إن الذي يقرأ حياة الإمام الصادق (عليه السلام) يرى أن له المرجعية العلمية في كل العلوم ، فهو بحر زاخر متلاطم الأمواج ، بعيد المدى ، لا يسبر غوره أحد ، تطفح ضفتاه بالجواهر من العلوم الربانية، التي أضفت أشعتها على جميع المعمورة من يومه إلى يومنا هذا.
ولقد شهد له العلماء بذلك، فقال الإمام أبو حنيفة النعمان: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد، لمّا أقدمه المنصور الحيرة، بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له من مسائلك تلك الصعاب، قال فهيّأتُ له أربعين مسألة ثم بعث إليّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة فدخلتُ عليه، وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرتُ بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلمتُ وأذِن لي، فجلستُ ثم التفت إلى جعفر، فقال يا أبا عبد الله تعرف هذا، قال نعم، هذا أبو حنيفة ثم أتبعها قد أتانا.
ثم قال: يا أبا حنيفة هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله وابتدأت أسأله وكان يقول في المسألة أنتم تقولون فيها كذا وكذا وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعاً حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخبرت منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس » .
وقال: «لو لا السنتان لهلك النعمان» .
وقال الحافظ شمس الدين محمد بن محمّد الجزري: «وثبتَ عندنا أنّ كلاً من الإمام مالك، وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى، صحب الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق حتى قال أبو حنيفة: ما رأيت أفقه منه، وقد دخلني منه من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور»
وقال الإمام مالك بن أنس: «ولقد كنتُ أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسّم فإذا ذُكِرَ عنده النبيّ صلى الله عليه وسلّم اصفرَّ، وما رأيته يُحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلاّ على طهارة، ولقد اختلفتُ إليه زماناً، فما كنت أراه إلاّ على ثلاث خصال إما مصلياً وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه وكان من العلماء والعبّاد الذين يخشون الله عزّ وجلّ» .
وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: في رسائله عند ذكر الجواب عمّا فخرت بهِ بنو أُميّة على بني هاشم، ما نصّه: «فأما الفقه والعلم والتفسير والتأويل، فإن ماذكرتموه لم يكن لكم فيه أحد وكان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب... وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه. ويُقال إنّ أبا حنيفة مِن تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب...» .
ولقد امتاز الإمام الصادق (عليه السلام) بإحاطته بجميع العلوم ودقته في تفرعها والمعرفة بها بشكل كامل. ولم تكن علومه (عليه السلام) لتقف عند حدود المعارف الإسلامية الخاصة بل هناك الكثير من العلوم الأخرى ، التي تتعلق بقضايا الكون والطبيعيات والطب والكيمياء وغيرها .
ولم يكن مرجعاً وإماماً في علم من العلوم ، فإن أبا حنيفة كان أماماً ، ولكن في الفقه ، وأن البخاري كان أماماً ولكن في الحديث وهكذا ، ولكن الإمام الصادق (عليه السلام) كان أماماً ومرجعاً في جميع العلوم ففي علم التفسير: وهو العلم الذي يبحث فيه عن مداليل آيات الكتاب العزيز ومقاصدها ، وهو من أشرف العلوم وأفضلها وأعلاها شأنا وأكثرها نفعا، وما نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام ) من التفسير كثير، ولعل ما ضاع منه فيما ضاع من الكتب والأصول أكثر، كما إن الكثيرين من تلامذته صنفوا من رواياته في التفسير كتباً مستقلة كهشام بن سالم، وإن كان لم يصلنا من تلك الكتب إلا روايات متفرقة في بطون كتب الأخبار .
وقال فيه محمّد بن طلحة الشافعي: في باب التفسير في كتابه «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول»: «هو من عظماء أهل البيت وساداتهم عليهم السلام ذو علوم جمة، وعبادة موفرة، وأوراد متواصلة، وزهادة بينة، وتلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن، ويستخرج من بحر جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات، بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تُذكر الآخرة، واستماع كلامه يُزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنة، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوة، وطهارة أفعاله تصدع أنّه من ذريّة الرسالة.
نقل عنه الحديث، واستفاد منه العلم جماعة من الأئمة وأعلامهم مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوري، وابن عيينة، وشعبة، وأيوب السجستاني وغيرهم (رض) وعدّوا أخذهم عنه منقبة شُرِّفوا بها وفضيلة اكتسبوها» .
وأما علم الكلام: وهو العلم الذي يبحث عن الوجود والوحدانية والصفات ، وما يلزم هذه المباحث من نبوة وإمامة ومعاد ، بالأدلة العقلية التي تقوم على الأسس المنطقية السليمة ، وقد كان له (عليه السلام) نشاطات بارزة في هذا المجال ، مما جعله وجهة المتكلمين وأصحاب الآراء والمقالات والزنادقة ، يغدون إليه طلبا للحق أو الجدل وتوحيد المفضل الذي ورد عنه خير دليل على إحاطته بهذا الجانب .
وأما علم الفقه والتشريع: وهو العلم الذي يبحث فيه عن الأحكام الشرعية الفرعية التي تتعلق بأفعال المكلفين أفرادا وجماعات . وهو أوسع العلوم اهتماماً وكان للإمام فيه باع كبير ، باعتباره يمثل الالتزامات العملية التي يتقوم بها نظام الحياة العامة والخاصة ، وتنظيم الارتباطات القانونية الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وغيرها مما يحتاج إليه في استقرار النظام العام . ويعتبر الإمام الصادق (عليه السلام) المعلم الأوحد في هذا المجال ، وقد تخرج الكثيرون من أئمة الفقه الإسلامي على الإمام كأبي حنيفة ، ومالك ، وسفيان ، ويحيى بن سعيد وغيرهم من أعلام الأمة ، وأمثال زرارة بن أعين ، ومحمد بن أبي عمير ، وليث المرادي ، وجميل بن دراج ، ومحمد بن مسلم ، وغيرهم من أعلام الشيعة ، وقد كتبت عنه في هذا العلم آلاف من الكتب والمؤلفات ، ولم ينقل في الفقه والتشريع عن أحد كما نقل عن الإمام الصادق من كتاب الطهارة وحتى الديات .
قال فيه الجاحظ: عند تطرقه لذكر الإمام الباقر (عليه السلام) ما نصه: «وهو سيّد فقهاء الحجاز ومنه ومن ابنه جعفر تعلّم الناس الفقه» وقال شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي: في «تذكرة الحفّاظ»: ( وعن أبي حنيفة قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد .). وقال في «سير أعلام النبلاء»: عند ذكره للإمام الصادق (عليه السلام): «جعفر الصادق: كبير الشأن، من أئمة العلم ...).
وأما علم الأصول: وهو العلم الذي يبحث القواعد الأصولية في استنباط الإحكام الشرعية فقد نبع من الإمام الصادق (عليه السلام) وقد أفرد بعض مباحثه بالتصنيف من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) شيخ المتكلمين هشام بن الحكم ، فقد صنف كتاباً في مباحث الألفاظ ، وهي أهم مباحث هذا العلم . وقد حفلت كتب الحديث بالأخبار التي تحدد كثيرا من قواعد الحديث ومبانيه ، وقد جعلها الكثير من العلماء مدركاً لحجيتها ، كقاعدة الاستصحاب والبراءة الشرعية ومسألة التعادل والتراجيح في مقام تعارض الأخبار، وغير ذلك من القواعد التي اعتمدها العلماء في مقام استنباط الأحكام وحرروها في كتب الأصول.
وقد تعرض الإمام أيضاً في بعض ما ورد عنه من أحاديث ، لنقد بعض المسائل الأصولية التي اعتمدها الآخرون في استنباطاتها كمسألة القياس والاستحسان ، وغيرهما مما اعتمدته مدرسة الرأي التي حرص الإمام على اتخاذ موقف صريح في نقدها وتهديم أسسها .
وأما علم الأخلاق: وهو العلم الذي يبحث عن خصائص السلوك وآداب السيرة ، من تهذيب النفس وصقلها شخصياً ، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) الكثير من الكلمات التي تتضمن مكارم الأخلاق وروائع الآداب التي كان يخاطب بها أصحابه ورواد مدرسته ، وكثيراً ما كان يخاطب أصحابه بقوله: كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا حتى يقولوا: رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدب أصحابه .
وأما علم الطب: وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) الكثير من التعاليم الطبية والآداب الصحية ، وقد جمع بعض علماء السلف شيئا كثيرا من كلامه وكلام غيره من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) في ذلك وأسماه طب الأئمة ، كما جمع بعضهم ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) من تعاليم طبية كان يلقي بها لسائليه ، في رسالة أسماها طب الإمام الصادق ) .
وأما علم الكيمياء: وهي علوم علمها الإمام الصادق (عليه السلام) لجابر بن حيان ، العالم الكيميائي الذي تعتبر رسائله ومؤلفاته وما احتوته من نظريات وآراء وتطبيقات ، وهي من أهم مصادر هذا العلم وحتى عصرنا الحديث .
قال أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان: كتابه «وفيات الأعيان»: «أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، أحد الأئمة ألاثني عشر على مذهب الأمامية، وكان من سادات أهل البيت، ولُقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يُذكر. وله كلام في صناعة الكيمياء والزجر والفأل وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيان الصوفي الطرسوسي قد ألّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة...) .
هذا هو جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) الذي لم يعرفه الكثير من الناس، ولكن عرفه العلماء والمفكرين من مختلف المذاهب وأقر بعلمه العلماء وأصحاب المذاهب، فعلى المسلمين اليوم أن يعودوا إلى المنبع الرئيسي الصافي والمرجعية التي لها القدرة على الإحاطة بجميع العلوم.
1/5/1001ـ تح/ علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha