لاشك أن أرض بلاد الرافدين قد شكلت أقدم وأهم المراكز الحضارية من أوروك ولارسا والسلالات التي حكمت المدن السومرية والأكادية حيث تم استعمال اللغة الأكادية إلى جانب السومرية في التدوين، ثم بعد ذلك الحضارة البابلية التي أنتجت التراث البابلي العريق، حيث شكلت القوانين أهم مميزات العصر كما في مسلة حمورابي. فالتحول الحضاري عبر أكثر من سبعة آلاف عام من حركة التاريخ وانتقال هذا التحول إلى أرقى مفاهيم العمارة والآداب والفنون في العصور الإسلامية المختلفة، قد وضع العراق على الدوام كأول وأهم مصادر التراث الإنساني ولا يخفى أن تتابع الممالك والإمبراطوريات ونشوء المدن كان يعني على الدوام أن ثمة إنسان يمثل عقل الإنسانية ككل استطاع أن يحقق هذا الانتصار الحضاري. ومن هنا يمكن أن نكتشف كيف أن التتابع الحضاري قد خلق له أعداء في المقابل. فالفتوحات الأكادية والبابلية قد أوجدت أعداء على مر التاريخ وأنصب العداء على الإنسان العراقي الذي لم يتوقف عن حركة الإبداع.
ومن جانب آخر فإن عملية سرقة ونهب الآثار وتدمير التراث ليست حالة جديدة، فكل البعثات الآثارية التي نقبت في العراق لعبت هذا الدور، وتشهد على ذلك صناديق البعثات الإيطالية والألمانية والإنكليزية والفرنسية المخزونة في مخازن المتحف، وكل منها يحمل أرقامًا متحفية (كود) خاصةً بها.
تدمير التراث الشيعي
ثم لا يمكن تجاهل الطابع المذهبي في تدمير وسرقة التراث الديني للعراق، وخاصة التراث الشيعي الذي قامت به الحركة الوهابية خلال المائتي سنة الأخيرة، من سطو على كربلاء المقدسة أكثر من مرة ونهب محتويات الحضرة الشريفة، وفعلوا نفس الشيء في النجف الأشرف، وحاولوا الشيء نفسه في الكاظمية وسامراء لولا بعد المسافة وشدة المراقبة.
ولقد ألقي هنا في لندن عدد من المحاضرات حول تدمير الآثار الإسلامية في مكة والمدينة، إضافة إلى محاضراتي التي ألقيتها على إثر تفجير المرقد العسكري في سامراء المقدسة، كما أني أرسلت ملفًّا من أكثر من خمسين صفحة إلى اليونسكو حيث طالبت اعتبار المراقد المقدسة محمية دوليًّا وضمن اتفاقية حماية الآثار وأيضًا أرسلت في سنة 2007 ملفًّا إلى الأمين العام للأمم المتحدة (بان كيمون) حول نفس الموضوع. من جانب آخر سعيت شخصيًّا لاستعادة كل من مدينة بابل ومدينة الحضر مكانتهما الآثارية في ملفات اليونسكو بعد أن تم استبعادهما من اعتبارهما إرثًا أثريًّا نتيجة للأعمال والإضافات التي طرأت عليهما وفق قرارات الطاغية، حيث إن كل هذه الترميمات لم تتم وفق المعايير الدولية مما أفقدهما مكانتهما، مع ملاحظة أن مدينة بابل تعتبر أقدم مدينة في التاريخ البشري، وأقدم عاصمة ورد اسمها في الكتب المقدسة، كما أني تعرضت لتهديدات من الحركة الوهابية بعد كشف جرائمها أمام الناس، وخاصة جريمة البقيع التي تكتمتْ عليها الحركة الوهابية وأرادت من العالم أن ينسى هذه الجريمة البشعة.
لاشك أن بحدود ( 12 ألف) موقع أثري يشكل عبئًا كبيرًا على الدولة، ولكنه في نفس الوقت يمثل سجلًّا لتاريخ الإنسانية يجب إيجاد قوانين وضوابط لصيانته، فاسترجاع (2466) قطعة يشكل حيِّزًا صغيرًا من حجم التراث المنهوب (170 الف) قطعة أثرية أصبحت في حكم المفقودة، كما صرح به زملاؤنا في العراق، فهل سيبقى الحال على ما هو عليه من نهب لحضارة وادي الرافدين؟
عصر الدمار
لم يكن عصر صدام عصرًا للدمار السياسي والانكفاء العلمي، بل كان بحق عصر الدمار التاريخي والحضاري للعراق، فصدام بشخصيته الازدواجية وذهنيته الانفصامية حاول التماهي مع الشخصيات التاريخية لإرضاء نرجسيته وخاصة في فترة الحرب العراقية الايرانية بإطلاق شعارات تقول من حمورابي إلى صدام أو من نبوخذ نصر إلى صدام، مستغلًا رموزا تاريخية لإضفاء قيمة إلى خلفيته الجوفاء، ولهذا نجد أن هذه المرحلة شهدت بداية نهب وتزوير التراث الحضاري لتاريخ العراق، فقد بدأت عملية تخريب منهجية قادها صدام نفسه وأفراد عائلته تمثلت بعدد من الوقائع:
أولًا: منذ أواسط الثمانينيات حدثت عمليات تخريب متعمدة في مدينة بابل الأثرية لتحضيرها لمهرجانات بابل الفنية وقد تم نهب الكثير من القطع الأثرية تحت أعين الخبراء فتم الترميم باستعمال الطابوق العراقي (الجمهوري)، ووضع صدام اسمه في نجمة ثمانية خلال حملة عرفت وقتها باسم ( من نبو خذ نصر إلى صدام.. بابل تنهض من جديد) مما أدى إلى فقدان هذه المدينة البابلية العريقة أصالتها التاريخية وقيمتها الآثارية فقررت منظمة اليونسكو اعتبار بابل مدينة سياحية وليست تاريخية بعد أن فقدت قيمتها الأصلية ولم يتكلم أحد خوفًا من النظام.
ثانيًا: بين عامي 1988- 1989 تم العبث بالموقع الأثري لحصن الأخيضر (محافظة كربلاء) باستخدام مادة (الجص) في عملية لتحضير كموقع للاحتفالات الوطنية في تجاهل متعمد لقيمة الموقع الاثري وأهميته التاريخية، وهي عملية لم يقمبها خبراء الاثار ولم تتبع المعايير الدولية في الصيانة والترميم كوثيقة فينيسيا(Chart of Venice) مما أضر بالقيمة التاريخية والآثارية للموقع وأصبح مجرد موقع سياحي.
ثالثًا: في سنة 1989 طلب مجلس قيادة الثورة من مديرية الآثار العامة استعارة كنزر الملكة (شبعاد) التي عثر عليها الباحث الآثاري (Wooly ) سنة 1933 المقابر الملكية القبر رقم (800) والذي يعود إلى بداية عصر السلالات في (أور)، لتظهر به بعد ذلك زوجة صدام (ساجدة خير الله) وهي ترتدي هذا الكنز الأثري في حادثة غريبة ومثيرة للتساؤل حيث تم التصرف بشأن تاريخي يخص الإنسانية دون وجه حق.
رابعًا: سنة 1989 تعرف العراقيون لأول مرة على كنز نمرود الذي يحوي (1000) الف قطعة ذهبية من التيجان والورود والحجارة الكريمة والتي تعود إلى الألف الثامن قبل الميلاد والذي يعتبر أحد أكبر واهم الاكتشافات خلال المائة سنة الماضية، هذا الكنز الذي عرض مرة واحدى اختفى بعد أن وضع عديّ يده عليه فتم بيعه في سوق الاثار المهربة بعد أن كان قد خزن في البنك المركزي وكان عدي من الذين أشاعوا فكرة نبش المواقع الأثارية القديمة وبيعها لسد حاجاتهم الخاصة.
خامسًا: في بداية التسعينيات باع أرشد ياسين (صهر صدام) نسخة من التوراة إلى إسرائيل كانت قد كتبت على جلد غزال وقد قبض ثمنها مليون دولار كما نشرت صحيفة (يديعوت أحرونوت) وقتها متفاخرة بحصولها على النسخة التي عرفت هناك باسم النسخة البابلية. وكان أرشد حلقة الوصل بين تجار الآثار في العراق والخارج وقد سطا أيضًا على الكثير من المخطوطات الإسلامية لعصور مختلفة.
سادسًا: قبل سقوط النظام بالشهر أي في بداية سنة (2003) أعلنت منظمة امريكية تعني بدراسة التراث الشرقي: " إن العراق سيتعرض لحملة دولية تعيد ترتيب الخارطة الحضارية للعراق وفق أسس جديدة لمصلحة دولة شرقية أخرى " ، ومر الخبر بدون ملاحظة أحد لنجد أن التراث العراقي ينهب فعلًا وتحت أعين الأمريكيين وأن أكثر من 65% من القطع الأثرية قد بيعت في الأسواق الإسرائيلية.
عصر الاحتلال الأمريكي
لاشك أن المهتمين بالتاريخ من علماء واختصاصيين وأكاديميين لن ينسوا أبدًا، ولن تمحى من ذاكرتهم رؤية الدبابة الأمريكية وهي تقتحم بوابة المتحف العراقي لتعلن بداية عصر نهب التاريخ مرة ثانية في العصر الحديث، وفي كل هذه لا يمكن استبعاد إسرائيل من عمليات النهب والسطو المنظمة عبر خبرائها المختصين بالتاريخ اليهودي في العراق وتاريخ بابل بالذات. فالفكر اليهودي لم ينسَ ما قام به الملك الأكادي (سرجون الثاني) (722 - 705 ق.م) في فتوحاته لمدينة السامرة سنة (721 ق.م)، وأيضًا لايمكن لهم نسيان الغزو البابلي لليهود على يد الملك البابلي (نبوخذ نصر) (604 - 562 ق.م ) وسقوط مملكة يهوذا على يديه وهذا يفسر اختفاء قطع أثرية كبيرة وجداريات تعود للمرحلتين المذكورتين، وكلها تمت على يد خبراء حيث إن عملية نقلها وإخراجها من المتحف بعد أن فصلت عن أماكنها قد تمت بيد خبيرة . وهنا تجدر الإشارة إلى اعتراف وزير السياحة والآثار العراقي الأستاذ (محمد عباس العريبي) حيث نقل أن رئيس الوزراء المالكي أمر بالتحقيق في تهريب (300) مخطوطة يهودية عراقية تاريخية إلى إسرائيل وكانت المخطوطات قد نقلت من العراق إلى الولايات المتحدة وهذا ما أكده مدير المركز الوطني العراقي للمخطوطات (عبدالله حامد) كما نقلته إذاعة الـ BBC وكان النائب العمالي الإسرائيلي السابق (مردوخاي بن بورات) وهو من يهود العراق قد قال: " أن المخطوطات قد اشتريناها في حزيران/2003 من لصوص.
ووفقًا لما أوردته صحيفة (هآرتس): " فإن من بين الأعمال الثمينة المكتوبة بالعبرية تعليق لسفر أيوب نشر في (سنة) 1487 وجزء من كتاب الأنبياء نشر في البندقية (سنة) 1617
وفي متابعتنا الخاصة للتدمير الفكري والتاريخي والنفسي والإنساني المتعمد الذي أحدثه الاحتلال الأمريكي للعراق، فإن قضية الآثار ستكون إحدى قضايا ملف التدمير حيث طال الدمار كل مرافق التراث العراقي، فإضافة إلى سرقة الآثار والنهب المستمر للحضارة العراقية الثرية فإن التدمير قد طال أيضا الاداب والفنون حيث اختفت الآف القطع الفنية من لوحات و منحوتات وقطع سيراميك ومخطوطات عراقية تعود للثلاثمائة سنة الماضية وتظهر هنا في لندن في أسواق التحف وفي المزادات الخاصة الكثيرة في شارع (بوند ستريت) بعض هذه القطع أصلية ولكن مع الأسف فإن أسعارها العالية لاتمكننا من شرائها وإعادتها للعراق ونحن نقوم بعمل شخصي بحت.
كما وجدنا قطعًا أصلية بيعت بأسعار النسخ المقلدة خوفًا من الافتضاح ولعدم وجود وثائق لها، حملة منظمة لنهب التراث وتغيير خارطة تاريخ العراق القديم، تقف مافيا الآثار مبهورة أمام هذه الفرصة التاريخية لنهب وتدمير الإرث التاريخي والفكري العراقي الذي تطور عبر أكثر من سبعة آلف عام من عمر الإنسانية، فالحضارات العراقية القديمة تمكنت من إسقاط معظم الحضارات الأخرى المعاصرة لها والتي ظهرت في مراحل تاريخية متعددة. في سنة 2005 قال لي أحد أساتذة التاريخ في جامعة لندن أثناء محاورة تاريخية جرت بيننا: " إن حضارة وادي الرافدين قد خلقت لها على الدوام أعداء من الذين خسروا وتراجعوا أمام عبقريتها ". وسمعت نفس المفهوم من أستاذي السابق في جامعة أدنبرة. فعبقرية أبناء الرافدين كانت موضع حسد وكراهية من الآخرين وإلا فلماذا لم تتعرض حضارات أخرى لمثل هذا النهب الذي تعرض له المتحف العراقي الذي يمثل سجل العراق التاريخي. فخلال الحرب العالمية الثانية لم يتعرض (اللوفر) الفرنس لمثل هذا النهب مع أن باريس سقطت بيد المحور! ولم يتعرض متحف (برلين) هو الآخر للنهب بعد أن سقطت بسقوط الرايخ الثالث الذي سجل نهاية عصر هتلر. فالتعمد في نهب العراق واضح ولكن هل سنجد من يسمع؟ أم إن الأمور ستجري كما تعودنا من تراكم الإهمــال وإقصاء المعرفـة.
1/5/13321
https://telegram.me/buratha