بين 2003 و2011 بلغت صادرات العراق من النفط الخام 354.655 مليار دولار كان منها 307.973 مليار دولار او (87 %) تقريباً قد تحقق خلال فترة حكومتي السيد نوري المالكي 2006-2011[1]. وفي الشهور السبعة الاولى من عامنا الحالي، بلغ حجم الصادرات النفطية هذه 52.87 مليار دولار اخرى.[2] واذا ما اسقطنا إتجاه ارقام الصادرات النفطية لهذه الاشهر السبعة الى نهاية العام الحالي، فسيكون العراق قد صدًر ما لا يقل عن 90 مليار دولار لكل العام 2012 والاحتمال الاقوى هو رقم صادرات نفطية يزيد بشكل ملحوظ عن ذلك. ويتوقع تحقق هذه 90 مليار دولار بسبب الصعود المتوقع للصادرات النفطية بعد جولات التراخيص، وذلك إن لم يؤدي التزايد بالعرض العالمي من البترول الى انهيار ملحوظ باسعاره. لقد تحققت جُلُ هذه التدفقات من العملات الاجنبية الوفيرة في ظل حكومتين للمحاصصة السياسية رأسهما المالكي منذ ايار 2006، فحوالي 360 مليار قد تحققت بين 2006 وتموز 2012 وبنهاية 2012 يتوقع بلوغ الصادرات النفطية التراكمية إعتباراً من 2006 ما لا يقل عن 397 مليار دولار وهو مبلغ ضخم من العملات الاجنبية الاجمالية لم يتحقق لاية حكومة عراقية اخرى خلال أية فترة زمنية مماثلة. ونتيجة الحروب الخاسرة للنظام البائد، فسيتسرب من هذا المبلغ حوالي 20 مليار هي ال 5 % التي يستقطعها صندوق تعويضات الكويت عن احتلالها من قِبَلِه. بالتالي, فإن ما سيصبح بتصرف الحكومتين المشار إليهما سيكون قريباً من 377 مليار دولار بعد إقتطاع نفقات إنتاج ونقل النفط وذلك إن لم نحتسب التدفقات النقدية للمساعدات الاجنبية والتي نعتقد انها قد تضاءلت بمرور الزمن.
في ظل التوقعات المتفائلة للحكومة الحالية لارتفاع عائدات النفط مستقبلاً، والتي اشار اليها رئيس مجلس الوزراء إبان حضوره جلسة مجلس النواب الخاصة بمناقشة مشروع البنى التحتية، يأتي طرح الدولة لضرورة اللجوء الى الاقتراض بالآجل لإعمار بُنى العراق التحتية المهدمة غير واضح الابعاد. وهذه الورقة لا تجادل ابداً في ضرورة إعادة إعمار البنى التحتية فذلك بالغ الضرورة والحكومة الحالية قد بادرت بطرحها لهذه الاولوية لإعمار ما دُمٍر في مناطق العراق المختلفة عبر سنوات الحروب والفوضى الامنية والحظر الدولي. و كانت الفرص متاحة عبر عدة سنوات مضت لاستخدام نسب اكبر من النسب الهزيلة التي خُصصت بالموازنات العامة للانفاق الاستثماري في إعادة بناء الكثير من البنى التحتية وبتمويل من عوائد البترول المتزايدة مع صادرات النفط (عدا عام 2009 حيث انخفضت قيمة هذه الصادرات بحوالي الثلث)، والتي اشرنا لحجمها التقريبي اعلاه. إن ما حصل فعلاً،و للاسف الشديد، هو تخصيص معظم موارد هذه الموازنات للانفاق الجاري في حين أُبقيت الكثير من البنى التحتية في درجة واطئة ضمن سلم اولويات الإنفاق الحكومي خارج قطاعي النفط والكهرباء. وقد حصل ذلك نتيجة التوسع السريع بالإنفاق الحكومي الجاري في حين بقي الانفاق الاستثماري لبناء هذه البنى التحتية مهمًشاً ودون تفسير مُقْنِعْ إلا غياب السياسات التنموية وهزال اجهزة المشورة الإقتصادية للدولة والتي من مهامها الاولى إبداء الرأي السليم وإعداد الدراسات لمجلس الوزراء ووزارة المالية حول كيفية صياغة هذه السياسات بصيغ واستراتيجيات تنموية. وكان لإنهماك القيادات السياسية للحكومة بترسيخ البنيان السياسي الجديد، والذي إرتأت أن يكون اولاً عبر التوسع السريع للتوظيف الحكومي وبشكل خاص توسيع التوظيف في اجهزة الجيش والشرطة، أثر بالغ في إمتصاص موارد الدولة المالية بذلك الاتجاه الذي أبعد تخصيص الموارد المالية عن التركيز على إعادة إعمار البنى التحتية وما يرتبط بها من إنفاق تنموي.ولما كان التوسع السريع بالإنفاق الأمني والعسكري هو الاولوية الحكومية الاولى، فقد طغى ذلك النوع من الإنفاق على أولويات الموازنات العامة للبلاد مما أسهم بعرقلة اعادة بناء الكثير من البنى التحتية والتي رُكِنَ الانفاق عليها الى آخر سلم الاولويات عند تخصيص الموارد المالية للحكومة. لقد برزت الاهمية البالغة للتوسع بالإنفاق الأمني والعسكري، وبشكل جلي، عند محاولة الحكومة قبل حوالي الشهر تمرير مشروع الموازنة التكميلية التي كان سيبلغ إنفاقها لبقية العام الحالي 10 مليارات دولار اخرى اغلبها كانت ستُوجًه لخلق 40 الف وظيفة حكومية جديدة، منها 60 % او 24 الف وظيفة للجيش والشرطة. وقد اتى ذلك التوجه، والذي فشل في مجلس النواب، قبل لجوء رئيس مجلس الوزراء ثانية الى المجلس طالباً هذه المرة إقرار مشروعه للبنى التحتية الذي اخبرنا بانه سيُنَفًذ من خلال تعاقدات بطريقة التمويل بالآجل مع “شركات عالمية رصينة” وذلك لبناء اعداد قيل انها هائلة من المساكن والمدارس وغيرها وذلك بعد إخفاق الكثير من الوعود المقطوعة ضمن السياسات الحالية في تحقيق تنمية كفوءة وسريعة خارج قطاع استخراج النفط. وأطل علينا السيد وزير التخطيط المحترم بخلفيته الاكاديمية القانونية، ليُبشٍر المحرومين من العراقيين بخبر مذهل مفاده أن شركة صينية ( تنوي التعاقد بالآجل وبشروط مجزية دون شك؟) اخبرت العراق بانها تستطيع بناء 2 مليون وحدة سكنية ب 6 أشهر فقط لا غير!![3] وجاء هذا التصريح المثير ليضيف قلقاً لدى المختصين منا حول ما يُطرح، فمثل هذا الوعد المثير حقاً غير قابل للتحقيق من الناحية العملية إلا إذا كانت هذه المليوني دار بيوتاً من ورق كما أن بناء المساكن، مهما كان نوعها ومواصفاتها، لن يُجدي كثيراً ما لم تكتمل مستلزمات بناء وتوسيع الخدمات الملازمة للحياة الاجتماعية والصحية فيها من انابيب للمياه وطاقات إضافية لتنقية مياه الشرب ومجاري للصرف الصحي ترتبط بمحطات قادرة على تكرير مياه المجاري قبل رميها – كما يحدث الآن- في انهارنا. ولن يكتمل بناء الاحياء السكنية اللازمة لمليوني وحدة سكنية إضافية (خلال 6 اشهر بالطبع؟؟) دون ربطها بأسلاك للطاقة الكهربائية، والذي سيتطلب إنجاز الوعود التي طال إنتظارها في توسيع طاقات التوليد. وإذا ما كانت هذه المليونين وحدة سيبنى الكثير منها في المدن كما نتوقع، فهل ستبنيها الشركة الصينية العتيدة خلال هذه الفترة المبهجة والمثيرة للآمال الوردية دون شبكات طرق وبلا مدارس للاطفال والشباب وبدون مراكز صحية ومستشفيات وبدون حدائق للترفيه عن المواطنين؟ وكم سيستغرق بناء هذه المرافق؟
أسئلة كثيرة دون شك هذه التي يطرحها المختصون على سياسيينا المتفائلين دوماً بالانجازات السريعة للشركات العالمية العملاقة؟؟ والتي نتوقع أن تكون كلفها للاقتصاد العراقي متناسبة تناسباً عكسياً ً مع قِصَرِ الزمن الموعود به للإنجاز وطردياً مع آمال مفتقرة للواقعية بتحقق إنجازات قياسية تحرق الزمن!!
إن السعي الحثيث لتمرير القانون المشار اليه بسرعة “وبالصدمة المفرحة للمحرومين من المساكن” سيُفضي الى تسهيل الاستدانة الحكومية من اسواق المال العالمية، وبنطاق واسع فعلاً. ومن الجدير ذكره هنا أن ما سبق وان طرحته الحكومة ضمن مسودة قانون الموازنة التكميلية الذي افشله البرلمان قبل شهر واحد فقط كان بحدود 10 مليار دولار من الانفاق الاضافي لهذا العام. وكانت الحكومة تبغي إنفاق معظم هذا الاخير على التوسع بالاجهزة الامنية كما ذكرنا فيما سلف.
وبرأيي المتواضع، فأنه سيكون افضل من كل هذا الجدل السياسي قبل الانتخابات القادمة أن تقوم حكومتنا الموقرة بأطيافها المختلفة بتقديم قانون لانشاء صندوق لاعمار وادامة البنى التحتية ترصد له هذا العام فائض ما سيتبقى من ال 10 مليار دولار هذه ومن ثم تقوم بعد ثلاثة اشهر، اي في 1 كانون الثاني القادم برصد قرابة 15مليار دولار اخرى من الموازنة العامة لعام 2013 (بعد ترشيد الانفاق فيها) ليصبح رأسمال الصندوق المشار اليه 25 مليار دولار سيُمَكٍنَ الحكومة من الشروع بالتعاقد على انشاء الكثير من البنى التحتية بالحد الادنى من الديون (بالآجل). ولا شك هنا أن هذا المبلغ الاولي غير قليل للتعاقد مع الشركات (الرصينة) التي ستطلب قيام الحكومة، وبضمانتها السيادية، بتسديد دفعة اولية عادة ما تكون بنسبة 10% من اجمالي العقد. ولما كانت معظم المشاريع قابلة للتنفيذ بسنوات قد تتراوح بين سنتين الى 5 سنوات، فأن الاستمرار برفد الصندوق المقترح ب 15 مليار دولار اخرى عام 2014 سيرفع رأسماله المدفوع الى حوالي ال 40 مليار دولار المطلوبة حالياً من الحكومة بمشروعها ودون إقتراض مكلف من الخارج. وفي حال انخفاض عوائد النفط في السنوات القادمة إذا ما إرتجًتْ الاسعار كما حصل عام 2009، ففي الجهاز المصرفي العراقي بشقيه الخاص والعام (كمصرف الرافدين ومصرف الرشيد التابعين لوزارة المالية والمصرف العراقي للتجارة التابع لمجلس الوزراء) ودائع مالية ضخمة وسيولة عالية تتيح للحكومة الاقتراض الميسًر لانشاء بنانا التحتية. كذلك، وكما اشار الدكتور بارق شبر ضمن مداولات شبكة الاقتصاديين العراقيين،[4] فبإمكان الدولة عبر هذا الصندوق المقترح، وبضمانة وزارة المالية،إصدار سندات للتنمية وبيعها للمواطنين. وهذا الخيار الاخير مفيد جداً لأن مثل هذه السندات الخاصة بإعادة الإعمار ستمتص نسبة غير قليلة من السيولة الكبيرة الموجودة حالياً بأيدي الكثيرين كي تحد من توسع الانفاق الخاص. والتوسع السريع بالانفاق، سواء كان هذا خاصاً او عاماً، سيحفز ،ولا بد، الميول التضخمية في الاقتصاد العراقي ومن الضروري التهيؤ من الآن، وبهذه الطريقة من بين طرق اخرى، لتخفيف معدلات التضخم عبر سحب السيولة وتوجيه الادخارات في المصارف،إضافة الى المال المكتنز في البيوت، نحو مسارب الاستثمار التنموي.
لن تعطي شركات الدفع بالآجل، الرصينة منها وغير الرصينة معاً، العراق قروضها المؤمل بها بشروط ميسًرة إن رأت منه دولة تتصرف وكأنها قد اعلنت افلاسها. إن أسواق المال العالمية التي ستذهب اليها شركات الدفع بالآجل هذه هي التي ستوفر، وبشكل غير مباشر، النسب الكبرى من هذه القروض بالآجل والتي ستمول أعمال هذه الشركات مما يعني أن شروط إقراضنا الذي صارت الحكومة تأمل به كثيراً ستتناسب والسمعة المالية لإقتصادنا. وهذه السمعة، إضافة الى القلق الأمني ومشاكل الفساد في الإدارات الحكومية هي التي ستحدد لهذه المصارف والشركات درجة المخاطرة عند الاقراض. وفي حال عدم وجود رديف مالي محلي ملحوظ، كالذي نقترحه هنا في صندوق إعمار وإدامة البنى التحتية، فأن هذه الشركات ستطلب من العراق رهن ثروته النفطية كضمان للدفع المستقبلي وهو امر خطير سينبغي تلافيه في كل حال من الاحوال، او أنها ستلجأ لرفع اسعار الفائدة على قروض الدفع بالآجل لتعكس عامل المخاطرة الاكبر. من ناحية أخرى، قد تلجأ بعض الشركات ايضاً الى رفع اسعار تعاقداتها إن لم تستطع رفع اسعار الفائدة لسبب او آخر. ,بالطبع، فإن اسعار وكلف التعاقد هذه ستتأثر بقدرات المفاوض العراقي ومدى تأهبه ودراسته الفنية والاقتصادية التفصيلية للمشاريع المنوي إقامتها كما ستتأثر بدرجة المنافسة واسلوب إرساء العطاءات فكلما زاد عدد الشركات المتنافسة في أي عطاء كلما إستطاع المفاوض العراقي أن يحصل على شروط افضل. بالتالي، سينبغي للعراق عدم استخدام اسلوب التعاقد المباشر دون عطاءات تنافسية إذ سيكون ذلك باباً لفرض هذه الشركات الكبرى قدراتها في الاحتكار علينا. وإذا ما حدث ذلك بسبب التعاقد المباشر هذا، فستحصل هذه الشركات على ارباح احتكارية وفيرة على حساب العراق.
لقد جرب العراق في الثمانينيات من القرن الماضي طريقة الدفع بالآجل هذه عند بناء صناعاته العسكرية واحتمالا بجهود طاقم وظيفي حكومي لا زال مؤثٍراً بقرارات الحكومة لحد هذا اليوم وهو قد يكون نفس الطاقم الذي يميل اكثر لسلوك الدولة لطريقة الدفع بالآجل التي شرحنا مثالبها. وقد سلك العراق نفس هذا الطريق في بناء صناعاته العسكرية بثمانينيات القرن الفائت وكانت النتيجة ديوناً دفعناها من افواه الجيل الحالي والاجيال القادمة.
إذن، علينا اولاً وقبل كل شيء الشروع بإعداد قانون إنشاء صندوق إعمار البنى التحتية وصيانتها ليتبع ذلك إنشاء هذا الصندوق ورفده بالاموال من موازنات العراق السنوية كما من المصارف العراقية والسندات التنموية اولاً وفي نفس الوقت إعداد الدراسات الجادة والتفصيلية لاولويات برنامج اعادة اعمار البنى التحتية وبدراسات هندسية واقتصادية مهنية ومستفيضة بغية تفادي الاخطاء المكلفة في الكلف والتعاقدات، إذ ان الشركات التي سيتم التعاقد معها ستبحث عن مصالحها في الربح الوفير قبل ان تسعى لبناء بنيتنا التحتية بأفضل وأسرع السبل الممكنة وكلما كان إستعدادنا أضعف، كلما زاد ربحهم وقل مردود العراق من هذه البنى التحتية التي يأمل منها العراقيون رجاءً معقوداً.
ولما كنت غير متيقن ان هذه الدراسات المبتغاة قد تمت من جانبنا قبل اللجوء الاستثنائي للحكومة، والذي جاء بصفحتين فقط، لعرض مسودة القانون المشار اليه على مجلس النواب، فانني أتحفظ، كإقتصادي عراقي، على سرعة هذا الطرح وعجالته المفرطة وافتقاره الى موارد مالية تخصص من الموازنات العامة للبلاد الامر الذي سيدخلنا بديون اجنبية لا حاجة ماسة اليها بعد الوفرة التي وثًقناها رقمياً لصادرات البترول وموارد الدولة. ما هو مطلوب الآن وفي الموازنة القادمة هو استخدام هذه الموارد بحصافة وتخصيص نسبة ملحوظة منها للاستثمار ببنى العراق التحتية وصيانتها
ملاحظة: اشكر الدكتور زيد حبة والدكتور كامل مهدي على ملاحظاتهما القيمة على اصل هذه الورقة
شبكة الإقتصاديين العراقيين - 20 ايلول 2012
[1] الارقام محتسبة من ارقام منظمة الاوبك والتي تكون عادة معتمدة على تقارير رسمية من البلدان الاعضاء
راجع OPEC Annual Statistical Bulletin 2012, Table 2.14
[2] محتسبة من ارقام وزارة النفط http://www.oil.gov.iq
[3] راجع“قانـون البنى التحتيـة يحقق قفزة نوعيـة في 7 قطاعات خدميـة.. عرض لبناء مليوني وحدة سكنية خلال 6 اشهر” http://www.alakhbaar.org/home/2012/9/135605.html
والمنشور يوم الاثنين 17 سبتمبر (ايلول) 2012
[4] “رد الدكتور بارق شبر على مداخلة السيد لؤي الخطيب في باب “جدل حول قانون البنى التحتية”" www.iraqieconomist.net راجع
22/5/13128
https://telegram.me/buratha