض مستوى الرسوم الجمركية أو الغائها كلياً مع القدرة على المنافسة مع المنتجات الاجنبية من دون الحاجة الى استمرار الحماية. ومن هنا فأن التكلفة الاقتصادية التي يتحملها الاقتصاد الوطني والمستهلك من جراء فرض الحماية يقابلها النمو والتطور والتوسع الذي يمكن ان يحصل في الصناعة المحلية والذي يمثل المنفعة الاجتماعية التي توفرها الحماية للصناعة وللاقتصاد الوطني وللمستهلك ايضاً من جراء أنخفاض الاسعار بعد انقضاء فترة الحماية الجمركية.
وفي الوقت الذي تفرض الدول المجاورة للعراق رسوماً جمركية على مستورداتها بنسب تتراوح من 18- 20 بالمائة فأن العراق لحد هذه اللحظة يفرض فقط نسبة الـ 5% على السلع الداخلة الامر الذي يمنح السلع الداخلة الى العراق ميزة نسبية ومعاملة تفضيلية على السلع المحلية المنافسة ويجعلها في وضع غير قادرة على المنافسة، وقد تتم ازاحتها من السوق في ظل هذه الاوضاع الصعبة التي تعيشها الصناعة المحلية، بما في ذلك من خسائر مالية كبيرة يتحملها الاقتصاد الوطني. وفي هذا الصدد تشير تقارير لمنظمات غير حكومية معنية بالجانب الاقتصادي بأن العراق خسر خلال السنوات (2006 – 2010) أكثر من 180 مليار دولار بسبب اعتماده على البضائع المستوردة نتيجة لتراجع صناعته المحلية ( جريدة المدى البغدادية ليوم 10/2/2011 العدد 2039). وهناك أمثلة كثيرة على صناعات يتم ازاحتها من السوق المحلي وتكاد تنقرض ومنها صناعة منتجات الفافون وصناعة الملابس الجاهزة وصناعة الطابوق والقائمة تطول.
الموقف الحالي من القانون
من حيث المبدأ فأن الوضع الاقتصادي السيء في العراق والاختلال الهيكلي السائد والوضع المتردي والصعب للأنتاج الصناعي والزراعي المحليين يستدعي من الدولة تقديم كل اشكال الرعاية والدعم والحماية. الا انه وبدلاً من ذلك تستمر عملية اغراق السوق العراقية بمختلف انواع السلع الصناعية والزراعية الامر الذي يؤدي الى استمرار حالة التدهور والهدر وضياع فرص التنمية وأمكانية أستغلال الموارد النفطية الناضبة. لهذا لا بد من التوجه نحو أصدار تشريعات تحمي وتشجع الانتاج المحلي وتقديم كل ما يمكن تقديمه من مستلزمات وخدمات وبنى تحتية. ومنذ عام 2003 ولحد الآن لم تتحرك الحكومة بشكل جدي في هذا الاتجاه وأخيراً جاء قانون التعرفة الجمركية متأخراً جداً وكما يقال في المثل العراقي( بعد خراب البصرة). ومع ذلك بأن يأتي متأخراً خيراً من ان لا يأتي أبداً. والموقف الحالي يتمثل بعدد من الملاحظات التي ندرجها ادناه:-
يبدو ان القانون قد وضع على عجل ودون ان يستند على تحليلات اقتصادية تفصيلية تحدد مستوى الحماية اللازم لكل سلعة على حدة في ضوء مقارنة لتكاليف انتاج واسعار السلع المحلية والسلع الاجنبية المنافسة لها في السوق الداخلي. واذا اريد للحماية ان تكون فعالة وتخدم الغرض الحمائي يجب ان تكون بالقدر والمستوى الذي يلغي فرق السعر بين السلعتين المحلية والاجنبية حتى لا تكون السلعة الاجنبية مفضلة من حيث السعر على السلعة المحلية. اي ان تكون نسبة الرسم الجمركي تكفي لتغطية تكلفة انتاج السلعة المحلية وتمكن من تصريف الانتاج المحلي وتحقيق الربح وهذا ما يعرف بـ( Made to Measure tariff) اي ان الرسم مفصل على قدر احتياج السلعة المحلية للحماية.
اضافة الى ما سبق وحتى يكون القانون مفيداً ويحقق الغرض الحمائي منه يجب ان يرافق صدور القانون جملة من الاجراءات تشمل تهيئة البنية التحتية للقطاع من النواحي المادية والفنية والتكنولوجية واعادة هيكلة المنشآت الانتاجية في القطاع العام وضمن القطاع الخاص. ومعلوم ان غالبية المنشآت الصناعية العامة متوقفة عن العمل لاسباب تم ذكرها. أما القطاع الخاص فأنه هو الآخر يعاني من القصور والضعف ونقص التمويل والانقطاع عن العالم الخارجي منذ فترة طويلة فنياً وتكنولوجياً ويعاني من ضعف القدرة التنافسية حتى مع منتجات البلدان المجاورة. ولهذا فأن فرض الرسوم الجمركية على المستوردات لوحدة لا يكفي لكي يجعل الصناعة العراقية في وضع يمكنها من الاستفادة القصوى والفعالة من الرسوم. وعليه يجب ان يرافق القانون جملة من الاجراءات التي تخدم الانتاج المحلي من خلال تقديم خدمات للنشاط الصناعي وغيرها كي تستطيع الحماية من ان تلعب دورها في تحريك عجلة الانتاج الصناعي. وما يقال عن الانتاج الصناعي ينطبق في جزء كبير منه على الانتاج الزراعي.
ولا بد من الاشارة الى ان العراق حالياً وهو يستورد الكثير من السلع والمواد الغذائية والسلع الرأسمالية والاستهلاكية ولهذا فأن تطبيق قانون التعرفة الجمركية لا بد وان يساهم في رفع تكاليف المعيشة للمواطن ويضعف القدرة الشرائية له من خلال ارتفاع اسعار السلع في السوق المحلية وبالتالي يؤثر سلباً على مستوى الرفاهية الاقتصادية وخاصة لاصحاب الدخول المحدودة. كما ان الرسوم الجمركية سوف تساهم أيضاً في رفع تكاليف الانتاج المحلي وبالتالي تضعف القدرة التنافسية لهذه المنتجات وهذه تتدرج في اطار الآثار السلبية للقانون والذي ينبغي ان تؤخذ في الاعتبار.
ونظراً لصدور قرار الحكومة بتعليق تطبيق القانون الى أشعار آخر فمن الضروري استغلال هذه الفترة من اجل دراسة جدوى القانون وتأثيراته الايجابية والسلبية على السلع المنوي حمايتها وعلى المستهلك والاقتصاد الوطني من خلال دراسة علمية وتفصيلية يتم بموجبها تحديد معدلات رسوم تتناسب مع حاجة كل سلعة أو مجموعة سلعية لتحقيق الحماية المطلوبة وحتى لا تكون نسب التعرفة اعتباطية لا تؤدي الى تحقيق الهدف الحمائي الاساسي منها بل تعمل على رفع اسعار السلع في السوق المحلية.
وأخيراً لا بد من الاشارة الى ان الحماية تتضمن تكلفة يتحملها المستهلك والاقتصاد الوطني وذلك مقابل المنفعة المتوقعة من جراء تمكين الصناعة الوطنية من تراكم الخبرة والمعرفة وتحقيق التطور المطلوب وتخفيض تكاليف الانتاج الناجمة عن ارتفاع الانتاجية وذلك لكي يتم فيما بعد من تخفيض ومن ثم الغاء هذه الرسوم عندما تصبح الصناعة الوطنية قادرة على المنافسة دون الحاجة الى هذه الرسوم وعندها يتحقق الهدف النهائي من الحماية وهو فرصة لتطوير ونمو الصناعة الوطنية. واذا لم تستطع الصناعة الوطنية من استغلال فترة الحماية لرفع مستوى انتاجيتها وتطوير النوعية والجودة وتوسيع الانتاج واستغلال طاقاتها الانتاجية القائمة فأن الاقتصاد الوطني والمستهلكين يتحملون تكلفة الحماية من دون تحقيق المنافع المرجوة منها وبالتالي تكون الحماية عبئاً على الاقتصاد وعلى المستهلك.
* خبير اقتصادي واكاديمي
7/5/13428
https://telegram.me/buratha