القسم الاول : ثروة العراق المالية :بين نمط الاستهلاك الراهن والتصدع في الحواضن الاقتصادية الاقليمية
يتعايش الاقتصاد العراقي بين مفارقتين اقتصاديتين هما نتاج الاقتصاد السياسي للحرب والحصار على مدى اكثر من ثلاثة عقود . فالاولى : وهي ولادة نمط تجاري استهلاكي يلبي متطلبات اقتصاد الحرب او الحصار او كليهما عبر خلق سلسلة وسطاء تجاريين اقليميين آلت الى امتصاص فوائض مالية مهمة في تحصيل سلع وخدمات يوفرها المنشأ الوسيط في الغالب ، مما جعل ثمة تجذر تجاري ومصالح مشتركة وروابط قوية تقود السوق العراقية نحو اسواق الاقليم . والمفارقة الاخرى : وهي المفارقة اللصيقة بعوائد النفط وارتباطها بسلوك الموازنة العامة التي تحولت من نمط استهلاكي حربي يختلط فيه الدم بالخبز عبر العقود الماضية الى نمط استهلاكي جديد يختلط فيه الخبز مع تدهور الكفاية الاقتصادية ومصادرة التنمية الحقيقية للبلاد في اتجاهات غامضة ارتهن فيها الاقتصاد العراقي في نهاياته في التجارة الاستهلاكية والتطورات الاقليمية كما يحصل في الوقت الحاضر وهو ارث لـم تستطع البلاد مغادرته في معادلة الاقتصاد السياسي للحرب والحصار .
ولـم يخلو نموذج التوزيع العادل الذي مالت اليه السياسة المالية في العراق التي تمثل مرتكز الحياة الاقتصادية ومحاور توجهاتها ولاسيما منذ العام 2003 عندما احتضنت في اجمالياتها واخلاقياتها قرابة نصف قوة العمل العراقية ولكن في وظائف طغى عليها الطابع الخدمي شبه المنتج الذي مولته ايرادات النفط عالية القيمة لكي تتحول في الغالب الى مدفوعات اجرية ومساعدات واعانات تحت شتى العناوين ضعيفة الانتاجية واطئة المردود لم تبتعد عن نزعاتها الاستهلاكية التي اشتدت لتعويض حرمان الماضي وبنيت على قيم ومنتجات استهلاكية جديدة في محاكاة عالية لمنتجات اسواق العولمة والتي انسجمت في الوقت نفسه واعادة بناء الطبقة الوسطى (الوظيفية) وبناء طرازات استهلاكية وانماط معيشة تحاكي النزعات الاستهلاكية المستحدثة او المحدثة وبشكل لم يسبق له نظير في التاريخ الاستهلاكي للعراق .
فسياسة الباب المفتوح على مصراعيها وضعف الضوابط والقياسات للسيطرة على هذه السياسة طوال اكثر من ثمان سنوات كانت المنفذ الاسرع لتلبية طراز الحياة الاستهلاكي الجديد ومستوى المعيشة الناشئ الذي غادر ظاهرة فضيلة الادخار والتوجه نحو الصرف والاسراف الاستهلاكي ، واذا كانت هناك فضيلة فتوجهت نحو الادخار في الخارج والاستثمار الريعي ذات الصفات التجارية او العقارية في سلسلة استنزاف لم تنته تحت ذريعة الحرية الاقتصادية وسياسة الباب المفتوح .
لقد اتاحت العولمة الاقتصادية تجاه العراق في نهاياتها واتصالاتها بالاقتصاد الوطني توافر سلع كثيفة التدفق سريعة الاستهلاك مشكوكة الجودة لابد لها ان تمر من بوابة المنشأ التجاري الاقليمي الوسيط وفي حدود تبتدأ من نهايات شواطئ الخليج وحتى غرب الاناضول ولاتخرج عن هذه الحاضنة التجارية الوسيطة .
ولدت سلسلة التجارة الوسيطة داخل الاقليم المحيط بالعراق كظاهرة طبيعية لاقتصاد الحرب والحصار صاحبها وسط تجاري يتعايش على الاقتصاد العراقي ويرتبط بطبقة تجارية محلية تتفاعل مع الطبقة الوسيطة الاقليمية وظيفتها الاساسية تدوير الاموال الوطنية لتمويل التجارة او استثمارها وتوظيفها من خلال المسالك التجارية وسلسلة الوساطة التجارية الاقليمية وقت ماتشاء واينما تشاء بحيث اصبح المال العراقي وفوائض البلاد المالية التي هي بحوزة السوق المحلية مرتهنة بالوسطاء التجاريين الاقليميين والسياسات التجارية الاقليمية .
ولم تكن السياسة النقدية للعراق ، التي هي اليوم امام امتحان مصاحب للموديل الاقتصادي العراقي الاستهلاكي الاستنزافي في منآى عن تلك المصادر التجارية الاقليمية وسياساتها التي وجدت في تدخل السلطة النقدية وفلسفتها للحفاظ على الاستقرار الكلي والاستقرار النقدي خصوصاً بعيدة عن الثوابت التي ولدتها مفارقات السياستين التجارية والمالية ذات النمط الاستهلاكي ( الذي ارتبط بطراز معيشة عبرت عنه سلوكيات الطبقة الوسطى العراقية التي تمثل اليوم اكثر من 60% من التكوين الاسري للبلاد ) بعيدة عن الثوابت التي ولدتها الاتجاهات التوزيعية الاستهلاكية للموازنة العامة ، حيث استحالت المالية العامة سياسة تدخل البنك المركزي في سوق النقد لفرض الاستقرار لتصب في خدمة طراز الحياة ومستوى المعيشة شديد العولمة منجذب الى الخارج تاركة وراءها فكر تنموي فاتر لايرغب احد في قراءته ومدفون في دفاتر ومذكرات الوسط الاقتصادي الاكاديمي والرسمي دون فعل يُذكر أو يرقد في رفوف سوق البطالة العالية التي تبحث عن فرصة عمل لتلتحق بموديل محاكاة النمط الاستهلاكي للطبقة الوسطى ليس الا .
فعندما امسى تدخل السلطة النقدية في سوق النقد المحلية للسيطرة على مناسيب السيولة الفائضة التي ولدها الانفاق الهائل للموازنة العامة ( كقوة طلب اضافية لاتتناسب مع مقادير الانتاج الوطني وانعدام سياسة التنمية والاهتمام في خلق الطبقة الوسطى وبناء طرازات معيشة شديدة الاستهلاك ) عبر حركة وقوة ميزان المدفوعات النفطي ( البوابة الناشطة في استكمال حلقة الاقتصاد الاستهلاكي ) فقد انتهت سياسات تدخل البنك المركزي في سوق النقد لسحب السيولة الفائضة او ( تعقيمها ) لتأخذ حصة من احتياطيات البنك المركزي بالعملة الاجنبية لتمول السلوك الاستهلاكي المرتبط بالسلسلة التجارية الاقليمية بشكل اساس ، اذ ظلت التحويلات المالية للتجارة الخارجية للقطاع الخاص التي تمثل الحلقة النهائية لسياسة تدخل البنك المركزي في سوق النقد والتصدي لمناسيب السيولة من خلال بيع العملة الاجنبية تشهد تحويلاتها تركزاً في مصارف او بنوك الدول الاقليمية ، اذ تستحوذ دولة واحدة مجاورة للعراق نسبة 80% من تلك التحويلات لوحدها بعد ان امسى الوسط التجاري العراقي وشركاته توابع للوسط التجاري الاقليمي وهيمنته في توزيع تلك الفوائض المغذية لتجارة الاستيرادات الاستهلاكية او الاستحواذ على الفوائض المرافقة او الادخار الخارجي الذي أُدغم تحت غطاء هذه المسالك التجارية شديدة الاستقطاب في الاقتصاد الاقليمي والتي افرزت بنيتها انحرافات العقود الثلاث الماضية .
فسياسة تدخل البنك المركزي في سوق النقد لفرض الاستقرار في سعر صرف الدينار العراقي اصبحت مرتبطة بشدة التركز التجاري الخارجي للقطاع التجاري الخاص وفي نطاق التوليد التجاري الاقليمي حتى وان كانت المناشئ التجارية للبضائع الموردة من اطراف العالم ونهاياته .
وبهذا ، فان التجارة الاقليمية باتت المصدر المولد للقيمة المضافة وتحويل الفوائض من السوق الوطنية الى السوق الاقليمية ترافقها جالية تجارية عراقية مقيمة واسعة تتعايش مع تلك المسالك التجارية الاقليمية وادوات فاعلة وفعالة في تحويل الفوائض والاحتياطيات التي تتعاظم مع مستوى احتياجات اسواق تلك البلدان اليها عبر منفذ سياسة الباب المفتوح والحرية الاقتصادية للعراق المتجهة الى الخارج والمنكفئة نحو الداخل لتغادر التنمية لتوليد القيمة المضافة حيث تستوطن خارج الحدود .
فالمرتكزات التجارية الاقليمية وهيمنتها على الموديل الاقتصادي الاستهلاكي الراهن في العراق هي القوة المركزية التي تنفرد في تحريك فوائض البلاد وتجفيفها او تسييرها وفق احتياجات الاوضاع الاقتصادية الاقليمية لتنسحب حركة هذا الموديل لتساير المجريات الاقتصادية ومتطلباتها على حساب اوضاع السوق المحلية واستقرارها ونمائها لأن الغاية الرئيسة هي توليد الربح وتعظيم القيمة المضافة والفائض الاقتصادي عبر الحدود ، اذ يعد النموذج في اعلاه من النماذج المستنزفة لمستقبل البلاد الاقتصادي .
اخذت فوائض البلاد المالية تتحرك بانسجام وتوافق شديدين مع الاوضاع الاقليمية والتصرفات التجارية لدول الجوار او الاقليم على نحو اوسع . ولايخفى ان هناك اربع اقتصادات مهمة اقليمية تتشكل عليها ثلثي الحركة التجارية للقطاع الخاص كما عبرنا عن ذلك سالفاً وتعد في الوقت نفسه المرتكزات المهمة في السيطرة التجارية وتوزيع وتقاسم فوائض الاقتصاد العراقي الى حد ما بينها وفق درجة علاقاتها مع العالم الخارجي ومجريات الاوضاع الاقتصادية لبلدانها . اذ يلحظ ان نشاط السوق الوطنية واتجاهاتها اخذت تتحرك مع تحرك تلك الاقتصادات سلباً وايجاباً ويؤشر ذلك شدة الطلب على العملة الاجنبية او تحريك الطلب الاستهلاكي وانماطه بالداخل بارادة الاسواق الاقليمية او الخارجية .
وبهذا ، فان تداخلا تجارياً مهماً بين الوسط التجاري الوطني والوسط التجاري الاقليمي لايمكن تفكيكه حالاً في اطار معادلة شديدة التداخل وقوية التعقيد . فالاخفاقات الاقتصادية والتضرر الحاصل في اقتصاديات دول الجوار سواء بازماتها الاقتصادية الداخلية كما حدث في دولة الامارات العربية والركود الحاصل فيها ( دبي والامارات الصغيرة الاخرى على وجه التحديد ) ومايتعرض اليه الاقتصاد التركي من انكماش عال يتمثل ببطالة عالية وتدهور في قيمة العملة التركية ، فضلا عن التدهور الصارخ في الاقتصادين السوري والايراني الشريكان القويان للعراق بسبب العقوبات المالية والاقتصادية والسياسية الدولية عليهما والتي باتت واضحة للقاصي والداني والتي القت بضلالها على حركة التجارة الوطنية مع تلك البلدان والتقلبات الشديدة في سبل تمويلها والتي انعكست بشدة على المركز العراقي المالي الممول لتجارة القطاع الخاص واعني مزاد العملة الاجنبية للبنك المركزي العراقي .
فاحتياجات تلك الاقتصادات ( اقتصادات الازمة ) , والتي تمسك بتجارة العراق الخارجية ذات الطبيعة الاقليمية , الى مصادر العملة الاجنبية ( او الدولار تحديداً الذي يغطي حاليا 83% من التعاملات التجارية في العالم ) فاقت في مكنوناتها واتجاهاتها مجرد تمويل تجارة العراق الاستهلاكية ، بل اخذت تتطلع الى تحصيل وامتصاص عن طريق الاقتراض او جذب التحويلات او الادخارات نحو الخارج بصورة قوية تتناسب وشدة الاضطرابات الاقتصادية الحاصلة في تلك الاقتصادات على اختلاف طبيعتها عبر تسخير واستخدام المسالك التجارية التقليدية الاقليمية التي لها القدرة والمرونة في اقتطاع قدر عالي من الفوائض المتاحة في السوق العراقية بالعملة الاجنبية .
لما تقدم ، فان بلادنا امام امتحان عسير راهن لم يسبق له مثيل في مجاورته اقتصاديات الاقليم المحاصرة او المتدهورة اقتصادياً والذي صُمم موديله الاقتصادي على حركة الاقتصادات الاقليمية في ظل الحرية الاقتصادية والانفتاح المحدود نحو الخارج عبر سياسات الباب المفتوح التي وفرها تخفيف الفصل السابع على العراق والتي اصبحت نافذة غير مكتملة لحرية الانفتاح وتسمح بتصدير ازمات المنطقة الى الاقتصاد العراقي وتعريض فائضه المالي الى النهب او تجفيف مصادر تراكم الاحتياطي الاجنبي السائل للعراق عبر ظاهرتين هما :
الاولى : تكريس التجارة الاقليمية بانحرافات سعرية وكمية غير محدودة الاتجاهات وخلق فرص ربح تدفع باستيرادات تفوق حاجة السوق المحلية ، مما يعني ثمة امكانية على تدوير السلع بين العراق ومناطق الاقليم وتدوير الفائض المالي العراقي عبر هذه الحركة الاقليمية وتحويل التاجر العراقي الى لاعب تجاري ومالي وسيط شريطة تأدية دوره في تحصيل العملة الاجنبية من مزاد البنك المركزي العراقي بأي ثمن وتحت اي ذريعة بما فيها هدر الاستقرار الاقتصادي للعراق وتجفيف موارده المالية .
والاخرى: خلق مصالح غير تجارية عبر الممرات التجارية الاقليمية الحرة مع العراق جاذبة في دول الاقليم وتأسيس مصالح مالية من خلال تدوير الفائض النقدي الاجنبي للعراق وتحويله من سيولة محلية الى سيولة اجنبية ليجري توظيفها في دول الاقليم حسب درجة استقرارها او ظروفها الاستثنائية الجاذبة ، ولاسيما النشاطات العقارية او الاندماج مع الشركات الوسيطة الاقليمية المتاجرة مع العراق .
لاتخرج جميع الظواهر في اعلاه عن التشكيل التجاري الاستهلاكي للعراق وآلياته المرتبط بطراز المعيشة ونمط الحياة الذي اسسته الموازنة المالية للبلاد عبر فلسفة توزيعية شديدة الرفاهية عالية في مثلها ضعيفة جدا في مستقبلها ونتائجها والتي تؤدي وظيفتين كما ذكرنا سالفاً تصبان في تعزيز النمط الاستهلاكي الفائق في العراق الذي يصاحبه تعظيم امتصاص الفائض الذي تولده الموازنة العامة على موازنة الاسرة العراقية وسحب القدرات الادخارية الوطنية ، فضلاً عن ادغام الادخارات المحلية في مسالك التجارة الخارجية وفي نشاط تجاري شبه وهمي او مغالى في اسعاره لتوظيفه في دول الاقليم .
وهكذا، لم تبنى الظواهر في اعلاه بعيداً عن الظروف الموضوعية المحلية التي تحيط باقتصاد بلادنا والتي على رأسها توافر اقتصاد مالي قوي ومتين ضعيف الارتباط في النشاط الانمائي قوي الارتباط بالنشاط التجاري الاستهلاكي . وعلى هذا الاساس ، غذت هذه العلاقة حواضن النشاط التجاري الضاغط من القوى الاقتصادية الاقليمية وسحب القطاع المالي الوطني العراقي نحو خدمة الظروف الجديدة واحتياجات التمويل لتلك الاقتصادات وبنسب متفاوتة .
ان السوق الوطني العراقي التي تبحث عن فرص الربح والاطمئنان امست منجذبة في مغريات خارج حاضنتها الوطنية بسبب الموديل الاستهلاكي الطارد للفائض لتبحث في الحواضن التقليدية الاقليمية بحوافز جديدة جسدتها ظاهرة التكالب على الاستيراد الاستهلاكي باسعار وكميات لايقوى الاقتصاد العراقي على استيعابها ولكن تستطيع استيعاب الفائض المالي للعراق وتحويله في حواضنه الاقليمية الاكثر جذباً . وهو الامر الذي اشره المركز المالي للعراق المتمثل بهجومات العملة currency attacks التي تعرض اليها مزاد الدولار للبنك المركزي العراقي منذ الربع الاخير من العام الماضي وحتى الوقت الحاضر ، مما يفسر الانعكاسات التجارية الراهنة التي مازالت تعمل بالضد من تطور الاقتصاد العراقي والتطلع الى التنمية فيه باتجاهين :
أ - ترسيخ الاستهلاك ونمطه في العراق وتفكيك منظومة النشاط الاقتصادي الوطني وفضيلة التنمية إزاء فضيلة الاستهلاك وتحويل البلاد الى مجرد شركة صرافة !!!
ب - تحويل الفائض الاقتصادي الكامن او الادخار لاعادة رسمه خارج النشاط الاقتصادي للبلاد عبر بوابات التجارة الحرة بما يوفر آليات سريعة لتجفيف مصادر العملة الاجنبية والاستحواذ عليها دون السماح لها في تعظيم القيمة المضافة داخل العراق وعدها وسائل سهلة التوظيف والانتقال الى السوق الاقليمية . فالدولار يمتلك الحرية القوية بالتأكيد على الحركة والجاذبية العالية لينقلب بموجبــه الدينار الوطني محدود الحركة وتحويله من حقوق محلية الى حقوق اجنبية عالية الحركــة .
ختاماً .. هذه حقيقة اقتصادنا ومكنونات الحرية الاقتصادية في بلاد تتعايش على ريوع النفط هاجسها الاستهلاك العالي محلياً والادخار والاستثمار خارجياً . ماهو السبيـــــــــل ؟
القسم الثاني : المعادلة الضائعة في الاقتصاد العراقي :
من يحسم التناقض بين اقتصاد الدولة وهيمنة السوق الحر ؟
لم يكن لظاهرة التدهور في معدلات سعر صرف الدينار العراقي في الاشهر الاخيرة بعد انتهاء ربيع الاستقرار الذي عاشته البلاد على مدى السنوات الماضية امراً منقطعاً عن مسبباته وطبيعة ومنهجية النظام الاقتصادي في العراق . فالتركيبة الراهنة التي لاتخفى على القاصي والداني من ان هذا الاقتصاد الشديد الريعية يعمل على محورين متناقضين اولهما : اقتصاد دولة يهيمن على 80% من الناتج المحلي الاجمالي او توليد الدخل الوطني ناهيك عن مسؤوليته المباشرة في توريد 99% من التدفقات الداخلة الى البلاد من النقد الاجنبي التي يرتبط الاصدار النقدي للبنك المركزي العراقي والنقد الاساس ارتباطا مباشراً بحركة تلك التدفقات . والنقيض الاخر : وهو اقتصاد السوق الذي يمتلك الجزئية الاقتصادية والفعالية الاكبر في الادارة غير المباشرة لنتائج اقتصاد الدولة التي تعكسها الموازنة العامة عبر نفقاتها الهائلة التي تشكل نسبة 60% من اجمالي الانفاق الكلي ، وان السوق باتت منفردة في التدفقات الخارجة من البلاد للنقد الاجنبي وتستحوذ على حقوق رئيسة ومهمة من القوة الشرائية بالدينار العراقي وتمتلك الرغبة في الحصول على العملة الاجنبية من تراكمات البنك المركزي من احتياطياته بالنقد الاجنبي التي هي غطاء لتلك الحقوق .
ففي معادلة هيمنة السوق الحر واطلاق حرية التحويل الخارجي واستخدام سياسة الباب المفتوح في التجارة الخارجية للقطاع الخاص مع غياب رؤية مهمة لاستراتيجية التطور والتنمية والنهوض بالواقع الاقتصادي ، فقد تحول الاقتصاد الى ثنائية شديدة من الريعية في توريد العملة الاجنبية الى التجارة الخارجية وتمويل تجارة الاستيراد ذات الطابع الاستهلاكي البحت وفسح المجال عن فرص الربح والاستثمار الامثل في الاقتصادات الخارجية وجعل العراق حاضنة للاستهلاك وتجميع الثروات وتصديرها الى حواضن اقتصادية خارج البلاد .
كان البنك المركزي العراقي يعمل في هذه المعادلة الضائعة ويمارس سياسة مسك العصا من الوسط لتحقيق التوازن بين تناقضين الاول : اقتصاد الدولة ومسايرته لهذا الاقتصاد الريعي الكبير والاخر : مجاراة السوق الحر ، وهي سوق باهتة تخدم النشاط التسويقي الداخلي وحركة الاموال نحو الخارج بغض النظر عن النتائج المرجوة في بناء انموذج اقتصادي يولد حركة تدفقات داخلة وخارجة بالعملة الاجنبية بمنآى عن هذه الثنائية او الاستقطاب الشديد بين اقتصادين مختلفين ( الدولة والسوق ) وبين تدفقين ( تدفقات بالعملة الاجنبية داخلة يوفرها اقتصاد الدولة و تدفقات خارجة من تلك العملة يستميل عليها القطاع الخاص باتجاه واحد خارج الحدود دون النظر الى الخلف )
هل السياسة النقدية للبنك المركزي قادرة على تغيير بوصلة التناقض ؟
مارس البنك المركزي العراقي كما نوهنا سياسة تدخل في سوق الصرف لم يتسع المجال للدخول في آلياتها النقدية لبلوغ مستوى مستقر في سعر صرف الدينار العراقي في محاولة كانت ناجحة في اختبار ادواته للتصدي للتوقعات التضخمية منطلقاً من مفهوم ان السياسات النقدية العصرية هي السياسات التي تحسم فن ادارة التوقعات . وعلى هذا الاساس تنعمت السوق الوطنية باسعار صرف مستقرة واستقرار في المستوى العام للاسعار وهبوط التضخم الى المرتبة العشرية الواحدة بعد ان بلغت معدلاته مراحل عالية، فضلا عن ارتفاع احتياطيات البنك المركزي من النقد الاجنبي الى المرتبتين العشريتين من حيث القيمة الدولارية وهي الاعلى في تاريخ البلاد . ولكن لم يستطع البنك المركزي من حسم التناقض بين اقتصاد السوق وتطلعاته وفردانيته باتجاه الربح إزاء تطلع اقتصاد الدولة وفردانيتها في البحث عن الربح الاجتماعي وهي تفتقر للرؤية الاقتصادية لحركة النظام الاقتصادي في العراق . فهكذا معادلة معقدة وضائعة جعلت الاقتصاد الوطني والبحث عن حلول له بمثابة سفينة اقتصادية بلا ربان ، فتدهور سعر صرف الدينار العراقي هو ليس نتاج ضعف في القطاع المالي للدولة ( المالية العامة والبنك المركزي ) ولكن هو نتاج لمن يحسم الصراع ويمسك بدفة الربان وبأي اتجاه في مياه الاقتصاد العراقي المندفعة نحو مصباتها خارج الحدود ؟؟؟
ان التوجه نحو الحرية الاقتصادية طوال المدة الماضية ومبادلة الحقوق الممسوكة بالدينار وتعويضها بالعملة الاجنبية وتحقيق الاستقرار لكون الدينار العراقي مغطى تماما بالعملة الاجنبية وعلى وفق الآلية الريعية التي ولد فيها اقتصاد الدولة الدينار العراقي وارتباط ذلك بفوائض ارتبطت بثلاث موازنات هي : فائض في ميزان المدفوعات تهيمن عليه الدولة بعوائد النفط وعوائد الموازنة العامة التي ترتب انفاق بالدينار العراقي لمصلحة السوق وتولد في الوقت نفسه احتياطيات او غطاء بالعملة الاجنبية عن الاصدار النقدي الناجم عنها وتصب في الميزانية العمومية للبنك المركزي. وبهذا فأن التزامات متقابلة بالدينار العراقي تعد قيدا يفرضه السوق على تلك الموازنة العمومية للبنك المركزي جراء تحقق الانفاق في الموازنة العامة على ادوات السياسة النقدية واهدافها التشغيلية ،كقوة طلب يولدها السوق ينبغي مكافئتها بعرض كلي تفتقر اليه قاعدة الانتاج ، مما فرض عبئا مستمرا على السياسة النقدية للبنك المركزي للتدخل اليومي وبيع الدولار للحفاظ على استقرار القيمتين الداخلية والخارجية للدينار ( ونقصد بالخارجية هنا سعر صرف الدينار العراقي) .
ان مفترق الطرق بات بحاجة ماسة الى قوة قرار يوضح الخطوط العامة للاقتصاد العراقي اما ان يؤمن ايماناً كاملاً ان الانتقال الى الحرية الاقتصادية وسياسة الباب المفتوح وتحمل الاستنزاف الحاصل في عوائد النفط وتدفق الموارد الاجنبية العابرة للحدود لضمان رفاهية الفرد واطمئنانه واستقراره (طالما ان منهج التنمية واستقرار مناخاتها حالة متعثرة في العراق والسير بالسفينة امسى مع التيار وحتى يأذن الله امراً لتتغير حالة السوق الوطنية والسلوك الفردي عن طريق خلق تدفقات داخلة من الاستثمارات والاموال مقابل التدفقات الخارجة). وهذا امر تقرره القيادة السياسية للبلاد ولايقرره البنك المركزي في نظام اقتصادي لم تكتمل معالمه واتجاهته وآيديولوجياته طالما الحديث يدور عن تحويل مبلغ 180 مليار دولار بين الاعوام 2003 ومطلع 2012 وهي حقوق لحاملي الدينار ولدها اقتصاد الدولة بالدرجة الاساس بعد انفاقه مبلغ 450 مليار دولار عبر الموازنات العامة للمدة نفسها وانتفع منها الازدهار الاقتصادي الاستهلاكي الهش والادخار الخارجي ولم ينتفع منه اقتصاد التنمية لغياب منهج التنمية ومناخاتها الجاذبة في بلد يتعايش على موارد النفط ،مستهلكوها هم في الداخل ومدخروها يتطلعون بها نحو الخارج
سياسات انصاف الحلول هل تستعيد التوازن في سوق الصرف ؟
تعيش البلاد حالياً بنظام معدلات لسعر صرف الدينار العراقي الى الدولار يسمى بنظام السعرين Dual وهو أمـر ابتدأ مع شدة الصراع والتناقض بين مفهوم اقتصاد الدولة والدفاع عن آليات ومبادئ اقتصاد السوق الحر خالي من اية ضوابط في حركة الاموال .
ومالم تحسم الرؤية الاقتصادية لهذا التناقض اليوم قبل الغد ، وتطلق آليات السوق الحر كما ترغبها القوى الاقتصادية الناشئة بعد العام 2003 ، فان نتائج الاستقرار الاقتصادي ستستمر مبهمة وستجعل البلاد تتعايش على اضطراب اسواق صرف موازية رمادية او سوداء الى امـدٍ غير معلوم في نتائجه وربما ستكون وخيمة في استقرار الاسعار ومستوى المعيشة وتشكل هواجس يومية مؤلمة في الحياة الاقتصادية للاسر العراقية وعموم النشاط الاقتصادي .
وعليه ، فان الدروس والعبر تقتضي صياغة المعادلة الاقتصادية بعد فقدان واحدة من ثوابتها وهو اما الايمان باقتصاد الدولة التدخلية وتحمل مركزياتها بمختلف درجات الشد فيها او الايمان بالحرية الاقتصادية وفق الآليات التي تعايش عليها العراق في العقد الاخير بغض النظر عن نتائجها الكارثية وانعدام رؤاها في احداث تنمية حقيقية تذكر من اجل تأسيس مستقبل لاقتصاد السوق الوطنية واندماجها باسواق العالم الحقيقية الاستثمارية و الماليـة وغيرها لقاء استقرار وازدهار في حياة بعض شرائح الناس وتحمل تضحية عالية من استنزاف في احتياطيات التنمية المعطلة واستمرار اشكال من البطالة كما نشهدها حاليا او الدخول في عقد جديد لاقتصاد الدولة يبنى على تدخل واسع صوب احداث تنمية كبرى تكون القيادة الاقتصادية لمؤسسة الدولة لبناء اقتصاد حداثة واستخدام واسع النطاق وبنية تحتية واعدة شريطة تحمل معدلات من التضخم والحرمان من لوازم استهلاكية وترفيهية مهمة ناجمة عن اغلاق الباب التجاري المفتوح لتمثل جميعها تضحية من نوع آخر في طراز الحياة ينبغي على المجتمع تحملها !
34/5/13411
https://telegram.me/buratha