دول أوروبا وخاصة التي شهدت احتلالاً تركياً لها في القرن الثالث عشر ظلت تشتغل تركيا وتفرض عليها حصاراً ثقافياً واقتصادياً من داخل الذاكرة الأوروبية التي مازالت حتى اليوم تستدعي مشاهد من نمط الاسلام التركي الذي فرض بالقوة وبلغ حتى وسط أوروبا الى درجة أصبحت عدد المساجد أكثر من عدد الكنائس في بعض الدول مثل بلغاريا والنمسا غير أن الأمر لم يدم طويلاً، فسرعان ما انتهى بثورات شعبية عارمة، أخذت منحى الدفاع عن الهوية والكينونة والإرث الثقافي والحضاري للشعوب الأوروبية.
الوالي والقائد التركي وحاشيته لم يتعامل على أساس أنه في مجتمع مغاير ومختلف، ولم يقدم نفسه كوافد متحضر ومتعايش وحامل لمشروع حضاري كي يواكب النهضة العلمية والمعرفية التي كانت قد بزغ نورها في جميع أنحاء أوروبا، وإنما قدم نفسه كرجل عسكري وتقليدي باحث عن أهوائه وملذاته، حتى قصر السلطان وحريم السلطان وحكاية ألف ليلة وليلة ومختلف المظاهر المرتبطة بالقصر السلطاني في الاستانة، تم استنساخها ومماثلتها في هذه المجتمعات الجديدة لكن بالسبي والتطويع المذل والقاهر.
وبالطبع فإن الوالي التركي الذي بسط نفوذه بالقوة حتى وسط أوروبا لم تكن المسألة لديه دينية محضة- كما جاولت بعض كتب التاريخ أن تسمي هذا التمدد باتجاه الغرب بالفتوحات الاسلامية وتأسيس دولة الخلافة الاسلامية- بل كانت المسألة عسكرية في إطار مشروع الامبراطورية العثمانية وهو حلم ومشروع خاص يمتد الى ما قبل الدولة السلجوقية، لذا لم يتم تقديم الدين الاسلامي باعتباره دين حضارة وتعايش وديناً يحمل الكثير من قيم الحرية والعدالة واحترام عقل الانسان وكرامته، وإنما تم تقديم نمط اسلامي محمل بالكثير من الخرافات والغيبيات وبازدراء المرأة والحط من كرامتها وإنسانيتها وتم فرضه بالقوة وبعقلية المنتصر والغالب وبما يتوافق مع أهواء ورغبات الحاكم التركي ونمط حياته ومعيشته
من هنا ارتبط الاسلام والحاكم التركي في أذهان وذاكرة هذه الشعوب بالممارسات القمعية وسوء الإدارة وفسادها وبالقصر السلطاني وحريم السلطان والأديرة والكنائس التي أُوصدت أبوابها بالسلاسل والأغلال.
الاحتلال العثماني لبعض الدول الأوروبية استمر طويلاً لأكثر من أربعمائة سنة الا أنه في نهاية المطاف عاد الى أدراجه عليلاً أمام اتساع الثورات الشعبية ليس فقط في أوروبا وإنما ايضاً في البلدان العربية، ولم يلبث طويلاً، فسرعان ما تحول الى رجل مريض تتقاسم تركته الدول الكبرى.
غادر العثمانيون أوروبا الا أنه لم يغادر ذاكرة هذه الشعوب المحتلة، التي مازالت حتى اليوم تختزل هواجس ومخاوف تلك الفترة، ومازالت تستدعي الصورة التي خلفها الاحتلال في أذهانهم على الوالي التركي المتصابي وفساد جيوشه وقسوتهم وانتهاكاتهم للحرمات والمقدسات، عن الطربوش والحمامات التركية التي توارثوا كرهها حتى اليوم، عن الثقافة المغايرة التي كرسوها وفرضوها بالقوة، والقائمة على الخرافة والتراقي واحتقار المرأة، وتطويعهم للدين لشرعنة كل هذه المظاهر والممارسات.
إن الذاكرة المختزلة لمشاهد وروايات القهر والإذلال لا تغفر ولاتسامح، فالذاكرة الجمعية لهذه الشعوب مازالت تتوارث حكاية ضريبة اللحم الحي، التي كانت تدفع من فلذات الأكباد عندما كانت الجيوش التركية تداهم الأسر في منازلها وتقوم باختطاف الاطفال الرضع وإرسالهم الى الأناضول، وهناك تُطمس أسماؤهم وشخصياتهم ويربون حتى يكونوا ضمن الطبقة العسكرية المحاربة «الانكشارية» التي تحمل راية الهلال المعكوف.
كما أن مدينة مثل صوفيا «عاصمة بلغاريا اليوم» التي صار فيها عدد الكنائس والأديرة بعدد الأصابع مقابل آلاف المساجد، وصار أكثر من 80% من سكانها مسلمين كي يهربوا أو يفلتوا من الضرائب والأتاوات ويتجنبوا الكثير من الممارسات المنتهكة لحرياتهم وكرامتهم، هاهي اليوم مساجدها بعدد الأصابع ومسلموها أقلية لا تُذكر، وبذلك ليس من اللائق أن تحكي عن فردوس مفقود أو أندلس أخرى.
الذاكرة لا ترحم ولا تسامح، وهو ما يفسر اليوم حالة الرفض الشعبية المناهضة لانضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي رغم أنها تمتلك كل المقومات التي تؤهلها لأن تكون عضواً فاعلاً في الاتحاد الأوروبي.
في المقابل ها هي تركيا اليوم التي وجدت نفسها إزاء أحداث عربية عارمة أخذت مسمى «ثورات الربيع العربي» لم تحاول أن تحيد مواقفها وأن تتجنب التدخل في شؤون البلدان العربية وعدم مجاراة المشاريع والأجندة التي تعصف بالمنطقة وتدمر كيانها وتماسكها وإنما انغمست ضمن هذه المشاريع التآمرية وأخذت تشتغلنا نحن العرب ولكن من داخل ذاكرتها وهي الذاكرة المكسرة و المغرورة التي مازالت تستدعي أوهام الباب العالي وحلم الخلافة الاسلامية عندما وجدت أن الفاعلين الرئيسيين في هذه الاحداث العربية الفوضوية هم تيار الاسلام السياسي والجماعات الاسلامية المتطرفة والارهابية،
لكنه اليوم هو الحلم المهادن والمتصالح مع الكيان الصهيوني والحلم البرغماتي والانتهازي والمنفذ لأجندة ومصالح الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا، كنا نعتقد أن خط المشروع الاسلامي لحزب الرفاه التركي هو النموذج الاسلامي المعاصر الذي بإمكانه أن يجعل الأمة تتجاوز تخلفها، وتتخطى دائرة التخندق والجمود باسم الدين خلف المشاريع التعصبية والتفكيكية لوحدة الأمة، كي تواكبه اللحظة الحضارية والعلمية الراهنة، لكننا لم نكن نحسب حساب الذاكرة المغرورة وحساب التحالفات والمصالح البراغماتية التي ليس لها علاقة بالدين ولا بالقيم والحقوق الانسانية ولا بقيم الجوار والمعاهدات بين الدول.
ها هي تطعن سوريا من الخلف طعنات غادرة ولئيمة.. ها هي تشارك في تدميرها باسم الحرية والديمقراطية والثورة المتجردة من كل القيم والمبادئ، ها هي تحتضن القتلة والمرتزقة والمجرمين من تنظيم القاعدة وتقوم بتدريبهم وتزويدهم بالسلاح وإرسالهم للالتحاق بما يسمى «جبهة النصرة» كي يدمروا ويفخخوا داخل سوريا، ويعلّموا الأطفال كيف يمارسون التصفيات الجماعية والاعدامات بالسيوف، انهم الانكشارية الجدد لتركيا أردوغان الذين تسللوا من الكهنوت والأنفاق والصحراء القاحلة على عربة قطرية كي يمارسوا الجريمة الثورية باسم الله وتحت راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وها هي أيضاً تركيا أردوغان تغرق اليمن بالأسلحة المهربة وبالقناصات والمسدسات كاتمات الصوت والتي بسببها صارت الجريمة المنظمة تُرتكب بشكل يومي في حاراتنا وطرقاتنا حتى داخل غرف النوم، ومازالت الصفقات التركية مستمرة، بينما السفير التركي في صنعاء ينفي ثم ينفي وعندما لم يجد أن النفي أصبح لائقاً يعترف بوجود ورش للتصنيع ويعترف بإلقاء القبض على بعض المتورطين، إلا أن الصفقات مازالت مستمرة لأن الذاكرة المغرورة مازالت تشتغل ومازالت تستدعي أحلام الباب العالي لكن بانتهازية ودونما حساب لحركة التاريخ ومتغيرات مئات من السنين.
18/5/13114
https://telegram.me/buratha